إن التجربة السياسية في العراق تعد من أهم التجارب في المحيط الإقليمي, فلا يختلف اثنان من الجانب النظري؛ على إن التجربة الديمقراطية في العراق تجربة حضارية بامتياز قل نظيرها في المنطقة, لما تتمتع به من شفافية في الممارسة والآليات والإجراءات , فمن حيث المبدأ (الانتخابات) تعد الوسيلة الأنجع والأكثر قبولا إن لم تكن هي الوحيدة لإضفاء الشرعية لتشكيل الحكومات والأنظمة, وذلك من خلال شمولية حق الانتخاب وعدم حرمان أي عنصر من حق المساهمة في العملية السياسية وإبداء الرأي وحرية الاختيار, الأمر الذي ساهم كثيرا في قطع الطريق أمام الإقصاء والتفرد.
إلا إننا ومع كل هذه التجارب التي رافقت العملية السياسية منذ عام 2003 وحتى اليوم, لا نستطيع إن نجزم بان المتصدين للعمل السياسي في العراق تمكنوا من الارتقاء وعبور التخندقات الطائفي فضلا عن الحزبية منها! فما نلاحظه اليوم من مناكفات وصراعات ومحاولات القفز على الثوابت, ما هو إلا مؤشر واضح على إن العملية السياسية غير مكتملة الأركان, وأنها مازالت في طور مراحلها الأولى من البناء على أحسن التقادير.
إن التطورات السياسية الأخيرة وما أفرزته انتخابات 12 مايو 2018, وعلى الرغم من وجود بعض الملاحظات وما تخللها من مشاكل وإرهاصات , إلا إنها استطاعت (الانتخابات) وبإرادة جماهيرية, من تغيير الكثير من المعادلات والتوازنات ورسم خارطة أخرى جديدة غير متوقعة لمعظم المشاركين من الأحزاب و التيارات, فأطاحت بالكثير من الرؤوس ممن كان في صدارة العمل السياسي, ليكون كورقة شجر هشيم تذروها الرياح, مما دفع بالكثير ممن خسروا هذه اللعبة إلى المشاغبة والتحاذق في صناعة الأزمات وزيادة حدة التوترات, فكان التشكيك بالانتخابات ونزاهتها هي من أسهل الطرق لتبرير خسارتهم لأكثر من 70% من مقاعدهم في البرلمان القادم, والأمر الأخر الذي دفع بهذه الأحزاب إلى التحاذق في صناعة الأزمات والتشكيك بالنتائج وتأخير المصادقة عليها, هو من اجل إطالة أمد بقائها في السلطة إلى أطول فترة ممكن لتمرير ما يمكنها تمريره من أرادات وأجندات, كما وإنها بهذه الخطوة تحاول وبطريقة ما من تسليط الضوء عليها لتكون محط أنظار القوائم الأخرى الفائزة حتى لا تستبعد من مفاوضات تشكيل الحكومة, مقابل الكف عن مشاغبتها في إثارة أزمة العد والفرز اليدوي وما يلحقه من تبعات, كما لا يفوتنا أيضا إن نذكر إن هنالك إرادات خارجية ومساع دولية تعمد إلى تحجيم بعض الكتل الفائزة على حساب كتل أخرى, فالصراعات الإقليمية لها دور كبير في رسم السياسة العراقية, وهذا واضح بين للعيان.
نعم, قيل قديما إن السياسة هي فن الممكن, وانه لا يوجد فيها عدو دائم ولا صديق دائم , إنما المصالح هي الحاكمة والمتحكمة في البناءات السياسية وإستراتيجياتها العامة, فالسياسية هي عبارة عن شبكة متداخلة من المصالح والإرادات, ومن الطبيعي إن هذه المصالح إن لم تصب في مصلحة البلد والمواطن بشكل عام, فليس لها أي قيمة تذكر, فالمصلحة العامة يجب أن تتجسد في تنمية العنصر البشري في المجتمع خير تنمية وتحقيق التقدم المادي والمعنوي, في العدالة والاستقرار الاجتماعي والتطور. لا نريد إن نستغرق في هذه الجزئية وما لها من تفاصيل, بقدر ما نريد إن نصل إلى إن غياب الروح والوطنية وتغليب المصلحة الحزبية والشخصية لدى معظم المتصدين للعمل السياسي, قد خلق فجوة واسعة بين المواطن والسياسي مما أدى إلى انعدام الثقة انعدام تاما, حتى أصبح العمل السياسي في العراق, خطيئة تدور حولها الشبهات وتحيطها من كل جانب, وما هو بالحقيقة ألا انعكاس طبيعي, ظهرت تجلياته بشكل واضح من خلال نسبة المشاركة المتدنية في الانتخابات الأخيرة, التي عبرت عن رسالة غضب واستياء شديد من الواقع السياسي القائم, فلم يلمس المواطن طيلة السنوات الماضية من هذه التجارب والممارسات الديمقراطية أي تطور ملحوظ , في كافة القطاعات, الخدمية , والصحية والأمنية والاقتصادية وغيرها , مما تسبب في أزمة ثقة بين الشارع وعموم الطبقة السياسية. فلا بد من قراءة هذه الرسائل بشكل دقيق, والبحث عن الحلول والمعالجات, من اجل الحد من تفاقم هذه الأزمة التي قد تجر البلد إلى مشاكل أكثر عمقا مما هي عليه, وتجنب برميل البارود ونزع فتيله قبل فوات الأوان…