ظاهرة الفساد ظاهرة عامة في مجتمعنا استشرت منذ عام 1990 عندما فرُض الحصار الاقتصادي على العراق نتيجة احتلاله دولة الكويت وهبوط قيمة الدينار العراقي إلى الصفر بحيث أصبح راتب الموظف المتقاعد لا يسد أجرة سيارة تكسي توصله إلى دائرة التقاعد أو المصرف , كذلك الموظف الحكومي أصبح راتبه آنذاك لا يساوي كيس طحين زنة 50كغم , ما دفع أغلب موظفي الدولة وخاصة العاملين في مواقع الصرف المالي والمشتريات والعقود والمشاريع وأغلب المسئولين في الدولة إلى الفساد المالي وتحليل المال العام المسروق , بحيث ساهمت هذه الظاهرة في تأخره وتخلفه أكثر مما هو عليه من تخلف وتأخر.. وانتشر واستشرى في كافة شركاتنا ودوائرنا الحكومية كانتشار النار في الهشيم. وظهرت آثاره السلبية في كل أركان المجتمع ومفاصله حتى يومنا هذا لأسباب عديدة منها بقاء نفس المسئولين السابقين في مراكزهم القيادية ممن عاصروا النظام السابق بكافة سلبياته ورضعوا الفساد وتربوا عليه, إضافة إلى الإخوة السياسيين المعارضين للنظام السابق ممن جاءوا إلى العراق بعد التغيير واستلموا مواقع قيادية وهم يحملون الجنسية الأجنبية والعراقية ,البعض منهم لا يفكر البقاء في العراق والعيش فيه لذلك يفكر في تقاسم الكعكة مع الآخرين ليعود من حيث أتى ..
والفساد الإداري : تجلت مظاهره في أمور عديدة منها الرشوة وتعيين الأبناء والبنات والأقارب والأصدقاء وأصحاب النفوذ السياسي والديني في مواقع هم أجهل الناس بها وبإدارتها. وهذا يفتك بعضد الدولة ويجعلها في حالة انهيار مستمر، ويكفي أن يشيع الفساد في بلد من البلدان فترة وجيزة سيتحوّل هذا البلد إلى أرض خراب . وكل هذا الفساد ناجم عن سلوك وظيفي فردي تحوّل إلى سلوك اجتماعي واستشرى في المجتمع لأن الوصول إليه لا يكلف الإنسان جهدًا غير أن يكون شخصًا انتهازيًا وطفيليًا ووصوليًا ولصًا يسرق جهد وعمل الشرفاء ويغتصبه لنفسه دون أن يحاسبه أحد .
يضاف إلى ذلك عدم وجود ضوابط في العمل الرقابي على الرغم من تعدد الأجهزة الرقابية , وصاحب النفوذ يمكن أن يترك عمله دون أن يحاسبه أحد، لأنه كما يقولون شخصية ذات نفوذ مرتبطة بقوة متنفذة بالدولة.. وهل يعقل أن توزع المناصب وفق النفوذ والمحسوبية والواسطة ؟ ثم نلوم أنفسنا أننا لا نتقدّم ونتطوّر , لذلك لو بقي العراق على هذا الحال فلن يزيده الأمر ألا تخلفاً ودماراً وتراجعاً .وهذه الظاهرة لها أسبابها المختلفة؛ منها أسباب تعود إلى ضعف الوعي المجتمعي وفقدان الانتماء للوطن، لأن المسئول لو كان محبًا لوطنه أكثر من حبه لمصالحه الذاتية لما لجأ للفساد وسرقة المال العام , وفي تمكين الشخصيات الهزيلة من المناصب أو الوظائف التي لا يستحقونها .
الجميع يتشدّق بحب الدين و الوطن ويغني لهما ويزمر ويرقص ليل نهار أيام الأفراح , ويبكي عليهما بكاء الثكلى أيام الإحزان , وما أكثر الإحزان في بلاد الرافدين .. وهو في حقيقة الأمر يغني ويرقص ويبكي في نفس الوقت لأجل مصالحه ومكاسبه الذاتية ليس غير ، وليت المتظاهرين وقواهم الوطنية يملكون الوعي الكامل لكي يعروا هذه الفئات الفاسدة أمام الجميع بعد أن أخذوا الضوء الأخضر من المرجعية الدينية في النجف الاشرف لكي يستمروا بالتظاهر كل يوم جمعة . ولكن للأسف ضعف الوعي يجعل بعض الناس يهرولون صوب الفاسدين ويتقربون لهم فيزداد المُفسد فسادًا حتى يظنّ نفسه أنه على حق والمتظاهر على باطل .
ولعلّ أكثر شعوب العالم تشدقًا وتأليفًا للهوسات والأهازيج الشعبية في حب الوطن والتغني به هم العراقيون ، وعلى الرغم من ذلك هم من أكثر الشعوب تمرداً على حكامهم أذا ما نفذوا مطالبيهم المشروعة , والتاريخ البعيد والقريب يشهد على ذلك , كونهم تعلموا أفكاراً هي أرفع من مستوى ظروفهم وقيمهم الاجتماعية على الرغم من إن المجتمع الذي يعيشون فيه لا يستطيع إن يسايرهم في طفرتهم , وكما قال عالم الاجتماع الدكتور علي الورد ي( 1913- 1995 ) … (( ينبغي لأهل العراق أن يعتبروا بتجاربهم الماضية )) .
وقد أشار السيد العبادي مؤخراً أن إيرادات النفط الخام المصدر شهرياً تعادل تقريباً59) ) تريليون دينار تطرح منها ( 69 ) تريليون كلف أنتاج وديون متراكمة ورواتب موظفين ومتقاعدين , أذن الحكومة تحتاج (10 ) تريليون دينار لسد النقص في موازنة عام 2016 .. ولا يوجد في العراق غير الموظف يسدد هذا النقص الحكومي وليست هناك إيرادات للدولة غير إيرادات النفط الخام المصدر, ولا توجد
أموال مسروقة ينبغي أعادتها إلى خزينة الدولة , أذن من يمُول الحرب على داعش؟ وكيف يتم الصرف على الزراعة والتعليم والصحة والخدمات؟. هذا ما تجُيب عنه الأشهر القادمة .
لذا نرى حركة الإصلاحات الأخيرة التي أطلقها السيد رئيس الوزراء/ الدكتور حيدر العبادي فيها حيف كبير سيقع على غالبية الموظفين والمفكرين والمبدعين بما فيهم المهاتما غاندي وهو في قبره, كذلك أساتذة الجامعات وموظفي الكهرباء والنفط شريان الاقتصاد العراقي وقلبه النابض , بتعديله قانون رواتب موظفي الدولة رقم 22 لسنة 2008, وكأنه أطلق مزاميره الإصلاحية عليهم وترك السارقين والعابثين يعبثون , وهو يعيش حالة يأس وقنوط من إعادة الأموال المسروقة إلى خزينة الدولة , وليس لديه القدرة الكافية على تفعيل الصناعة والزراعة و السياحة الدينية التي تدر ذهباً بسبب المجاملات مع الآخرين , فذهب إلى الموظفين الذين أتعبتهم الحروب والحصار الاقتصادي لكي يخفض رواتبهم بطريقة دراماتيكية فاخذ من فئة ليعطي للأخرى , وهو لا يعرف بسبب تواجده خارج العراق آنذاك , بان الفساد في زمن النظام السابق سببه هبوط الدينار العراقي إلى الصفر عندما عالج النظام السابق قلة الإيرادات بطبع عملة كثيرة وضخها في السوق ,متناسيا إن الموظف لديه الرغبة الدائمة في تلبية احتياجات أطفاله وتحسين مستواه المعيشي ويعتريه الخوف من التعرض لإحداث ومواقف طارئة في المستقبل مثل المرض والإحالة على التقاعد , لذلك سوف يعود الموظف مرة أخرى إلى دائرة الفساد ويحلل أموال الدولة المسروقة , محملا العبادي وحكومته المبجلة ذنوبه في الحياة الدنيا والآخرة …. وكما قال فيلسوف الهند الخالد – المهاتما غاندي – ( الحقيقة هي الحقيقة ولو كان الجميع ضد واحد ).