في العام 1908 كان بيكاسو ( الذي ولد في اسبانيا العام 1881 ) شابّا فقيرا ومجهولا وعاشقا ( كعادته طبعا !) , وكان يعيش (بعد انتقاله الى فرنسا) مع حبيبته فيرناندا اوليفيه في غرفة بمنطقة مونمارتر الباريسية ( مكان الرساميين ومقرهم في باريس لحد الان ), و تقع تلك الغرفة اسفل الطابق الارضي في البناية , اي ( سرداب ), وهناك كان مسكنه ومرسمه . زاره صديقه الفرنسي الشاب هنري ماتيس ( الذي سيصبح رساما عالميا ايضا ) ومعه رجل يهوى جمع اللوحات الفنية اسمه سيرغي شوكين , وهو روسي , والذي اعطى تقييما دقيقا وصحيحا لابداع هذا الرسّام الشاب الاسباني , واشترى منه لوحتين بسعر كان يعدّ خياليا في ذلك الوقت . واستمر الروسي شوكين بزيارة مرسم بيكاسو الى عام 1914 , و اصبح زبونا دائما له, واشترى منه خلال هذه الفترة 50 لوحة ( والكثير منها الان يعتبر من ضمن اللوحات المتميزة والشهيرة لبيكاسو) . وهكذا استطاع بيكاسو الانتقال الى منطقة مونبرناس وشغل مرسما واسعا وجديدا بفضل هذا الزبون الروسي . وليس عبثا , ان الباحثين الروس يعتبرون هذا ( التعارف!) بين بيكاسو و شوكين هو نقطة مهمة جدا في تاريخ العلاقات الوديّة ( ان صح التعبير ) بين بيكاسو وروسيا طوال حياته . ويتحدث الباحثون الروس ايضا عن الزوجة الاولى لبيكاسو , وهي راقصة الباليه الروسية اولغا خوخلوفا , التي تزوجها بيكاسو العام 1918 , واستمر زواجهما حوالي عشر سنوات ( رغم انهما رسميا كانا يعتبران متزوجين الى عام 1955 ) , وهي التي ولدت له اول طفل في حياته , ويعتبرون زواجه هذا عاملا مهما ايضا في تعميق تلك العلاقات الروحية بين بيكاسو وروسيا .
كان لبيكاسو علاقة مع الكثير من فناني المسرح الروسي , الذين كانوا يزورون باريس , وكذلك مع الادباء والشعراء الروس , ولعل ابرز تلك الاسماء كان المخرج المسرحي الشهير ميرخولد , الذي قدّم العام 1930 في باريس مسرحية غوغول المعروفة – ( المفتش ) , ويقال , ان بيكاسو كان يتابع كل تلك العروض بشكل دائم تقريبا, و حتى انه اراد ( اي بيكاسو ) ان يشترك مع هذا الفنان الروسي بتقديم مسرحية ( هاملت ) على خشبة المسرح , الا ان السلطات السوفيتية آنذاك لم تسمح بهذا التعاون الفني بينهما, وعندما تم اعدام المخرج المسرحي الكبير ميرخولد العام 1940 من قبل الاجهزة الامنية في روسيا السوفيتية ( تم اعادة اعتباره بعد وفاة ستالين) , صرح بيكاسو , انه يعدّ هذه العملية الرهيبة ( ضربة هائلة له شخصيا ).
ومن بين الشخصيات الروسية البارزة في العلاقات مع بيكاسو هو الشاعر ماياكوفسكي , وقد تعارفا العام 1922 . كان ماياكوفسكي من المعجبين بفن بيكاسو اعجابا شديدا , وكتب عنه مرّة قائلا , ان بيكاسو هو – ( …أكبر الفنانين التشكيليين حجما وأهميّة .. في الفن التشكيلي العالمي ..) , وبيكاسو بدوره كان معجبا ايضا بماياكوفسكي , وقال عنه , انه معجب به لأن ماياكوفسكي لا يخضع لمسيرة التاريخ , وانما يحاول ان يساهم في عملية خلقه و صياغته.
وعند الكلام عن بيكاسو وروسيا , يجب التوقف عند ايليا ايرنبورغ حتما , والذي تمتد صداقته مع بيكاسو اكثر من نصف قرن . ان العلاقة بين بيكاسو وايرنبورغ تعدّ موضوعا قائما بحد ذاته في تاريخ الفكر الروسي , وتوجد فعلا عدة دراسات تفصيلية عن هذا الموضوع باللغة الروسية , حيث يتناول الباحثون الروس ما كتبه ايرنبورغ في مذكراته الشهيرة , والتي صدرت بعدة مجلدات تحت عنوان – ( الناس , السنوات , الحياة ) . لقد ساهم ايرنبورغ مساهمة شجاعة جدا وذكية في تقديم بيكاسو بصورة صحيحة وموضوعية للجمهور السوفيتي , الذي كان يخضع للرأي (الرسمي !) السائد في الاتحاد السوفيتي آنذاك عن ( البرجوازي المعادي للفن الواقعي ) , هذا الرأي المتزمت والصارم والعنيف , الذي استطاع حتى ان يغلق العام 1948 متحف الفن الغربي في موسكو .
ان مرحلة ( ذوبان الجليد ) في الاتحاد السوفيتي , التي حدثت بعد وفاة ستالين (1953) قد ساعدت – بلا شك – على اعادة النظر في الآراء المتزمتة التي كانت سائدة عندئذ , ومنها الموقف من بيكاسو طبعا, وهكذا تم افتتاح معرض خاص له العام 1956 في موسكو , وكانت تتصدره لوحته عن ( حمامة السلام ) , هذه اللوحة الشهيرة التي اصبحت رمزا لحركة السلام العالمي ( المرتبطة كما هو معروف بالحركة الشيوعية العالمية) , وهكذا حصل بيكاسو حتى على جائزة لينين للسلام العالمي , واصبح اسم بيكاسو ولوحاته واقعا طبيعيا في الحياة الفنية السوفيتية آنذاك , ثم استمر هذا الوضع وتطوّر لاحقا في روسيا الاتحادية طبعا .
بيكاسو في روسيا الان – جزء لا يتجزأ من الفن التشكيلي العالمي , جزء رائع الجمال والابداع والابتكار …