23 ديسمبر، 2024 4:57 ص

بين زمنين بطل اسمه الشهيد عباس جوما

بين زمنين بطل اسمه الشهيد عباس جوما

زفت مدينة طوزخورماتو يوم الاحد 15 اذار 2015 كوكبة من شهدائها الغياري الذين افدوا ارواحهم من اجل العراق فسقطوا شهداء وهم يحاربون المندسين والظلاميين من تنظيم داعش الارهابي. اقيمت مراسيم تشييع الجثامين الطاهرة لثمانية عشر شهيدا يتقدمهما جثمان الشهيد الرائد عباس فاضل جوما محملين على اكتاف اهالي المدينة بموكب مهيب مرددين شعارات النصر مفتخرين لشجاعة اخوانهم وبطولاتهم.

سبعة عشر شابا يقودهم الشهيد الرائد عباس جوما توجهوا الى قرية بشير التركمانية الجريحة يوم 29 حزيران 2014 تلبية لنداء المرجعية، بعد دخول التكفيرين اليها وارتكابهم ابشع الجرائم بحق التركمان من صادفهم وقاموا بتعليق من القوا القبض عليه حيا باعمدة الكهرباء ومن بقي فيها من النساء والاطفال قتلوهم من دون رحمة، الشهداء الثمانية عشر ارادوا استباق الوقت متوكلين على الله في محاولة لإنقاذ ماتبقى من اخوانهم وصد الهجوم الداعشي وطردهم من المدينة، فعلى الرغم من العدد الهائل للارهابيين والعتاد الفتاك القادم من وراء الحدود قاوموا الاشرار مقاومة شرسة وبطولية وعلى الرغم من نفاذ العتاد لم يتراجعوا مفضلين الشهادة على الاستسلام.

كل ما يقال بحق الشهداء يعد قليلا كل منهم له صفحات نضالية شجاعة، الا انني اريد التوقف عند الشهيد البطل عباس جوما لاكتب شيئا للتاريخ عن محطة من حياته الذي يعد نموذجا للوفاء والشجاعة وهو ابن مدينة طوزخورماتو الابي متيقنا بان فقدانه كان خسارة كبيرة ليس لمدينة طوزخورماتو فحسب بل للتركمان جميعا، كان الشهيد مشروع استشهاد دائم.

غادر الشهيد العراق مرغما عام 1991 وحبال الموت الصدامي المحتم تلاحقه، لقد ترك الوطن متيقنا باعلان حكم الاعدام بحقه لمشاركته الانتفاضة الشعبانية كونه كان عنصرا فعالا فيها في طوزخورماتو واصبح احد الضحايا الكثر من العراقيين للصفقات السياسية الخبيثة بين الاطراف العراقية العميلة التي افشلت الانتفاضة، منذ تلك الفترة لم التقي به ، ولكن شاء القدر ان نلتقي لاول مرة اثناء زيارتي للعراق سنة 2008من دون سابق موعد التقينا في بغداد فاستقبلني في وزارة الشباب بحفاوة وهو مازال يتصف باخلاقه الرفيعة وروحه الطيبة، فضلت البقاء في مقر اقامته والذكريات تشاركنا، جلسنا وعدنا الى الماضي وقلبنا الاوراق لنعيد ماضي الايام وهو يقص لي ذكرياته عن ايام الانتفاضة التي عشناها وما بعدها وسرد لي الكثير منها، اود كتابة مابقي في ذاكرتي امانة حملتها بعد ما استأذنته بنشر هذه الاحداث ووافقني في الراي في الوقت الذي كنا فيه ندير جريدة تركمن تايمز الالكترونية.

خرج هذا البطل بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى يوم 11 اذار قبل 24 سنة وتحديدا عام 1991 من بيته في حي الجمهورية في طوزخورماتو مع اول شرارة الانتفاضة الشعبانية حاملا سلاحه المتمثل ببندقية كلاسيكية قديمة عائدة لوالده للمشاركة مع اخوانه من اهل المدينة بالوقوف بوجه الطغيان والدكتاتورية، تمكنت الانتفاضة في الليلة نفسها من السيطرة على مركز القضاء وطرد كل مظاهر الخوف المتمثلة بالامن والمؤسسات الدموية في طوزخورماتو.

خلال الفترة التي كانت فيها طوزخورماتو تحت سيطرة الاهالي والمدينة تعيش الحرية التي افتقدتها منذ زمن بعيد شارك ومعه المواطنين من اهالي طوزخورماتو الابطال بعدة معارك بمواجهة القوى الصدامية، وتم صد الكثير من تلك الهجمات التي استهدفت طوزخورماتو، هجمات صاروخية وانزال جوي فضلا عن

الضربات الجوية لطيران الجيش، كان الشهيد يتواجد في الجزء الجنوبي والغربي من مدينة طوزخورماتو التي قسمت الى مقاطعات ووزعت مسؤولية الدفاع عنها الى مجاميع كل منها استلمت قاطع في المدينة.

لعب الشهيد البطل دورا هاما في الدفاع عن المدينة الى جانب الاخرين من مجموعته مثل السيد احسان ابراهيم نجار والمرحوم هاشم شقاوا واخرين صامدين لم تزحزهم الهجمات الشرسة لقوات الامن والجيش، في ليلة 21 اذار وبدون أي تنسيق مع القوة التركمانية انسحبت البشمركة سرا مع العوائل الكردية من الجزء الشمالي والشرقي من طوزخورماتو التي كانت تحت سيطرتها، وصباحا بحدود الساعة التاسعة بدا الهجوم الصدامي على المدينة بمناوشات خفيفة فيما بعد بدأ القصف المدفعي وازداد القصف بشدة بحدود الساعة الحادية عشر، حيث تفاجئ المقاومون التركمان بالتفاف الجيش من جهة الشمال، وبعد ارسال المقاتل محمد قصاب لمعرفة الموقف من البشمركة فصدم بوجود الجيش وانسحاب البيشمركة وهو بدوره لم يستطع الرجوع الى موقعه المرابط في راس الجسر ليخبر الشهيد ورفاقه بالامر، حيث كانوا متواجدين تحديدا في دار القاضي عبدالامير مهدي نجار اوغلو المطلة على نهر اق صو.

بقي الشهيد مع مجموعته محاصرين وكما روى لي، والسمتية تقصف كل هدف متحرك بالمدينة، اراد تصويب القاذفة التي كانت بحوزتهم باتجاه السمتية محاولا استهدافه بيد ان المقاتل احسان ابراهيم منعه من ذلك بعدما ادرك بان امرا ما قد حدث، وتبين لهم فيما بعد بان الجيش دخل المدينة ملتفا عليهم من جهة شمال المدينة، اضطر الى ترك سطح المنزل الذي كان يقف به وامر زملاءه بترك المنطقة بعدما اصبح الجيش بمقربة منهم واصبحوا داخل دائرة يحاصرها الجيش، مثلما كنا نعرف الشجاعة التي يتحلى بها قرر وبدون خوف الخروج من المنزل مجبرا لمواجهة الامر الواقع مرافقا له اثنان من رفاقه باتجاه نهر اق صو رغم قصف الطائرة لهم اخذا محاذات النهر ممرا ساترا في الوقت نفسه يسيرون خطاهم بحذر شديد بين التوقف والاختفاء تارة والسير تارة اخرى اخذين بنظر الاعتبار حركة الطائرة وتحرك الجيش حتى وصلوا الى مقربة من مبنى اعداية طوز للبنين ودخولوا من سياجها عابرين الزقاق القريب واذا بهم يفاجئون باطلاق النار عليهم من قبل قوات الامن وبالجيش عن مسافة قريبة من الشارع الواقع امام اعدادية طوز للبنين وبحركة مباغتة دخل ومعه رفيقاه الى احد البيوت القريبة، وطلب من رفاقه العبث ووبعثرة اثاث البيت لتمويه الجيش والامن بان البيت قد تم تفتيشه من القوة المهاجمة التي كانت تقوم بتدقيق البيوت بحثا عن المقاتلين، وصلت مجموعة من القوة الصدامية الى الزقاق ودخل عناصر منها الى الدار التي يختبئون بها، وما كان منه الا ان يصدر امر الاستعداد لمواجهتم، وحسب ما قال لي بانهم توجهوا الى سطح المنزل متخفين واخذوا وضع الدفاع ليتم المواجهة مع القوة المهاجمة لكن الله كان في عنونهم فالقوة دخلت البيت ولم تصل الى المكان الذي اختبؤا به.

بعد انتظار دام حتى غروب الشمس قرر ترك البيت ليلا اخذا محاذات نهر اق صو مسلكا للسير متسلحين متراجلين متوجهين الى محلة (تنكي محله سي)، من جهة المقبرة ووصلوا هناك وهو يؤازر رفيقاه متحديا الجيش والجيش الشعبي والامن المنتشر في المدينة ليصل الى حي الجمهورية المكتض بعناصر الامن وفيه دار والده التي دخلها بساعة متاخرة من الليل. بعد ذلك بايام ترك ذلك الشاب القوي الشجاع مدينته التي عشقها الى اجل غير مسمى عابرا جبل (مرسى علي) قاطعا الجبال والوديان والتلال وحيدا حتى وصل الى ايران.

لم يكف عن محاربة الطغيان الصدامي باقيا محافظا وثابتا على العقيدة والنهج الذي امن به، ففي نهاية التسعينات عاد وبشكل سري الى طوزخورماتو ومنها توجه الى كركوك بمهمة لتنفيذ عملية اغتيال لعناصر

الامن الذين كانوا سببا في اعدام كوكبة من الشباب التركماني، ففي ساعات الصباح الاولى تم تحديد ساعة الصفر بعد تحديد الهدف في مركز مدينة كركوك مع احد رفاقه من ناحية تازه خورماتو، بعد متابعة الهدف وتحديده بدقة قاما بتنفيذ العملية باسلحة خفيفة اصابوا بها المسؤول الامني وفوجئوا بنيران اسلحة من المنطقة القريبة فاصيب واستشهد زميله واصيب هو بساقه وبشجاعة الابطال استطاع وهو ينزف الافلات من رجال الامن من خلال الازقة والاختفاء من انظارهم وخلاص نفسه، بوسائل واساليب مختلفة وقطع مسافة كبيرة سيرا على الاقدام تمكن من ترك كركوك والوصول الى ناحية تازة والاتصال باشخاص يثق بهم، وفي اللحظة نفسها ساعدوه اخوانه في ناحية تازة بايصاله الى طوزخورماتو وفيها لم يبقى سوى لحظات حيث اجريت له فيها الاسعافات الاولية وبعد وضع بعض الضمادات على جرحه توجه ليلا وبصحبة اخيه الاغر سنا علمدار باتجاه جبل (مرسى علي) متحديا نقاط المراقبة التابعة للجيش على قمته، قبل صعود الجبل اودع اخيه واستمر بالسير واستطاع الوصول الى الجهة الاخرى حيث البيشمركة التي القت القبض عليه، فكانت حينئذ وحسب ما نقله لي الشهيد بان الاتفاق كان قد ابرم بين الجيش والبيشمركة على اعتبار المنطقة منطقة محرمة بين الجيش والبيشمركة لا احد من الطرفين يسمح بتجاوزها، فمع رؤيتهم للشهيد انتابهم شعور بان المنطقة قد اخترقت، وزاد الطين بلة الدماء الظاهرة على ملابسه فسئل عن سبب الجروح فاجابهم بالسقوط اثناء تسلقه وعبوره الجبل وبعد تحقيق استمر لساعات واعلامهم بهويته ووجهته اخلي سبيله ليكمل السير ولوحده الى ايران التي فيها بقي مجاهدا وعينه على العراق وقلبه ينبض لمدينته طوزخورماتو.

عاد الى العراق بعد السقوط مباشرة حاملا امال والام بروح وطنية وباشر مهامه مباشرة ضمن السلك الامني، لم تغير الغربة شيئا من نزاهته وحبه للوطن وشجاعته مثل البعض ممن انسلخ من انسانيته ووطنيته واصبح لا يهمه سوى جمع المال ورضا اسياده، شاء القدر ان يكون في بغداد بعيدا عن طوزخورماتو التي بات لا يتركها ابدا كلما سنحت له الفرصة بالتواجد فيها.

في حادثة يتوجب ان لاننساها ولاينساه االتاريخ تواجد الشهيد عباس جوما الى جانب الشهيد احمد قوجا معاون محافظ صلاح الدين عندما وقف بوجه من اراد اغتصاب اراضي التركمان عنوة في وسط طوزخورماتو في الوقت الذي كان التركمان عاجزين عن صد الهجمات التي كانت تستهدفهم في المدينة وهم بوضع لايحسدون عليه، فعندما ارادت مجموعة من الاكراد بناء دور سكنية في تلك الاراضي بعدما جلبوا المواد الانشائية والاليات وقفا كالجبل الشامخ امام تلك المجموعة، لم يكن مصادفة توجههما ووقوفها معا في هكذا موقف كونهما يحملان الصفات نفسها من الوطنية والشجاعة وحب الارض والاستعداد للتضحية من اجلها، اذ صادف وجود الشهيد جوما في المدينة في ذلك اليوم اما الشهيد قوجا فكان في زيارة الى ناحية العلم وبعيد علمه بالامر من خلال اتصال الاهالي به طلب مباشرة وباتصال هاتفي تفويضا من المحافظ السيد احمد الجبوري باعطاء الصلاحية في تدارك الامر واستخدم تلك الصلاحية بكل جرأه مطالبا قوة من المحافظة للتوجه بها الى القضاء تاركا ناحية العلم متوجها الى طوزخورماتو دون المرور بالمحافظة، والتقيا معا في الموقع وجئ بالاليات وتم رفع المواد الانشائية وتسوية مابني دون خوف او تردد.

في الوقت الذي كانت السياسة التركمانية وقياداتها عاجزين تماما عن اتخاذ اجراءات من شانها ان توقف نزيف الدم التركماني في طوزخورمانو كان الشهيد عباس جوما يقاتل ويجاهد نيابة عن الجميع في تلك الايام العصيبة التي مرت على مدينة طوزخورماتو وبالنيابة عن اهلها التركمان وهم يتعرضون للابادة

الجماعية بسيارات مفخخة تهاجمهم بشكل اسبوعي تقريبا الى جانب العبوات الناسفة او الاغتيالات بالمسدسات الكاتمة او الاسلحة الرشاشة.

ليس مصادفة ايها الشهيد البطل ان ترفع سلاحك بوجه الطغيان في هذا الشهر والايام نفسها قبل 24 سنة واضعا امامك طريق الاستشهاد عابرا الجبال والوديان حاملا هموم شعبك ووطنك في كل لحظة، واليوم تحمل على اكتاف ابناء مدينتك الغيارى وهم يفتخرون بك ومن استشهد معك وببطولاتكم، فجميعنا مدينون لكم بالكثير فكنتم بطلا وستبقون في ضمائرنا كذلك، هنيئا لمدينتنا العزيزة طوزخورماتو التي انجبت وربت في احضانها شجعانا فأمثالك لايولدون في كل زمان، كنت بطلا وشهما وانسانا شريفا نزيها ناضلت من اجل شعبك ووطنك وارضك وعقيدتك فنلت الشهادة التي تمنيتها، مختصرا كتبت بحقك، مستخرجا من ذاكرتي جزء يسير مما اسردته لي من حكايات كتبتها في مذكرتي التي كنت احملها اينما اذهب وبقيت في مسكني في تكريت حيث اجهل مصيرها بعد الهجمة الداعشية البربرية، هنيئا لكم اخي العزيز الشهادة اسكنك الله ومن معك من الشهداء الابطال مع الصالحين والصديقين.