إن العقيدة تمثل الركن الأساس والمحور الذي تدور من حوله البناءات الفكرية للفرد والمجتمع بكليته, وبالتالي فإنها تعد من أهم الكليات التي ينبغي على الباحث عدم تجاوزها والمرور عليها مرور الكرام, دون الوقوف على جزئياتها بواقعية وحياد, لتشخيص نقاط القوة والضعف منها, وكذلك إيجاد مكامن النقاط المشتركة وما لها من إمكانية المزاوجة والإذابة في بوتقة الوطنية والشعور العالي بالمواطنة وما تقتضيه المصلحة العليا.
إن من البلاهة حقا ما يتبجح به بعض مرتادي المقاهي الذين يضعون أنفسهم في خانة “الطبقة المثقفة” عنوة وافتراء, بان العقيدة وما يتبعها من تلازمات, تحد من القيمة الوطنية وتودي بها نحو الهاوية, باعتبار إن العقيدة هي أوسع من دائرة حدود الوطن, أي إنها لا يمكن اختزالها وتقييدها بمحددات وضعية, بالنتيجة فان صاحب العقيدة الدينية لا يؤمن إلى حدما بمحدودية الوطن ولا يقف عند حدوده, بل انه يعتقد إن الارتباط العقائدي الروحي هو من يمثل الوطن الحق بغض النظر عن محدودية البلدان وحجومها. وهذا طرح فضفاض زائف لا يخرج عن إطار المغالطة, وعلى أحسن تقدير, هو حق يراد به باطل… إن حقيقة التصورات الذهنية المترسخة لدى الإنسان بشكل عام, لا تخرج عن منظوري إطارين اثنين فقط؛ الأول ما يتم استقاءه من تخرصات ذهنية ضيقة تعتمد القراءات الفردية المجافية لمتغيرات الواقع, والثانية هي ما يتم استلالها من خلال المتغيرات وطبيعة التفاعل مع الواقع الذي نعيشه, والذي يمثل الحد الفاصل بين الشفافية والانفتاح من جهة وبين الضبابية والانغلاق من جهة أخرى.
إن المتابع الحذق للزعامات الدينية التي تمثل خط الاعتدال في التعامل مع قضايا الأمة بإطارها العام, سيجد ودون إن يبذل أي جهد أو عناء إن أبهى صور ومصاديق الاعتدال والوطنية “الشيعية” على وجه الخصوص تجلت في اللقاء الأخير للرمز المسيحي “البابا” مع زعيم التشيع “السيد السيستاني” والتي دلت بشكل او بأخر على مدى الانسجام العالي في تبني وبيان حال الأمة ليست العراقية فحسب بل الأمة الإنسانية بشكل عام, بكافة طوائفها وقومياتها ودياناتها, وقد ظهر ذلك جليا من خلال مناقشة قضايا العراق دون ذكر للمسميات الدينية, بل تعامل الطرفان بروح إنسانية بالغة في الأهمية.. وإذا شانا التوغل في إثبات الروح الوطنية الشيعية, سنجده قائما متجليا بالتضحيات الجسيمة التي قدمها بناء الجنوب (المعتنقين للمذهب الجعفري) لأخوتهم في المحافظات الأخرى, من أبناء الديانات والمذاهب المختلفة, دون منة عليهم, وهذا وان درج في قاموس التضحيات فانه سيتخطى حدود مفهوم التضحية بجملته, ليتربع على عرش الإيثار “وان كانت لهم به خصاصة”.
إن البحث في تفاصيل جدلية العقيدة (الشيعية على وجه الخصوص) والوطنية وما يتبعهما من مترتبات, ليس بالصعبة العسيرة على الحاذق المرن في قراءاته ومتبنياته الفكرية الغير مؤطر والمعبئة بالمغالطات, فان الواقع الملموس هو خير دليل على إثبات بطلان الادعاء القائل؛ بان أصحاب العقيدة الدينية لا يؤمنون بالانتماء الوطني بقدر ما يؤمنون بالانتماء العقدي اللامحدود, وبإمكاننا إسقاط ذلك على واقع العراق السياسي, رغم ما يحتويه من إشكالات ومطبات وتراجع, إلا انه يجسد على حد كبير حجم قدرته وقابليته على الأنصار في بوتقة وطنية واحدة, من خلال امتناع المكون الأكبر “المكون لشيعي” رغم ما يمتلكه من تمثيل برلماني كبير يؤهله وفق النظريات الديمقراطية المعاصرة من إدارة دفة الحكم بمفرده, لكونه صاحب الأغلبية, إلا انه ومع ذلك لا يجد مناص من مشاركة الجميع بشكل مباشر في إدارة الدولة, وان أردنا تقييم ذلك فهولا يخرج إطلاقا عن معيار الشعور العالي بالوطنية “الشيعية” لا القومية أو المذهبية فحسب… ليس من الصواب العيش بمنأى عن الآخرين, وليس من الصواب أيضا تجاهل الحجوم وفرض الذات, وان كان ذلك مشروعا في بعض المناسبات, إلا انه ومع ذلك من الصعب بمكان تحقيقيه في ظل بلد المكونات, إن الإطار العام الذي ينبغي على الجميع العمل وفق مقتضياته يدور في فلك الوطنية (الوطنية الشيعة- السنية- الكردية, وغيرها) فالرابط الأعم والمشترك الأوحد ما بين جميع القوميات والطوائف والأديان, هي الوطنية التي لا مناص من التمسك بها وتعزيز أواصرها, وخلافها, ستحل الفوضى ويتشتت الجميع.