يَحلم آلاف الشباب العرب وغيرهم أن يدخلوا إلى تخصصات الطّبّ البشريّ وذلك كون هذه المهنة من المهن التي تدرّ الأموال الطائلة وتمنح أصحابها “مكانة اجتماعية رفيعة“!
ويُفترض بالعاملين في المجالات الطّبّيّة من الأطباء والممرّضين والصيادلة وحتى سائقي الإسعاف أن يَمتازوا بقدر جيّد من الرحمة والرأفة والرفق بالناس، لأن مهنتهم تتعلّق بالإنسان الضعيف، والمريض المحتاج لأبسط اللمسات الإنسانية الرقية المخففّة للآلام والأوجاع!
ولكن، مع الأسف، صارت مهنة الطّبّ لدى نسبة ليست قليلة من الأطباء بوّابة لسحق أموال المرضى، الذين، ربما، يضطرّون لبيع أغلى ممتلكاتهم للتخلّص من الآلام والأسقام!
ومع هذه الأجواء السقيمة تَبرز لنا العديد من الصور السليمة في العالم، التي تُظْهِر ثُلّة من الأطباء الذين نَذروا أنفسهم لخدمة الناس، وبالذات الفقراء منهم، دون أيّ مقابل مادّيّ!
وهذا الأمر متوقّع وممكن ولكن حينما يتعلّق الأمر بالحياة والموت والعمل في ظروف إنسانية قاسية فهنا تكون مرحلة التمايز الحقيقي!
والطبيب الإنسان يعمل في أوقات السلم والحرب، ولكن الأطباء الأوفياء هم الذين يعملون في مناطق القتال وبإرادتهم ورغبتهم،وهم قلّة قليلة!
وعند المقارنة بين ظروف السلم والحرب لَكَ أن تتخيّل غالبية العيادات الطّبّيّة العامّة والخاصّة وهي تنعم بالرفاهية والأجهزة الحديثة والديكور والأثاث المميّز، وبقية صور التنعّم والترفيه، وبالمقابل لَكَ أن تتخيّل مستشفيات غزّة وأوضاعها المأساوية تحت نيران الدبابات “الإسرائيلية“ والصواريخ الدقيقة والبعيدة المدى والطائرات المسيّرة، وفي ظلّ هذه الأجواء المليئة بالخوف والرعب والموت نجد ثلّة من العاملين في المستشفيات قرّروا الصمود والثبات ومعالجة الجرحى في أوضاع صعبة لدرجة أنهم اضطرّوا في مراحل طويلة اجراء العمليات الجراحيّة دون تخدير موضعي أو عامّ!
وقد أكّدت وزارة الصّحّة الفلسطينية مقتل أكثر من 1000 طبيب وعامل في القطاع الصّحّيّ، وكذلك اعتقال أكثر من (350) فردا من كوادرها منذ 7 أكتوبر 2023، استشهد ثلاثة منهم داخل السجون “الإسرائيلية“!
ولا خلاف بأن كلّ فرد فلسطيني في غزّة يستحقّ أن يُذْكر وباسمه وبالفخر والاعتزاز، ولكن، ولصعوبة هذا الأمر، سنركّز على الجانب الصّحّيّ، وسنلخّصه بحكاية الطبيب “حسام أبو صفية“!
والرجل طبيب فلسطيني مختصّ بطبّ الأطفال، وكان يُديرمستشفى “كمال العدوان“ شمالي غزّة!
وقد قرّر، ومعه رفاق المهنة، الثبات والصمود في مواقعهم، وهذا الموقف يعلمه قادة الاحتلال الذين حذّروه لأكثر من مرّة!
وقد عانى عموم أهالي غزّة، ومنهم العاملون في القطاع الصّحّيّمن الحصار “الإسرائيلي“ الذي فُرِض بداية تشرين الأول/ أكتوبر 2024 ومنعوا عنهم الطعام والماء، وكثّفوا عليهم هجماتهم العشوائية الجنونية!
وبعد الحصار بثلاثة أسابيع اقتحم الاحتلال مستشفى العدوان،واعتقلوا “أبو صفية“ ومئات المصابين والطواقم الطّبّيّة، ثم أَُفْرِج عنهم بسبب الضّجّة الإعلامية التي تَلَت فعلهمالهمجي!
ورغم اصابته بجروح خطيرة بعد استهدافه بطائرة مسيّرة، ورغم استشهاد ابنه في غارة جوّيّة، ورغم جميع الصعوبات والتحدّيات رفض “أبو صفية“ مغادرة المستشفى، وبَقِي صامدا كصمود بقيّة الفلسطينيين!
وفي نهاية المطاف اعتقلت “إسرائيل” الطبيب “أبو صفية” قبل نهاية العام 2024 بثلاثة أيّام بعد أن سار إليهم بنفسه وسط الركام، وأخذوه بدبّابة لوحده، وحتى اليوم هو رهين الحبس والاعتقال!
وهذه التصرفات الصهيونية خلاف القاعدة (28) من القانون الدولي الإنساني العرفي، والمؤكدة على وجوب “احترام وحماية الوحدات الطّبّيّة المخصّصة لأغراض طبّيّة“!
وظهر “أبو صفية”، يوم 19 شباط/ فبراير 2025، من داخل المعتقل في مقطع مصوّر نشرته القناة “13” العبرية، وهو مكبّل اليدين والقدمين ويبدو عليه الإرهاق والتعب!
وهكذا تستمرّ قناعة الأحرار بأن سبيل التحرير مُعَبّد بدماء الشهداء، وثبات رجال المقاومة، والأطباء وعموم المواطنين الفلسطينيين!
استهداف “إسرائيل” المستمرّ للكوادر الطّبّيّة سيُضاف لسجلاتهم المليئة بالانتهاكات الإرهابية، وبالمقابل سيَكتب التاريخ مواقف أهل غزّة بمداد البهجة والفخر والاعتزاز!
@dr_jasemj67