الإنسانُ، بوصفه كائنًا هلاميًّا يسبح في فضاء الوجود، يحمل في جيناته ذاك التناقضَ الأزليّ: اشتياقًا إلى القطيعِ وخوفًا من أنيابه… ؛ فكما تنسجُ العناكبُ خيوطَها الذهبيةَ لتبني عوالمَها الهشّة، ينسجُ الإنسانُ شبكةً من العلاقاتِ الاجتماعية ، ظنًا منه أنها سترفعُه إلى السماء، لكنها قد تخنقُه في لحظةٍ عمياء , وتنزله الى اسفل سافلين و على يد اقرب المقربين … , حتى كتاب القران الكريم اشار الى هذه الحقيقة المرة وحذر الانسان من العداء الخفي ؛ اذ قال (( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم )) فان كان هذا حال الاقربين فكيف بالأبعدين ؟! ؛ هنا، في هذا المسرح السرياليّ، يصبح الاجتماعُ البشريُّ كرقصةِ “الفلامنكو”؛ نارٌ تلمعُ في الظلامِ، لكنها تحرقُ من يقتربُ أكثرَ من اللازم.
نعم في لجة الجماعةِ ومعمعة القطيع ، تذوبُ الفردانيةُ كالملحِ في الماء – كما قال البعض – ، وكأنه يلمحُ إلى أن الغايةَ من الاجتماعِ ليست سوى مرآةٍ تُضخّم أوهامَنا الجماعيةَ… ؛ فالطيورُ تهاجرُ في أسرابٍ كي لا تُفترس، والبشرُ يتجمعونَ كي لا يواجهوا وحشةَ الفراغِ الوجوديّ.
لكن ماذا لو تحوّل السربُ إلى سجنٍ؟
والجماعة الى سرداب مظلم مليء بالأوهام والامراض والطاقات الظلامية والسلبية ؟
هنا تبرزُ مفارقةٌ كافكاويةٌ : ففي رواية “المسخ” لفرانز كافكا، يتحوّل غريغور سامسا إلى حشرةٍ، لا لأنهُ كرهَ البشرَ، بل لأن البشرَ رفضوا بشريتَهُ وفردانيته … ؛ مما دفع البعض منهم الى تمني موته بعد ان انتهت فائدته بالنسبة لهم ؛ و هكذا يصيرُ الاجتماعُ مرآةً للاغترابِ والتوحش والانانية ، حيثُ تتحولُ القوانينُ المشتركةُ إلى أغلالٍ تذكّرُ الفردَ بأن وجودَه مشروطٌ بتنازلاتٍ لا نهائيةٍ.
فالنارُ تدفئُ مَن يحترقُ فيها، لكنها تلتهمُه أيضًا… ؛ كما جاء في احد النصوص الادبية ؛ في نصِّ كامو “الغريب”، يرفضُ مورسو الاندماجَ مع طقوسِ الحدادِ الجماعيةِ، ليس لقسوةٍ في قلبهِ، بل لأنه أدركَ أن الالتزامَ بالجماعةِ هو لعبةٌ عبثيةٌ تُفرغُ الحياةَ من معناها… ؛ و هكذا، يصيرُ الهروبُ إلى العزلةِ كالهروبِ من مرآةٍ تشوهُ الوجهَ؛ ففي العزلةِ يرى المرءُ ذاتهُ دون أقنعةٍ، لكنه يواجهُ شبحَ الوجودِ العاري.
ويبقى الانسان يركض لاهثا نحو الجماعة كالمسافر العطشان الذي يظن السراب ماء … ؛ الا انه عندما يقترب منه كثيرا ؛ يتحول الى صحراء موحشة ؛ فالشخص الذي يسعى الى الاجتماع البشري والعلاقات الاجتماعية , بحثا عن الالفة والسعادة والطاقة الايجابية ؛ سرعان ما يصدم بالحقيقة المرة , اذ يكتشفُ أن الجماعةَ تحملُ في أحشائِها “ثقوبًا سوداءَ” تمتصُّ طاقتَه، كحالِ شخصيةِ “دراكولا” في أدبِ برام ستوكر، الذي لا يعكسُ شرًّا خارقًا بقدرِ ما يعكسُ شرًّا يوميًّا: استنزافَ الذاتِ في مواجهةِ جشعِ الآخرين.
ومع كل ما سبق : يظلُّ الإنسانُ حائرًا بين قطبينِ: قطبُ الجماعةِ الذي يعدُه بالدفءِ والأمانِ، وقطبُ العزلةِ والفردانية الذي يمنحُه حريةً مؤلمةً… ؛ وصدق من قال : “كلّما ابتعدتُ عن البشرِ، اقتربتُ من كائنٍ أشبهُ بالبشرِ”*… ؛ فهذه هي المفارقةُ الأعظمُ: أن نبحثَ عن أنفسِنا في عيونِ الآخرينَ، ثم نكتشفُ أننا فقدنا وجوهَنا بينَ انعكاساتِهم المشوّهةِ.