18 ديسمبر، 2024 5:51 م

بين الوجود والعلو

بين الوجود والعلو

لقد تعلمنا من الفلاسفة الكبار ان ليس كل الأشياء الموجودة في عالمنا الواقعي يمكن لها ان تخضع للقياس التجريبي – المحسوس دون ان نسلم على الأقل بوجود بقية الأشياء الغير مرئية فكل شيء في عالمنا لا يمكن ان يخضع لقياس واحد, بل ربما يقبل القسمة على أكثر من قياس وهذا الافتراض يعتبر أكثر ملائمة للمنطق لأنه يقترب من مضمون الأخير , ولا نريد هنا ان نوغل اكثر في الفرضيات لأن حديثنا يقتصر عن الوجود والعلو ضمن الإطار الفلسفي المحض .

فهذان المصطلحان (الوجود والعلو) يقف الإنسان على مسافة بينهما وهو يواجه صعوبة كبيرة في إيجاد تفسيرا مناسبا لكل منهما على حده , فعندما نتحدث عن الوجود نقصد به كل ما هو حاضر ومحسوس يراه الإنسان حوله ويشعر به , رغم ان الوجود بمعناه الواسع لا يقتصر على رؤية الإنسان وشعوره كما أشرنا , فهنالك الكثير من الخوافي واللامرئيات التي لا يزال الإنسان عاجزا عن رؤيتها وتفسيرها قد تعتبر هي الوجود بعينه كما أشار رواد الفلاسفة القدماء.

أما بالنسبة للوجود كظاهرة ملموسة فهو بالنسبة إلينا صور لأشياء تعكس رؤية إطارنا الفكري لا أكثر , ومن هذه الصور ننطلق لاكتشاف العالم المجهول إذ لولا وجود الأشياء حولنا لا يمكن ان يصل تفكيرنا بأي حال من الأحوال الى البحث عن الأسرار (الباراسايكولوجية) حتى وان سلمنا بوجود هذه الأسرار على الأقل ! . ومن هنا يتضح ما للوجود من أهمية كبيرة بالنسبة للإنسان العادي والإنسان الفيلسوف على وجه الخصوص .

أما بالنسبة للعلو فنعني به من الناحية الفلسفية علو المرء بفكره عن كل ما هو محسوس في عالمه المادي ليحلق نحو المجهول اللامتناهي في العالم الفسيح , فالإنسان قد يعلو بفكره عن جميع الأشياء حوله ليصل الى حالة من اللاوعي تقوده فيما بعد الى إدراك المجهول وليس الشعور به . وهذه الحالة يمكن ان ندرجها في خانة الطقوس التأملية الموجودة لدى الكثير من الشعوب والأديان رغم ان العلو قد لا ينحصر فقط ضمن هذا الجانب كما هو الحال عند الوجود .

كما ان العلو لا يمكن له ان يتحقق لولا الوجود فالإنسان عندما يعلو نحو ” الميتافيزيقيات” لا يمكن ان يطلق العنان لعلوه دون وجود نقطة يعلو عليها وهي الوجود , ومن هذا المنطلق يمكن لنا ان نعتبر الوجود والعلو متلاحقين بالجوهر رغم تضادهما في الظاهر .

ليس كل مرء يمكن له ان يدرك أسرار الكون الذي يعيش فيه لأنه بطبيعته مسير من البديهيات والمسلمات المرسومة حوله , والتي نادرا ما يحيد عنها أو يقف عليها , وهذا الأمر ينطبق أيضا على العلو الذي يمكن ان نعتبره من جانب آخر بمثابة سلم إفتراضي يسير فيه الفكر نحو المجهول كما أشرنا , فعملية الصعود من الأرض الى السماء ليست يسيرة بل إنها تتطلب مجهودا لا يمكن ان يتقنه إنسان عادي لمجرد أنه حاول ذلك !, لأن جناحه الفكري مهما حلق عاليا في طيرانه إلا أنه سرعان ما يعود سجينا الى قفصه الذي ينتظره في كل مرة يحلق فيها !.