(افلاس مائي..اجهاد مائي..شحُّ قاسٍ.. مصطلحات تُحلِّق في اجواء العراق بقوة مثل طائرٍ كاسر، والجفاف يخنق الانهار والاهوار.. والانسان المُبتلى في حال انتظار).
نص صغير نشرته في17 اب 2023، ذكَّرني به الفيس بوك بعد عام لكنني لم اتعامل معه يومها، لتزامنه مع رحيل فقيد العراق حمودي الحارثي الذي غادرنا من منفاه الاوروبي، وعينه على وطن بملايين فقيرة، جائعة، حائرة، وارض عطشى يفترسها الجفاف. كدت انسى الامر تماما، لولا امطار فانكوفر السبت 19 تشرين الاول اكتوبر التي امست سيولا وفيضانات، احالت الكثير من الشوارع والساحات الى قنوات وبحيرات، شهدت حوادث مرور وانقطاعات كهربائية، قبل ان تستتب الامور على يد كوادر بلدية خبيرة في التعامل مع اوضاع كهذه في مدينة عُرفت بسماء غزيرة العطاء، بل ان توقف المطر فيها لايام متتالية امر نادر لمعظم فصول السنة!
ومن بين عشرات الصور المثيرة والمضحكة ايضا، استوقفني مشهد رجل يحاول الظفر بسمكة سالمون كبيرة ضلت طريقها، قبض عليها بيديه القويتين لكنها تمكنت من الافلات منه مذعورة امام زائر غير مرغوب فيه وسط طبيعة هائجة وطرقات مرتبكة، اما ردود الافعال فتباينت بين مؤيد راى الوضع فرصة ممتعة لا تُفوَّت، ومعارضٍ عَدَّهُ نوعا من الصيد الجائر، وهي الحجَّة التي رَدَّني بها احد اعضاء ادارة مجمعنا السكني قبل سنوات معتذرا عن اتخاذ اي اجراء بحق (نقار الخشب) الذي ينقر الجدار فوق راسي تماما فجر كل يوم لاكمال حفر العش الذي سيؤوي صغاره:
(السيتي ما تقبل!) هذا ماقاله حيدر بالحرف، وهو بالمناسبة من ابناء جلدتي ايضا.. اين منه عراقيون يستمتعون ويتباهون بطرق اصطياد (الفلامينغو)، بل ويتلذذون بلحم طائر جميل يشبه الفراشة برقته والوانه! علما انه ليس من الطيور المفضلة والقابلة للاكل مثل الخضيري ودجاج الماء والبط رغم حظر اصطيادها حسب قوانين حماية البيئة، ولانه يخالف التزامات العراق بعد ادراج اهواره في لائحة التراث العالمي في تموز 2016.
اشعر بمزيج من الحسرة والاسى وانا اتابع حالة طائر (النحام) اسمه بالعربية، حيث لا مكان يناسبه الان سوى بحيرة هور الدلمج مع طيور مهاجرة اخرى (حسب معلومات سابقة اوردها جاسم الاسدي الناشط البيئي المعروف ومدير منظمة “طبيعة العراق”) بعد ان تراجعت اعداده بكثرة في هور الحَمّار الشرقي الذي كان ينشط فيه بشكل كبير سابقا، ولم يعد يُشاهد هناك، ولا في بحيرة ام النعاج التي كانت تعج بطيور قَلَّت نسبتها حتى في باقي البحيرات..
اخال طائرنا اليوم مُطَأطأ الراس في رحلته الموسمية الى العراق، حزنا على الاوضاع التي بلغتها الاهوار، ذلك العالم المدهش المقيم عندنا منذ زمن سحيق والهم كُتّابَا وصحفيين وادباء وفنانين بتذكارات فذة وروائع من روايات وحكايات واستطلاعات واشعار ورسوم وصور وافلام والحان تطربني اكثر من عروض لـ (الفلامينغو) حضرتها في مكان بهيج بمدريد اسمه (لوس بروخاس) اي (الساحرات) بالاسبانية، اومنتجع (بلايا “ساحل” ديل كارمن) المكسيكي او ما قدمته فرقة (ماريا روسا) التي استقدمها منير بشير اواخر السبعينيات عندما كان مستشارا لوزارة الثقافة والاعلام ومديرا عاما لدائرة الفنون الموسيقية، لتؤدي برنامجا شيقا في اوج امجاد مهرجانات بابل الدولية بمشاركة فرق باليه مثل (ليون) الفرنسية واخرى (سوفييتية) لا يحضرني اسمها وعازفي جاز ومغنين وفنون استعراضية شعبية من شرقي اسيا واوروبا وغربيهما، توزعت فقراتها بين مسارح بغداد والمسرح الاثري الصيفي ومعبد (نينماخ) وغيرهما من معالم مدينة الجنائن المعلقة وبرجها العملاق، وكان الجمهور يحرص على حضورها من مدن عدة بالسيارات او بقطار خصص للمناسبة بين بغداد والحلة.
ومنير بشير نفسه الذي اسس مهرجان بابل، كان من بين الذين قادوا حدثا هو الاول من نوعه، مهرجان الجبايش السياحي الاول في السبعينيات ايضا، بمعيته الفنان (الدكتور) سعدي الحديثي الذي حضر بصفته باحثا وخبيرا موسيقيا ومحررا في مجلة (القيثارة)، كنا على مقعدين متقاربين جدا في الباص، ذهابا وايابا فتتشعب احاديثنا مع فواصل “عتابه” وطرب يختارها صاحب (ع الاه وا ويليه.. ..يا نبعة المشمشة) بمزاج يتجاوب مع مشاهد ساحرة نخترقها، وليس بعيدا جلس مُغنٍ اخر ينتمي الى الدائرة ذاتها هو ابراهيم العبد الله يقول لنا (كَوم درجني وامشي كَدامي).
واذا كانت مهمة الثلاثة ومن معهم تتعلق بالاشراف على احياء الجوانب والفعاليات الموسيقية والغنائية وما يتفرع منهما ضمن فقرات المهرجان، فان اعلاميين واخرين من مؤسسات معنية حضروا لهدف كبير يتخطى مجرد التعريف بالاهوار، الى العمل من اجل الترويج السياحي والاثاري وتشكيل عوامل جذب للزوار والمهتمين بالبيئة والطبيعة والتراث، وتشجيع الاستثمار العلمي لمكان غني بثرواته وعريق بمكانته التاريخية، اذ ان جهات عدة شاركت في تنظيم المهرجان، اتذكر منها مصلحة المصايف والسياحة والاثار وامانة بغداد بالاضافة الى دوائر قضاء الجبايش ومحافظة (ذي قار).
لقد كانت زيارتي الاهوارية تلك من بين اكثر زياراتي فائدة واثارة ومتعة، والاطول ايضا، ثلاثة ايام شاهدت خلالها جوانب مختلفة من الحياة على طبيعتها، الناس، عاداتهم، مشغولاتهم، زراعاتهم، صيدهم،”المسكَوف وخبز السيّاح” الساخنين .. شاهدت عرسا اهواريا وسباقا للمشاحيف واغنيات بلغة تحاكي خرير المياه وميلان القصب وانثناءة الاسماك ورفيف الطيور وصفوالسماء، اما استراحتي فامضيها في مكان اشبه بفندق صغير، (شُيِّدتَ) معظم محتوياته او صُنِّعَت من البردي، الاستقبال، الاستراحة، المقصف، الغرف، الجدران، الموائد، المقاعد، السرير، خزانة الملابس، الحمّام.
ولم استغرب طبعا، أوليس الناس هنا من الذين تُضرب الامثال بكرمهم وسخائهم في كل العهود؟ أوليسوا اصحاب المضايف القصبية ذات (الملامح الذهبية) و(التراث الصامد) على مر السنين، والتي الهمت ايضا معماريين كثر في وضع تصاميم المباني والبيوت في البلدات والمدن؟ واتذكر جيدا ان جفنا لي لم يغمض حتى الفجر في ليلتي الاولى، ماخوذا بهداة سكون ساحر اعيشه للمرة الاولى في حياتي. احد المتابعين ويبدو انه من السكان القدامى، اشار الي بعد قراءته تعليقا لي مؤخرا بان المكان لم يكن فندقا بل كابينات سياحية، (ولا يهمك صديقي.. سَمِّهِ ما شئت، لقد كان كل شيء مبهرا، فاين نحن من كل ذلك اليوم؟)
واول مرة انبهرتُ فيها بمشهد الاهوار كانت بنظرات خاطفة عبر نوافذ قطار بغداد البصرة في وقت مبكر من السبعينيات، مهمة صحفية اصطحبتُ خلالها ابي الذي اشتاق ابن عمته وصديق عمره “انيس” المقيم المعتّق في مدينة النخيل والماء والرمال والنفط، عوالم احتلت مساحة مهمة من جولات ميدانية صاحبتُ في احداها فرقة زلزالية للمسح واستكشاف النفط وتحديد موقعه من خلال إحداث هزات في اعماق الارض بمكان ما من الاهوار يوم احتوتنا “قمرة” سيارة ضخمة مع احد الكوادر الوطنية، صورته ماثلة امامي، وجه دائري ابيض صافٍ وواثق، اعطى الايعاز بكلمات روسية عبر ميكرفون امامه، تلاها انفجار ضخم شق دويه عنان السماء، واهتزت له الاحياء هناك بكل مسمياتها للحظة سريعة خاطفة،
وعرفنا بعد حين ان المنفذين عراقيون ردفاء لخبراء “سوفييت” صاروا يتقنون مهمة الاستمرار في البحث عن ذهب اسود يدر بالخير العميم على ابناء ارض السواد، لم يخطر في بالهم ولا في بالنا ان فردوسا كهذا يزيد عمره عن خمسة الاف عام سيتعرض يوما الى حريق وتجفيف مدمرين بشكل بشع بفعل حروب كارثية مجنونة، وعندما ظهر بصيص امل بتجدد تدفقٍ خجول للمياه قبل سنوات، هاهو يعاني محنة وجود مهدد بالزوال بسبب شحة قاسية يبدو علاجها امرا بعيد المنال، فعافية الاهوار لن تكون الا بعافية البلاد برمتها، حيث لا يزال صدى صرخات (نريد وطن) يتردد على مبعدة كيلومترات مُعَبَّدَةٍ بالاهات والانّات، وفي مدن وارياف تعيش الذكريات المريرة والاحلام المُعلَّقة، منتظرين عودة (الفلامينغو) الى (جنة عدن) لا يشكو اهلها احوالهم بترنيمة حزينة عنوانها (حال العدم حالي) بل يزرعون الاغنية ضمن ماضٍ جميل يتمنون استعادته.. ولعل كثيرين منهم يتابع مثلي باهتمام اخبار جاسم الاسدي، رجل الاهوار والمدافع الكبير عنها، الانسان العراقي الذي يملا مكانه بجدارة، اقرا ما ينشره ويقوله بحثا عن خبر سعيد من هناك اضيفه الى ذكريات عمرها نصف قرن ونيف، اثارتها سمكة مذعورة وطائر قلق يشبه شيئا من قلقي.
يوسف الشمري..تَذَكُّرٌ بطعم الوفاء
زميلي طيب الذكر المصور الصحفي المعروف يوسف حسين الشمري، هو الذي رافقني في رحلتي الاهوارية تلك، ووثق ذكريات ومشاهدات احتلت مكانة كبيرة في قلبي حتى اللحظة ضمنتها مقالي المرفق، اكتشفت الامر متاخرا بعض الشيء وانا اقلب في ركن منسي مجموعة صور وصلتني بارتباك بعد سنوات انتظار، ومن حقه عليَّ مهنيا واخلاقيا ان اُثَبِّتَ ذلك، ان افعلها متاخرا خير من ان اتجاهل الامر.
كنا نتنقل بـ “مشاحيف” عدة من مكان لاخر معي الزميلان المرحوم هاشم النعيمي “ابو حرية” و”ابو رنا” جعفر ياسين مد الله بعمره، بصحبة اعلاميين اخرين يظهر بينهم “وكما توضحه صور المقال ياسين الحسيني من اعلام وزارة النفط وطالب الخفاجي من نفط الجنوب.
وفي واحدة من الاستراحات وجدنا ثالثا يصورنا، يوسف وانا عندما جمعنا الوقت فوق حافة بقعة عائمة من ذلك الفردوس الجميل، وكنت احرص على التقاط صور اضافية بكاميرتي من مكان مدهش قد لا تتاح لي فرصة رؤيته في زمن قريب، هكذا كنت افكر في كل مرة اغادر .
لك مني اعمق معاني المحبة والوفاء صديقي الذي يحدثني احيانا بـ “كلدانية” تَعَلَّمَ بعضها من اصحاب وجيران، مثلما كان يكلم مساعده الارمني الحَدَث بلغة الاخير اثناء زياراتي له في استوديو كان يديره يوسف قريبا من عمارة باسل وساحة التحريات في كرادة بغداد، كان الامر مضحكا بعض الشيء، لكنها.. ..كانت ايام!!