بين سلطة الله وسلطة الحاكم

بين سلطة الله وسلطة الحاكم

حين نعيد النظر في العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة، ندرك أن أخطر ما شهده تاريخنا لم يكن صراع المذاهب أو اختلاف الفقهاء، بل لحظة اختطاف الدين وتحويله إلى ذراع للسلطة. منذ أن صار “الإيمان” شعارًا للولاء، و”الفتوى” غطاءً للاستبداد، و”الخطبة” منبرًا للدعاية، فقد الدين جزءًا من معناه الأصلي: كونه فضاءً للحرية والبحث عن الله، لا أداة للسيطرة.

النقد الذي وجهناه هنا للدين السياسي ليس نزوة فكرية، ولا عداءً مع الدين، بل هو دعوة لإنقاذه من التوظيف. إن الدين، في جوهره، أسمى من أن يتحول إلى موظف صغير في بيروقراطية الدولة أو شعار أجوف على لافتة حزبية.

الله لا يحتاج إلى وزارة، ولا إلى حزب، ولا إلى خطاب رسمي. ما يحتاجه هو قلوب صادقة، وعقول حرة، ونفوس تبحث عن المعنى.

1. حين تختلط السلطتان

تاريخ التجارب البشرية – من أوروبا في العصور الوسطى إلى تجارب إيران والعراق ومصر وغيرها – يعلّمنا أن زواج الدين بالسياسة ينتج دائمًا كائنًا مشوهًا: دينًا بلا روح، لأنه مُختزل في خدمة السلطة. وسياسة بلا مساءلة، لأنها تحتمي بقداسة زائفة. بهذا الخلط، يُظلم الدين مرتين: مرة حين يُستعمل ضد خصوم السلطة، ومرة حين يفقد الناس ثقتهم به فيرونه مرادفًا للفساد والاستبداد.

2. الحرية جوهر الإيمان

الآية القرآنية “لا إكراه في الدين” ليست مجرد جملة بلاغية، بل قاعدة أنطولوجية: الإيمان لا يولد بالإكراه. كل دين يُفرض بالسيف يتحول إلى أيديولوجيا، وكل صلاة تُؤدى خوفًا من سلطة تفقد معناها، وكل فتوى تُستخدم لحماية حكم تفرغ من روحها.

من هنا نفهم أن نقد الدين السياسي ليس خروجًا عن الدين، بل دفاع عن الإيمان كخيار حر، وعودة إلى جوهر العلاقة الأصلية بين الإنسان وربه: علاقة بلا وسطاء سياسيين، بلا ابتزاز، بلا شعارات قسرية.

3. ضرورة النقد من أجل الإصلاح

أي محاولة لإصلاح الفكر الديني ستظل عقيمة ما لم تُفكّك أولًا شبكة المصالح التي تحكم العلاقة بين المؤسسة الدينية والسلطة. فالإصلاح لا يخيف الدين، بل يخيف الدولة، الدولة تخشى إعادة قراءة النصوص لأنها تُعيد السلطة إلى العقل، الدولة تخشى تعددية الاجتهاد لأنها تُضعف هيمنة الصوت الرسمي، الدولة تخشى النقد لأنه يفضح تواطؤها باسم الدين، إذن، لا سبيل إلى إصلاح حقيقي ما لم نجرؤ على نقد الدين السياسي وتعرية بنيته الأيديولوجية.

4. نحو فصل لا يعني عداء

حين نقول “فصل الدين عن السياسة”، لا نقصد نفي الدين عن الحياة العامة، ولا عزله في الزوايا والمعابد. بل نقصد تحريره من سلطة الدولة، ومن تحويله إلى أداة هيمنة. فالدين يمكن أن يظل قوة أخلاقية ملهمة، يذكّر الإنسان بواجباته نحو الآخر، نحو العدل، نحو الفقراء والمظلومين. لكن هذه القوة الأخلاقية تذبل حين تُختزل في خطاب رسمي أو في مؤسسة تحتكر النطق باسم الله. بكلمة أخرى: نحن لا ندعو إلى دين بلا حضور، بل إلى دين بلا وصاية سياسية.

5. المستقبل بين خيارين

المستقبل مفتوح أمام خيارين: إما أن يستمر تحالف الدين والسياسة، فنظل ندور في حلقة الاستبداد المقدس، حيث تُستغل النصوص لتكميم الأفواه وتكريس الجمود. أو نجرؤ على الفصل والتحرير، فنفتح الطريق أمام دين متجدد، وسياسة مدنية عقلانية، ومجتمع يتنفس الحرية.

التجارب التاريخية، من الإصلاح الأوروبي إلى محاولات الإصلاح الإسلامي، كلها تقول لنا شيئًا واحدًا: لا نهضة مع دين سياسي، ولا مستقبل مع قداسة زائفة للسلطة.

6. كلمة أخيرة

إننا إذ ننتقد الدين السياسي، فإننا لا ننتقد الدين بل نحميه من أن يكون أداة بيد الحاكم، لا ننتقد الإيمان بل نحميه من التشويه، لا ننتقد الروح بل نحميها من أن تُسجن في قفص السلطة. المؤمن الحقيقي لا يبحث عن “دولة باسم الله”، بل عن حرية تقوده إلى الله. والسياسي النزيه لا يتكئ على قداسة دينية ليبرر حكمه، بل يحتكم إلى عقد اجتماعي وشرعية مدنية.

بين سلطة الله وسلطة الحاكم مسافة هائلة. وحين تختفي هذه المسافة، يُفسد الحاكم الدين ويُفقد الدين معناه، ولذلك، فإن نقد الدين السياسي ليس خروجًا عن الدين، بل عودة إليه.

أحدث المقالات

أحدث المقالات