23 ديسمبر، 2024 2:02 م

بين شاعرين: ابن مَعْصوم والحَبُّوبي – 1

بين شاعرين: ابن مَعْصوم والحَبُّوبي – 1

المقارنة بين الشعراء هي في جوهرها مقارنة بين أشعارهم، وتمتد جذورها الى ما اصطُلِح عليه بالشعر الجاهلي، وهو بتعبير أدق شعر ما قبل الإسلام، ويقدر مؤرخو الأدب بأنه يمتد نحو مائة سنة قبل بزوغ الدعوة المحمدية… يوم كانت أسواق العرب وأشهرها طراً سوق عكاظ في مكة ملتقى العرب يؤمونها من كل فج عميق سنويا من نواحي الجزيرة العربية، وحتى من الحيرة للطواف في الكعبة و للتسوق وللإستماع للخُطب والأشعار، وهي موئل للتصالح والتعاهد والتحالف بين القبائل العربية. وحيث كان الحكماء يبتون في الخصومات بين القبائل كان هناك من أصحاب الدراية والخبرة يحكمون بين الشعراء ويفاضلون بينهم ولا بد أن يكون هؤلاء المحكمون من الشعراء بل من المبرزين منهم، فقد ورد في مصادر الشعر التاريخية ” أن النابغة الذبياني كانت تُضرب له قبة حمراء من جلد فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها ليفصل القول فيهم…” 1 وقد حكم للأعشى أولا ثم لحسان بن ثابت ثم للخنساء.

ومع توالي العصور وتطور الشعر وانتقاله من شعر الفطرة معتمدا على جزالة اللفظ وحسن التشبيب والوصف والإخبار الى اغتنائه بالأفكار والتراكيب البلاغية وتأثره بالتطور الهائل في علوم اللغة والنحو والشعر والبلاغة والتعمق في دراسة مرويات الشعر العربي وتمحيصها والتاثر بآداب الشعوب الأخرى وفلسفاتها، في القرنين الثالث والرابع الهجريين لتنتقل المقارنة بين الشعراء من المفاضلة المحكومة بالفطرة والذوق العربي الى مجالات أرحب من الدراسات التي عرفت بالموازنة، وإلى دراسات بين القدماء والمحدثين، ولتنبثق أطروحات جديدة انشغل بها النقاد دهرا ومازالوا مثل الخصومات في الشعر بين المطبوع والمصنوع، وبين الجديد والقديم وبين محاسن الشعر ومساوئه وكذلك انفتح باب جديد وهو سرقات الشعراء والمنحول من الشعر…وقد تمخض عن هذا الفيض من الكتب التي عالجت الشعر اتجاهات نقدية أثْرَتِ الشعر والنقد وأسست لنوع من الدراسات النقدية المقارِنة بين الشعراء ولعل أشهر كتاب في ذلك هو كتاب “الموازنة بين الطائيين”2 للآمدي بل خطا النقد في القرن الرابع الى نقد النقد كما في نقد الآمدي في كتابه ” تبيين غلط قدامة بن جعفر في كتاب نقد الشعر”3.

تراجعت الدراسات المقارنة بين الشعراء في العصر الحديث وانتقل المصطلح من دائرته الواسعة التي هي أشمل وأدق من الموازنة الى دائرة أخرى وأعني بها الأدب المقارَن littérature comparée وهو علم كوني حديث كانت الريادة فيه للفرنسيين يعتمد المقارنة بين شاعر وشاعر أو اكثر من قوميات شتى وفق أرضية مشتركة، وليس هذا من موضوعنا،،،ومن المعاصرين الذين كتبوا في الموازنة قسطاكي الحمصي (1858-1941) في كتابه “منهل الوارد في علم الإنتقاد” بثلاثة أجزاء ، والدكتور زكي مبارك (1892-1952) في كتابه ” الموازنة بين الشعراء”؛ يذكر الاستاذ صادق الطريحي المقارنة الممتعة للدكتور جواد أحمد علوش – في بحثه عن شعراء الحلة – بين ” السنبسي والمتنبي فكلاهما جاء من أماكن قرب البادية ثم انتقلا الى الحواضر واتصلا بالأمراء، ثم اختلفا معهم وتنقلا الى

حواضر أخرى، وجاء شعرهما حافلا بمواقف بطولية…”4؛ بينما يُلمح المحقق الاستاذ شاكر هادي شكر في مقدمته لديوان الشاعر عبد الكريم الأزري5 الى لمحة عابرة لموازنة للاستاذ عبد الحميد الدجيلي (موازنة بين شاعرين) 6 .

***

وحيث أن شاعرينا قيد الدرس من الفترة ” المظلمة” ابن معصوم (1052-1119ه/1642-1707م)، والحبوبي (1266-1333ه)، فلنا أن نسأل هل كانت الفترة المظلمة حندسا؟7 يؤكد المحقِّبون والمؤرِّخون للأدب عموماً وللشعر خصوصاً أنها فترة ركود في شتى مناحي الحياة الثقافية والعلمية، إلا الناحية السياسية فقد غلب عليها الجور العثماني، والاضطهاد والحروب والأضطرابات، وكانت فترة اجترار للشعر ومحاكاة السلف تكاد تكون خالية من الإبداع، واعتمد الشعر على استغلال المناسابات في التهاني والتعازي والتكسب من المديح للحكام وأصحاب الجاه، وكذلك المدح النبوي ومدح آل بيت النبي، وكان الوصف رتيبا يشمل وصف الأدوات كالمروحة اليدوية والوسادة والطعام، والصور الشعرية مكررة والتزويق البديعي هو الغالب8، وطالما يعبر عن الألغاز والأحاجي؛ وللغزل ولا سيما بالمذكر منه نصيب..الخ، وأعتقد أن هذا الرأي لا يخلو من تعسف وظلم لأنه يذكر جزءً من الحقيقة، فقد برز شعراء كبار لعبوا دورا مهما في بث الروح في الشعر، وكان لهم مكانة كبيرة في إذكاء جذوة الشعر.

ففي القرن التاسع عشر انبثقت فورة شعرية مزدهرة، حيث تألقت في سماء العراق الداكنة نجوم شعرية، كان مركزها النجف والحلة وكربلاء وبغداد والبصرة والموصل، ولا شك أن للمدارس، والمعاهد الدينية، والانشطة الثقافية والمكانة الإجتماعية للشعراء دور مهم في نهضة الشعر في حواضر العراق.

بيد أن الدكتور علي الوردي يُضيف سببا يراه مهماً وهو ” أن داوود باشا كانت له اليد في ترويج الشعر، كما كانت للسيد مهدي بحر العلوم الذي تولى الزعامة الدينية في النجف يد أخرى. وقد ظهرت في بعض المدن العراقية أسر ذات جاه وثراء فأخذت تشجع الشعر وتمنح الجوائز المغرية فيه، كآل الجليلي بالموصل وآل كبة ببغداد وآل القزويني بالحلة وآل الرشتي بكربلاء وآل باش أعيان في البصرة، وآل السعدون بالمنتفق ورؤساء الخزاعل في الفرات الأوسط، وصار الشعراء يقصدونهم في الأفراح والأحزان ويلقون في دوواوينهم القصائد العصماء”9. ولا أجد كلام الدكتور الراحل الوردي دقيقاً في ما يتعلق بالنجف فالشعر حاضر فيها بثقل كبير قبل القرن التاسع عشر، والدليل ما هو مثبت في موسوعة “شعراء الغري” لعلي الخاقاني و” شعراء الطف” للسيد جواد شبر و”أعيان الشيعة” للعلامة محسن الأمين، وغيرها من المراجع.

ومن غير شاعرينا، لمعت بين زمنيهما أعلام شعرية نورد بعضا منها: الشيخ كاظم الأزري البغدادي10، (1246/1831- 1304ه/1887م)، وهو من المعِ الشعراء بعد ابن معصوم، له قصائد رائعة في الغزل وفي مديح آل البيت ومديح بعض الأعيان للتكسب مبرراً ذلك في قوله11:

نُذكِّرُ بالرِقاع إذا نُسينا – ونطلب حين تنسانا الكرامُ

لأن الأمَّ لم تُرضع فتاها – مع الإشفاق إن سكت الغُلامُ

ومن عرفانيات الأزري قصيدته العصماء:

أدرِ الزجاجة لا عدمتَ مُديرا – واسقِ الندامى نضرة وسرورا

أسوق هذا لأهميته، حيث أرى أن الشاعر كاظم الأزري يمثل نقلة هامة في شعر تلك الحقبة وهو الجسر بين ابن معصوم والحبوبي…

ولأجل أن تكتمل الصورة عن ملامح شعر هذه الحقبة لابد من التوقف هنيهة مع شاعر مهم من شعرائها هو عبد الغفار الأخرس البغدادي (1290/1810-1290ه/1872م)، فرغم طول باع الشاعر في الأغراض الشعرية لاسيما الغزل، إلا أنه شاعر التكسب والخرافة؛ فقال متكسبا في شعره مادحا عبد الغني آل جميل (المفتي)12:

أراني والخطوب إذا ألمّت – رجَعت الى جميل أبي جميلِ

كأن الله وكّلهُ برزقي – وحولني على نعم الوكيلِ

وقال أيضا فيه:

كفاني المهماتِ (عبد الغني) – وذلك من بعض أفضالهِ

فإن نلتُ مالاً فمن جاهه – وإن نلتُ جاهاً فمن مالهِ

والغريب أن المفتيَ الممدوح (أبو جميل) ردّ عليه وقد ضاق ذرعا بتكسبه وثقل ظلّه:

لقد طفت في شرق البلاد وغربها – وقاسيتُ في أسفارها كل شدّةِ

فلم أر إلا غادراً إثر غادرٍ – ولم أر إلا خائناً للمودةِ

وعن إشاعته للخرافة فقد فصلنا ذلك في مقال لنا 13 حيث وصف السيد أحمد الرفاعي الذي زار قبر النبي وعند القبر قال في مدحه شعرا ضمنه رغبته في أن يلثمَ يدَ جده:

في حالة البعد روحي كنتُ أرسلها – تقبّل الأرضَ عنّي وهي تائبتي

وهذه دولة الأشباح قد حضرت – فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي

فامتدت من شباك القبر يد لثمها الرفاعي فاهتز وجدان الأخرس بقصيدةٍ عصماءَ مما جاء فيها14:

إلى إحسان مولانا الرفاعي – بكشكول الرجاء مددت باعي

الى أن يقول:

تولّد من رسول الله شبل – به دانت له كل السباع

وقبّل كف والده جهاراً – غدت بالنور بادية الشعاع

وشاهدها الثقاتُ وكلُّ فرد – رآها بانفراد واجتماع

نكتفي بهذا القدر عن الشاعر عبد الغفار الأخرس.

أما الشاعر عبد الباقي العمري الموصلي (1204/1787-1278ه/1861م) ففي ديوانيه (الترياق الفاروقي) و (الباقيات الصالحات) اللذين قال فيهما أروع قصائد المديح في الرسول وآل بيته، وهاكم عيّنة مما قاله في علي بن أبي طالب14:

أنت العلي الذي فوق العُلا رُفعا – ببطن مكةَ وسط البيت إذ وُضعا

سمّتك أمُّك بنتُ الليثِ حيدرةً – أكرِم بلبوة ليثٍ أنجبت سبُعا

وأنتَ حيدرة الغاب الذي أسدُ – البرجِ السماويِّ عنه خاسئاً رجعا

وكنت أود التعريج على شعراء آخرين منهم الشاعر المهم هاشم الكعبي(1158/1745-1231ه/1815)15، الذي نحا في شعره الجزل الصافي المتين منحى الأقدمين؛ وكذلك الشاعر حيدر الحلي (1246/1831-1304ه/1887م)، ولكنني أتحاشى الإطالة؛ مكتفيا بهذا المدخل على أن أعود للشاعرين الكعبي والحلي في مجال آخر.

***

بين ابن معصوم والحبوبي رغم بعد المسافتين الزمانية (207 سنوات على وفاتيهما) والمكانية (الأول في حيدر آباد من الهند والثاني في النجف من العراق) الكثيرُ من المشتركات، فإضافة الى الشعر، نواحٍ متعددة من ناحية النسب، وكونهما رجلي فقه وكذلك في السيرة الحياتية من حيث ” الجهاد” وكذلك في ترحالهما في الجزيرة العربية وانتسابهما الى الحجاز أصلاً، ناهيك عن الخصائص الشعرية وما طرقاه من أغراض الشعر، وغير ذلك مما سنأتي عليه…

فكلاهما من أرومة علوية أولهما من الفرع الحسيني، فهو علي بن أحمد بن محمد معصوم الحسني الحسيني، المعروف بعلي خان بن ميرزا أحمد، الشهير بابن معصوم ينتهي نسبه الى الشهيد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب16؛ والثاني من الفرع الحسني، فهو محمد سعيد بن قاسم بن كاظم بن حسين بن حمزة بن مصطفي (الملقّب حبوبي) ينتهي النسب الى الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب.17

ولد ابنُ معصوم في المدينة المنورة في الخامس عشر من جمادي الأول 1052ه، سافر الى حيدرآباد من الهند عام 1068ه وأقام بها ثمانيَ وأربعين سنة، جعله ملكُ الهند أورانغ زيب ابن شاه جهان (باني تاج محل) من السلالة المغولية على ألف وثلاثمائة فارس، لقمع انتفاضات القبائل الهندوسيه، ومنحه (لقب خالد)، ثم ولاه مدينة لاهور وتوابعها من السند (باكستان الحالية)، ثم استقال ليؤدي فريضة الحج، وليقصد إيران لزيارة الأمام الرضا، ثم حط رحاله في أصفهان عام 1117ه مقيما بها ردحا من الزمن ، ومنها الى شيراز أرض أجداده حيث تفرغ فيهما للشعر والتأليف الى آخر عمره حيث قضى ودفن فيها عام 1119ه. وقد تنبأ برحيله، وكأني به في هذه الأبيات القليلة يرثي نفسه:

كل نجم سيعتريه أفولُ – وقصار سفرِ البقاء القفولُ

لاحقٌ إثر سابق والليالي – بالمقادير راحلاتٌ نُزولُ

والأمانيُّ كالمنايا وإن نا – زعَ غرًّ فالاشتقاقُ دليلُ

يا مصابا قد جرَّع القلبَ صاباً – كلُّ صبرِ إلا عليك جميلُ

ورغم أن هذه الابيات الاربعة مشبعة بروح الحكمة والتسليم بالقضاء والقدر، فإن البيت الأخير هو الذروة في ناحية التجنيس الناقص في “مصابا” و “صابا” حيث الأخيرة تعني السائل النباتي الأبيض المر الذي يسيل من بعض الاشجار، ويلمس المتمعنُ الجانبَ البلاغي وهو رد العجز على الصدر، كل هذا عمق الفكرة وأغنى الجانب الصوتي بوقع الصادات مع القافات على بحر الخفيف الذي أكسب هذه الأبيات موسيقى حزينة تتناسب مع فكرة الموت التي بنيت على لبنات “أفول” و ” قفول” و “نزول”، اضافة الى “المقادير” و”المنايا”…

دلّت مؤلفات ابن معصوم في الشعر والنثر18 على مكانته السامقة وأفقه المعرفي الواسع، الذي أغنته تجربته الحياتية والعلمية التي أعطت أكلها في ديوانه الشعري –تحقيق الديوان-، وله في البديعيات –راجع معنى البديعيات وابن حجة- كتاب ” أنوار الربيع في أنواع البديعه” وهي مطولة من مائة وسبع وأربعين بيتا نظمها في اثنتي عشرة ليلة وشرحها بنفسه، مما تدل على تمكنه الشعري وطول نفسه، طبعت في إيران سنة 1304ه؛ وله في شرح الصحيفة السجادية كتاب مطبوع مشهور ” رياض السالكين في شرح صحيفة سيد المالكين” أهداه للشاه حسين الصفوي، وفي النحو “الحدائق الندية في شرح الصمدية للبهائي، وفي النحو أيضا ” موضع الرشاد في شرح الإرشاد، وفي البلاغة له منظومة في علم البديع مع شرح له عليها، وفي اللغة ” الطراز الأول في ما عليه من لغة العرب المعول” الذي ظل يشتغل فيه حتى يوم وفاته، وله كتاب في سير الصحابة، وآخر في الادعية وفي التراجم له كتاب مطبوع في مصر” سلافة العصر في محاسن اعيان العصر” وجاء في بعض المصادر تحت عنوان ” سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر” وأظن أن العنوان الأول هو ألأصح لمافيه من مجانسة بلاغية بين عصر العنب وعصر الزمان! وفي أدب الرحلات له كتاب “سلوة الغريب وأسوة الأريب” أو “رحلة ابن معصوم” كتبه عن رحلته من مكة الى حيدرآباد سالفة الذكر وكان في عمر ستة عشر عاماً… ومن يُردِ الاستزادةَ فلٍيُراجع مقالة جامعة، وهي ” الآثار العلمية لابن معصوم المدني”، وكذلك غيرها من المؤلفات التي تربو على عشرين عنوانا بين مخطوط ومطبوع في شتى العلوم من النحو والفقه والسِّيَر، والبلاغة والمعاجم وأدب الرحلات، إضافة الى الشعر مما يعطي انطباعا بأنه عاش حياة جدية حافلة معطاء، ولا غرو في ذلك وهو القائل:

لو انصف الدهر دلتني غياهبُه – على العُلى بضياء العقل والحسبِ

ما ينفعُ المرء أحسابٌ بلا جِدَةٍ؟ – أليس ذا منتهى حظي وذاك أبي؟

أما الشاعر محمد سعيد الحبوبي فهو نجفي وأصوله البعيدة هي الأخرى حجازية من عائلة امتهنت التجارة وما زال فرع من الأرومة الحبوبية في الحجاز، ولد شاعرنا في النجف وعاش فيها معظم حياته طالب علم درس في معاهدها الدينة الفقه واللغة العربية وأدابها وشغف بالشعر منذ حداثته ونبغ فيه، سافر الى نجد وهو في عمر الخامسة عشرة الى حائل من نجد حيث تشتغل أسرته(أبوه وعمه) بالتجارة، وقرّ هناك ثلاث سنوات، ثم قفل راجعا الى النجف ليستأنف دراسته، لقد كان لرحلته هذه أثر كبير في شعره، الذي يلمح الدارس له الأماكن التي حل بها، وأزهارها ونباتاتها في الجزيرة العربية، زد على ذلك تلك السهولة والرقة والطابع البدوي الذي طبع شعره، وجعله متداولا من حافظة عشاق الشعر، فلا تخلو جلسة سمر في الشعر إلا ويكون لشعر الحبوبي فيها حصة الأسد فهو أنيس الجُلاّس سمّاراً ونَدامى… شعر الحبوبي تأنسُ له الإذن ويدخل القلب قبل الذاكرة – رغم أن صوره الشعرية في معظمها مكررة لا ابتداع فيها- لعدة أسباب: رقة الألفاظ التي تجمع بين السهولة والوضوح؛ الأصداء الموسيقية الغنية التي ترافق أشعاره؛ جمال الصور الشعرية التي يرسمها بريشة فنان لا سيما في الغزل والخمريات؛ أعاد للموشح ماء الحياة ونافس فيه الاندلسيين إن لم أقل بزّهم، إضافة لأسباب أخرى سنأتي عليها،،، فمن منا لم يتغنَ ب:

ياغزال الكرخ واوجدي عليك – كاد سرّي فيك أن ينهتكا

هذه الصهباء والكأس لديك – وغرامي في هواك احتنكا

فاسقني كأسا وخذ كأسا إليك – فلذيذُ العيش أن نشتركا

إن أسلوب الندب هنا مُعبَّرٌ عنه ب “وا وجدي عليك” أكسب الأبيات صدقا وإن شئت حرارة تقارب الصدق، ناهيك عن الخصائص الأخرى… ذاع صيت الشاعر الشاب في مدينة الشعر وفاق الشعراء في مدينة الشعر، وحدت بشعره الركبان في طول البلاد وعَرضها، وهو لمّا يزَلْ يدرس الفقه على أساتذة كبار، وكان منهم أستاذه الاثير الآخند الخراساني صاحب الكفاية ( محمد كاظم ت 1329ه)، الذي ضغط عليه ليبعده عن الشعر، فانصاع طائعا لأستاذه، وهجَر الشعرَ دون أن يهجرَهُ الشعرُ وهو دون سن الأربعين، وليته عصاه لأتحفنا بالمزيد من قريحته المتفجرة شعراً صافياً كالماء الزلال!

مع نزول القوات الإنكليزية البصرة لاحتلال العراق هب السيد الحبوبي مع من هب من رجال الدين للجهاد في محرم 1333ه رغم كبر سنه وسار على رأس المتطوعين من النجف الى الشعيبة لكن الأنكليز كانوا هم المتفوقون عدةً وعدداً، رجع الحبوبي الى الناصرية متعبا ثم فارق الحياة هناك ونقل ليدفن في إحدى غرف الصحن الحيدري، على شمال الخارج من باب القبلة.

كيف تعرفت على الشاعرين؟ منذ الدراسة الابتدائية كنت أسمع بالحبوبي وأسمع شعره يلقيه الوالد من حافظته التي تجود في ليالي الشتاء كلما وضع العقار أمامه كان يشدنا ذلك الشعر، الجميل، وفي البيت هناك ضمن المكتبة المتواضعة ديوان الحبوبي وقد بدا كتابا باليا غير جميل لكثرة الاستعمال في البيت وفي خارجه، كنت أقرأ الأشعار دون المقدمة الثقيلة على طالب لم يتجاوز السادس الابتدائي وكنت معجبا بهذا الشعر الخفيف اللطيف رغم لعض الصعوبات في كلمات مثل احتنكا والقرقف، والفدفد، كما كنت أحار في معنى بعض الابيات من قبيل:

فاحدُ بالركب إذا الركب حدا – وأقم يوما به ما أن أقامْ

يممن نجدا إذا ما أنجدا – وسلام لك من دار السلام

فلم أسبر غور المعنى البدوي بأن يلاحق المحبوب براحلته ركب من يحب، ولم يمر علي بعد قول الشاعر:

هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى – وإني وإياها لمختلفان

ولم أكن افقه الفعل أنجدا فلم أسمع بأفعال المكان! الا عند قراءتي للبيت:

إن تُتهمي فتهامة وطني – أو تُنجدي كان الهوى نجدُ

واستقر في ذهني انطباع فحواه أن الحبوبي من جيل الاقدمين كالمتنبي والمعري أو على الأقل من الاندلسيين…حتى إذا ما انتقلت الى النجف وفي ثانوية الخورنق شاركني المقعد زميل يتلقب بالحبوبي وكانت دهشتي شديدة أن يكون الحبوبي الشاعر عما لأبيه، بل وفي المدرسة ذاتها مدرس لم يدرسني هو الشاب الوسيم الانيق رشاد الحبوبي، وعند انتقالي الى إعدادية النجف درسني في الرابع العلمي الاستاذ جعفر الحبوبي، وعرفت أن في العائلة الحبوبية أكثر من شاعر، مثل الشاعر البارز محمود الحبوبي، والشاعر عبد الغني الحبوبي وعبد الغفار الحبوبي…

لم اسمع بابن معصوم قط، حتى كنت مدرسا في إحدى المدارس التابعة للنجف، زارنا في متوسطة الفدائي مدقق من مديرية التربية وفي جلسة معه بحضور الاستاذ الراحل الشيخ الفاضل عبد الأمير الجباري فتح موضوع الشعر وإذا بالأستاذ المدقق يتحدث بحديث العارف عن الشعر ويذكر أبياتاً لم نسمعها من قبل وعند سؤالنا عن الشاعر أجاب أنه ابن معصوم المدني، وكان هذا الاستاذ هو شاكر

هادي شكر ولم يذكر لنا أنه حقق ديوان ابن معصوم ولم يخبرنا انه سيحقق الكثير من مؤلفاته ومن مؤلفات غيره من الشعراء يا لتواضع العلماء! وكاد اسم ابن معصوم يغيب من ذاكرتي بعد أن تركت العراق للمرة الثانية وفي غربتي الطويلة وأنا في عام 1980 سمعت المطرب الكبير يوسف عمر يترنم بقصيدة غاية في الروعة على نغم النوى من النهاوند 19:

أما الصبوحُ فإنه فرضُ – فعلامَ يكحلُ جَفنك الغمضُ

بقيت أتحرى عن شاعر هذه القصيدة زمنا حتى عرفت أنها لابن معصوم المدني فأنعم واكرمبالشاعرين الكبيرين ابن معصوم والحبوبي.

-للموضوع صلة-

هوامش:

1- إبراهيم، طه أحمد؛ تاريخ النقد الأدبي عند العرب ص25، الفيصلية، مكة 2005. وطبعة المكتبة العربية، بيروت 1981 هي الأفضل.

2- الآمدي، أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيى؛ الموازنة بين الطائيين البحتري وأبي تمام، تحقيق السيد احمد صقر، دار المعارف- القاهرة 1961 في 12 جزءً. أما الذي حققه الاستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العلمية بيروت 1944، فهو غير كامل.

3- أثار هذا الكتاب معارك نقدية، إذ تبعه ابن رشيق في كتابه ” تزييف نقد قدامة”؛ ورد ذكره في(معجم المطبوعات لالياس سركيس)؛ فانبرى عبد اللطيف البغدادي في كتابه ” دفع الظلامة عن قدامة” وناصره ابن أبي الاصبع في كتابه الميزانمنتصرا لقدامة من ابن رشيق راجع كتاب” مقدمة المقاييس البلاغيةوالنقد لابن رشيق” عرض وتحليل ودراسة د. محمد بن سعد الدبل، جامعة ابن سعود الرياض 2010.

4- الطريحي، صادق “أدباء حلّيون” جريدة النهار20/02/2014،ع5202؛ مقارنة د. جواد احمد علوش في بحثه عن شعراء الحلة.

5- شكر، شاكر هادي، محقق “ديوان عبد الكريم الأزري” ص20، دار التوجيه الإسلامية، بيروت-كويت.

6- الدجيلي، عبد الحميد ” موازنة بين شاعرين” مجلة الدليل النجفيةع6 السنة الثانية عن المصدر السابق.

7- الأعظمي، حسين اسماعيل “المقام العراقي بأصوات النساء” ص30 هامش 4، دار الفارس للنشر، عمان؛ والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2005. هي يذكر الاعظمي اعتراض الدكتوررشيد عبد الرحمن العبيدي على مصطلح الفترة المظلمة لأن فترة غير صحيحة لغويا ويفضل استخدام الحقبة، وهو يعترض بشدة على مظلمة ويراها زاخرة بالمعطيات العلمية ويعدد منها لسان العرب لابن منظور وتفسير ابن كثير وتاريخه، … واجده

محقا بالاعتراض اللغوي، ولكن كثيراً من المصطلحات تشيع وتأخَذ بالمعنى لا بالجذر اللغوي فعلى سبيل المثال أن “استعمار” ينطوي على معنى إيجابي على الضد من المصطلح السياسي، ولا أراه دقيقا في ما يتعلق في العراق فقد كانت فترة مظلمة نسبياً.

8- عزالدين، د. يوسف “الشعر العراقي في القرن التاسع عشر”، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 19665.

9- الوردي، د. علي، “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق”1/313 دار الشريف الرضي، طهران .

10- شكر، شاكر هادي، ديوان الأزري مصدر سابق.

11- شكر، شاكر هادين ديوان الأزري ص26 من المقدمة.

12- الدروبي، إبراهيم عبد الغني، “البغداديون أخبارهم ومجالسهم” ص234، مطبعة الرابطة، بغداد.

13- راجع مقالة كاتب هذه السطور ” في التطور وما يليه-2″ على صفحته في عرب تايمز. من مصدر: الأميني،”الغدير” 170/2.

14- طبع ديوانه في مصر مرتين وفي مطبعة النعمان في النجف.

15- الكعبي “ديوان الكعبي” المطبعة الحيدرية نجف 1935 ؛ وترجمته لدى طهراني، أغا بزرك ” الذريعة الى تصانيف الشيعة” 2297 منشورات دار الاضواءن بيروت.

16- سنعتمد في سيرته على تحقيقات الأستاذ المحقق الثبت شاكر هادي شكر لمؤلفات ابن معصوم، ثم على العلامة الأمين صاحب ” أعيان الشيعة” 8/125 وعلى ما جاء لدى صاحب الذريعة1/389.

17- سأعتمد على ديوان الحبوبي ، تحقيق عبد الغفار الحبوبي، دار الرافدين للطباعة والنشرط2004، وكذلك الطبعة الأولى تحقيق الشيخ عبد العزيز الجواهري، المطبع الأهلية في بيروت1331ه، وهي طبعة رديئة كثيرة الأخطاء، والغريب أن الشيخ عبد العزيز الجواهري ورغم المصاهرة والخءولة ينسب الحبوبي الى الفرع الحسيني! كما ساستفيد من ” أعيان الشيعة” للأمين9/344.

18- النصراوي، عادل عباس،” الآثار العلمية لابن معصوم المدني” مجلة الواحة ع60السنة16 سنة 2010.

19- راجع لكاتب هذه السطور، “مطرب غنى بقلبه” على كثير من امواقع والصحف، نشرت في ملحق المدى تحت عنوان: يوسف عمر بين التقليد والتجديد.