18 ديسمبر، 2024 7:43 م

بين الخرطوم و تل ابيب !!

بين الخرطوم و تل ابيب !!

اللغط الذي اثاره لقاء رئيس مجلس السيادة الانتقالي برئيس حكومة الدولة اليهودية “اسرائيل” ليس جديداً علي مسرح العبث السياسي السوداني، فهو قريب شبه بلغط اثاره تصريح لنائب رئيس الوزراء المعين ‘عقب حوار الطرشان’ مبارك الفاضل المهدي عام 2017م، قلنا حينها ان التصريح لا يستحق التوقف عنده لأنه بلا قيمة و مطلقه كذلك .. لكن لأن سب اسرائيل في خطابنا السياسي تكسبت منه حكومة الاسلاميين ردحا و كذا سلم المناداة بالتطبيع صعد به نفر من غمار المعارضين و المغامرين من لدن عبد الواحد الي تراجي واخرين؛ فهؤلاء هم النظير المقابل لدبلوماسية (لن ترضي عنك اليهود .. حتي تتبع ملتهم) الانقاذية!
لكن من المفيد التوقف و القاء ضوء علي معادلة العلاقة الصفرية بين تل ابيب والخرطوم.
لم يكن موقف السودان من قيام و تصرفات دولة الكيان اليهودي بدعا او منفردا بل كان ضمن نسيج منظومة الدول الداعمة للتحرر الوطني والمناهضة للاستعمار بكل اشكاله و كانت تلك المنظومة تمتد من اسيا الي اميركا اللاتينية عبر افريقيا وشملت دول ايضا من شرق اوروبا و غربها كذلك؛
ثم كانت في لب هذه المنظومة نواة تشمل كل الدول العربية والاسلامية وكان السودان ولايزال كذلك عضوا اصيلا في هذه النواة..
صحيح ان الزمان ماعاد نفسه ذات الزمان و ان حلف الدول المناهضة للاستعمار والفصل العنصري قد تآكل و اهترأ بعد انهيار جدار برلين و تفكك الكتلة الشرقية و قبلها تفكك عري حلف دول عدم الانحياز تحت وطأة ضربات القطبين، لكن السبب ايضا ان قوي مهمة في المنطقة وقلبها ‘فلسطين’ كانت حريصة علي ان تقبض علي القضية بكلتا يديها وان تحتكرها و تتكسب منها بشعارات اسلامية وتهمش الحلف العالمي !!
المهم نجحت اسرائيل في فك الطوق العالمي ثم نفذت للطوق الداخلي ‘العربي والاسلامي نفسه’ بينما نجحت القوي العربية والاسلامية التي احتكرت القضية في تسويق نفسها وان كان ذلك علي حساب قضيتها ذاتها.
وموقف السودان قديما كان متسقا مع محيطه العالمي والاقليمي، كان رافضا للاعتراف او حتي التفاوض مع الاحتلال الصهيوني، اما اسرائيل فلم يكن السودان علي قائمة اهتمامها و اولوياتها، ثمة حوادث قليلة منها اجتماع رئيس حزب الامة بممثلي اسرائيل بسفارتها بلندن، و طلب جوزيف لاقو قائد الحركة المتمردة الجنوبية ‘الانانيا 2’ دعما من اسرائيل في حربه ضد حكومة العرب في الخرطوم ‘حسب عباراته في لقاء تلفزيوني: قلت للاسرائليين انتم تحاربون العرب وانا احارب عرب في افريقيا اذا عدونا واحد ويجب ان تساعدونا’ حينها بعثت اسرائيل فريق من الموساد لتقييم احتياجات حركة الانانيا وقامت بمدهم ببعض المؤن والاسلحة الخفيفة؛ كان ذلك اول ظهور للسودان في الاضابير الرسمية للدولة اليهودية ولم يكونوا قبلها يعرفون شيئا عن السودان!!
في عهد الرئيس نميري تمت بوساطة اميركية عملية تهجير الالاف من يهود اثيوبيا ‘الفلاشا’ عبر مطار الخرطوم و ‘الشوك’ بشرق السودان، وهي من اكبر عمليات النقل التي خطط لها الموساد الاسرائيلية وشاركت فيها مخابرات اميركا والسودان ‘عملية موسي’، وعلي ما يبدو كان تعنت النظام الاثيوبي الشيوعي حينها و رفضه لتهجير مواطنيه واضطراب الاوضاع في المنطقة بسبب النزاعات و الجفاف دور في جعل الاسرائيليين يضطرون للتنسيق عبر المخابرات الامريكية مع السودان، وبلا شك فان تلك الصفقة احتوت بنود غير معلنة غالبا ما يكون منها وقف الدعم الاسرائيلي للتمرد الذي اندلع حديثا وقتها ( 1983 ).
واخيرا عند مع تصاعد نبرة المزايدة بالقضية الفلسطينية من قبل حكومة البشير و قبل انفراط حلفها مع محور طهران-دمشق- غزة كانت السلطة ضالعة في تمرير سلاح ايراني عبر الصحراء المصرية الي كتائب حماس ما تسبب في عدة غارات جوية اسرائيلية علي اهداف ثابتة ومتحركة بشرق السودان و المجمع الصناعي العسكري الذي بناه الايرانيون بالخرطوم.
العجيب ان الخرطوم و تل ابيب تتفقان في التكتم عن الاعلان عن تلك الغارات!!! كأنها لم تحدث؟!
موقف الدولة السودانية منذ سيطرة الاسلاميين علي الحكم (القائم علي المزايدة السياسية بالقضية الفلسطينية) قوبل في الجهة الاخري بصعود تيار معارض يزايد بدوره بالتخلي عن دعم القضية الفلسطينية، وهو تيار كان ولا يزال منعزل ويحاول التكسب اعلاميا وسياسيا ليس بالتخلي عن مساندة المطلب العادل للشعب الفلسطيني بل يتجاوزه للاتجاه نحو التطبيع الكامل مع الدولة اليهودية، ولم يكن نائب رئيس الوزراء وزير الاستثمار مبارك المهدي ( سليل الامام المهدي قائد الثورة الدينية ضد الدولة العثمانية في حقبة تحللها) لم يكن السباق الي هذه الدعوة وان كنا نرجو ان يكون الاخير؛ فقد سبقه جوزيف لاقو ( قائد الانانيا ونائب الرئيس نميري) كما سبقت الاشارة و عبد الواحد نور احد قادة فصائل دارفور وعدد من الناشطين والناشطات..
السؤال هو الي اي مدي تعتمد تلك الدعاوي علي منطق او مصلحة مشروعة؟؟ في الواقع لا يصح مقارنة المصلحة بالمبادئ، هذا اولا؛ فوجود مصلحة مع غاصب لا يعني بحال ان دعمه و التطبيع معه هو خيار عقلاني والتخلي عن مساندة المظلوم امر يمكن تبريره!!!
ثم ان معظم دول العالم الثالث التي تحولت عن دعم الفلسطينيين تحت وطأة الضغوط الاسرائيلية المسنودة من اميركا وحليفتها بريطانيا واهم من ذلك ضغط خذلان الدول ‘القومجية’ و الجماعات الاصولية التي اختطفت القضية لصالح اجندة تخصها وحدها؛ تلك الدول طبعت مع اسرائيل ولم تجني شيئا يذكر وآخرها كانت دولة جنوب السودان التي تركت تواجه مستقبلا غامض.
ان عداء السودان او بالأصح عنتريات نظام البشير لم يضر الدولة اليهودية في شئ و بالتأكيد فان التطبيع ايضا لن ينفع السودان في شئ، اذا من المهم توضيح ان السودان لن يتولي بعد اليوم كِبَر مسؤولية الصراع ضد اسرائيل و لن يرسل سلاحا من احد لحماس أو غيرها من متاجري العنف، كما انه بالمقابل لن يتنازل عن مبادئه في ادانة الاحتلال و عنف الدولة و الاستيطان و العقاب الحماعي، و ان السودان لن يكون حقل تجارب لمشاريع تطبيع تسوق لها هذه الدولة أو تلك!