اثبتت تجربة سنوات ما بعد الاحتلال فشل تجربة التاسيس لحكومة دينية في العراق، وكذلك تراجع مستوى التأييد الشعبي لها، لأن ما يعلن باسم الفضاء الديني يتقاطع جملة وتفصيلا مع السلوك السياسي لنفس الأشخاص، اضافة الى أن الجمع بين عباءة الدين وثوب السياسة يخلق خللا في المفاهيم، لذلك تنوعت عناوين الفساد وتعددت أوجه الانغلاقات ، فيما الصحيح ترك الدين لعبادة الله وتفعيل السياسة لخدمة الوطن والمواطن بعيدا عن تخدير الأعصاب عبر طروحات لا علاقة لها بما يجري على الأرض.
أن واحدة من أقسى عناوين الفشل الأمريكي في العراق تتمثل في توزيع مقامات المسؤولين على كل التفرعات العرقية والمذهبية، وكأن ” وجهاء ” واشنطن ارادوا تمييع صورة العراق المدني الأكثرانسجاما ومقبولية عبر توزيع دمه الوطني على “القبائل السياسية”، حتى يضيع “رأس الشليلة” ، كما يقول العراقيون، وبالتالي اختراق الهوية المدنية والثقافية العراقية من ” خاصرة التناحر وتغييب الحريات الشخصية”، فيما ظل العراق فريدا من نوعه في تركيبته السكانية، التي لم تكن يوما نقطة ضعف أو تناحر، بل ظلت عنوانا متميزا في التوافق الوطني.
العراق يتشكل من أغلبية مسلمة، وليس في الأمر أدنى خلاف ، وقد تعايش الجميع ضمن هذه الأجواء، فكل فريق يحترم شعائر الأخر، طالما غلفها حب الوطن والغيرة على استقراره، ولأن الأسلام بالأساس ضد التعصب والتوظيف الخاطيء للقيم والمفاهيم، ولأن حقوق الأديان في الدولة المدنية مصانة بتشريعات وقوانين منسجمة مع طبيعة التكوين الاجتماعي العراقي، وتأخذ بالحسبان ان الدين لله والوطن للجميع بلا وصاية أو استعلاء، نقول لهذه الأسس المنطقية ظلت المؤسسات العراقية متميزة في الأداء، لأن الولاء بعد الله للعراق.
ان العودة الى ثوابت الدولة العراقية ضرورة ملحة، طالما أنها لم تؤسس يوما لفتنة داخلية، ثم حان وقت ترك السياسة للسياسيين، وصيانة القيم السماوية من أصحاب المقامات الدينية المتسامحة، الذين يميزون بين فن المراوغة السياسية ، وبين قول الحقيقة كاملة كما تفرض ذلك الثوابت والشعائر الدينية ، ذلك لأن حشر الدين في السياسة اساءة مؤلمة لقيم العدل والانصاف ونصرة المظلوم، كما انها تغطي على سوء في ادارة الدولة ما يتقاطع والقيم الدينية.
سيقول عنا بعضهم كثيرا، وسيتهمنا أخرون بما هو أكثر، لكن ما سيخفف من صدمتنا ، هو تشخيصنا لخلل في التعاطي اليومي مع السياسة والدين، أحتراما منا وتبجيلا لقيم الله على الأرض، لذلك نجد من الضروي تجاوز كل ” الوصفات” الأمريكية غير المناسبة لتركيبة العراق، و غسل اليدين من كل نصيحة غير منصفة، مثلما نؤكد أن كل ما يقال عن اضطهاد وتسويف حقوق دينية وعقائدية هو وهم، فهناك فهم خاطيء لكيفية المحافظة على قدسية الأديان ، لأن فرقاء السياسة يوظفون كل شاردة وواردة لخلق اصطفافات وتكتلات وتحقيق الأكثر من المكاسب، وبما يوفر لهم أوضاعا مريحة، هي أفضل ملايين المرات من حال العراق المدني، بعد أن تسللت التوجهات الدينية لتصيب هرم الدولة في الصميم، وتؤسس لتناحرات لم يعرف العراق أخطر منها في تاريخه.
لقد ظل العراق متميزا في التسامح والثقافة والتأثير العالمي ، بل كان مركز الاستقطاب الاقليمي والدولي، لذلك عندما ” تضعضعت” أحوال دولته المدنية تزعزعت ،وبشكل واضح، موازين القوى بالمنطقة ، وكأن العراق كان ممسكا بالعصا من النصف، مستمدا قوة اضافية من توزيع منصف للحقوق الانسانية على جميع مواطنيه بلا تمييز ديني أو غيره، مثلما تسلب ارادتهم بنفس الطريقة، بسبب اجتهاد سياسي مشكوك في عفته، ضمن اطار الدولة المدنية، رغم توجهات مدفوعة الثمن لمجاملة مرحلة، والبناء على أخرى برغبة سياسية ناضجة، أوغير موفقة في اغلب الأحيان..
ونحن هنا لا نتدخل في مزاجيات السياسيين وتصوراتهم لما سبق حالهم من مراحل وتجاذبات
، مثلما نحن على ثقة كبيرة من أن غالبية مطلقة من رجال الدين يشعرون بحرج كبير من محاولات جرهم الى ميدان السياسة، فهي ليست ملعبهم المفضل، ولم يتعودوا توزيع صكوك الغفران على السياسيين أو رجال الحكم، ما يجعل من رفضهم ، وبأعلى صوت، لمحاولات حشرهم في معترك السياسة ، من الضروريات لاحترام حقوق الله في خلقه.
وبالمقابل فقد اثبتت التجربة تجاوز كل الممكن في قدرة السياسيين على ترك الدين لأصحابه، والاجتهاد في مسؤولياتهم، التي لم يحصلوا عليها من المنابر الدينية بل عبر التحالفات والأجندات السياسية بكل أشكالها، فماذا تغير في النفوس كي ينحتوا في الصخر للمزج بين السياسة والدين!! هل هو ضعف التواصل الاجتماعي ، أم لأن القارب السياسي غارق في وحله بسبب أجندات تمس هيبة العراق وأهله، أو لأن التوظيف السياسي للدين له تاثيره المباشر على المواطنين، بعد أن جرى توظيفه بطرق مختلفة وحقق ما ينتظره السياسي رغم خروج المواطن من المولد ،كعادته، بلا حمص، وهو ما يتطلب وقفة جادة من كل الخيرين لتغيير قوانين اللعبة لصالح فصل الدين عن السياسة، حتى وأن حاول بعضهم الالتفاف على الحقيقة من باب الخوف أو التضليل او خلط الأوراق، فالعراق لم يكن يوما ملكا صرفا لفئة دون غيرها، ولا يصلح لمقامه العالي أن يكون متخندقا خارج كبرياءه الوطني!!
ونحن هنا نتحدث عن مشروع وطني عابر لكل المحاصصات والتخندقات غير المنطقية، والتي أخفقت في تحقيق الممكن من التكاتف الشعبي معها، لأنها غريبة عن مزاج العراقي، الذي يعشق خصوصيته بلا ضجيج أو تهويل ، لا بل أنه يأنف السيرعلى خيوط متداخلة، فهو يعرف أن عراقيته مفخرة وكبرياء اضافي، وان محاولات النيل منها تعني تقطيع أوصال الجسد الواحد، فكل أزقتنا وشوارعنا وحاراتنا عراقية الهوى والمزاج وستبقى كذلك، تنام متأخرة وتصحو مبكرة يلفها خشوع متوارث للعزيز القدير ،وحب غير مفتعل لعراق كان وسيبقى عنوان الكبرياء والتباهي، فمتى يفيق البعض من غفلة الزمن العاثر، ويعرفون أن محاولات حرق الأخوة العراقية مخالفة لقيم السماء والأرض، وأن الطريق الصحيح يبدأ في العودة الى المشروع الوطني غير المؤدلج الا بحب العراق وأهله والتسابق لخدمتهم جميعا!!
رئيس تحرير ” الفرات اليوم”
[email protected]