تتجدّد تجارة بيع الوَهْم في دنيا الناس تماما مثلما يتجدّد شروق الشمس على أرجاء الكرة الأرضيّة كلّ صباح.
وتتنوّع صور تجارة الوَهْم بين الأوْهام الملموسة والخياليّة، والخرافيّة السياسيّة (وحتّى الدينيّة) بالنسبة للذين يُحرّفون الدين عن منابعه الصافية!
والوَهْم المقصود ليس وَهْم السحرة والدجّالين والمشعوذين المعلوم، ولكن هو دَجَل الذين يُوهمون الناس أنّهم من الأنقياء الأصفياء العاملين المخلصين، وهُم في الحقيقة من الملوّثين المكدّرين البطّالين الخدّاعين!
ومن هنا نجد أنّ انتشار أفكار الفريق المُتآمر البائع للوَهْم يتوجّب بالمقابل أن يعمل المخلصون على استنهاض هِمم المواطنين والسعي لتأهليهم للوصول إلى مرحلة إعادة بناء الوطن والإنسان واستعادة ما فُقِد ونُهِب ودُمّر من ثروات وخبرات وتقاليد صافية!
وكلامنا لا يعني أنّ الواقع مليء بالورود والزهور، والحقيقة لقد بلغت أوضاع العراق السياسيّة والاقتصاديّة والصحّيّة وغيرها لدركات متدنّية ومرعبة بعد عقدين من (الاحتلال والتغيير).
وقد أفاد البنك الدوليّ، في السابع من نيسان/ أبريل 2023 بأنّ نموّ العراق الاقتصاديّ يتّجه نحو الانخفاض في ظلّ تضخّم اقتصادات المنطقة، وأنّ اعتماد العراق على النفط فقط يعمّق من آثار الأزمة التي تعصف بالبلاد!
وأكّد البنك بأنّ كلّ شخص من خمسة أشخاص يعيشون في البلدان النامية كالعراق، وسورية، واليمن، ولبنان سيعاني على الأرجح من انعدام الأمن الغذائيّ هذه السنة.
والمذهل، أنّه ورغم الثروات الهائلة، فإنّ العراق يقع في المرتبة 78 عالميّا، والثامنة عربيّا بين الدول الأكثر فقرا للعام 2023، وفقاً لتقرير مجلّة “غلوبال فاينانس” في الأوّل من أيّار/ مايو 2023!
فأين ذهبت خيرات العراق؟
وقد حذّر وزير الصناعة العراقي خالد بتال منتصف نيسان/ أبريل الماضي من مشكلة اقتصاديّة قادمة خلال الأعوام الثلاثة أو الأربعة المقبلة لوجود أربعة ملايين موظّف بالوظائف العامّة ومخصّص لهم (60) ترليون دينار كرواتب في الموازنة، وخاصّة” إذا ما توقّفت الحرب الروسيّة الأوكرانيّة وهبوط أسعار النفط”!
وكشف تقرير يتعلّق بالاختفاء القسريّ لمنظّمة الصليب الأحمر الدوليّ بداية نيسان/ أبريل الماضي أنّها” تلقّت (43293) حالة لأشخاص اختفوا منذ العام 2003، ومِن بين هؤلاء، ما زال هناك أكثر من (26700) حالة دون أيّ جديد”!
وهذه الأرقام أكثر بكثير ممّا تقدّره حكومة بغداد، التي تقول إنّ” نحو (16) ألف عراقيّ فقدوا”!
ولم تتوقّف الكارثة عند هذا الحدّ فقد كشفت دراسة للدكتور كريستوفر باسبي في جامعة أولستر البريطانيّة، ونشرتها صحيفة الغارديان البريطانية في الخامس من نيسان/ أبريل 2023 بأنّ الهجوم الأميركيّ على العراق قبل 20 عاماً خلّف إرثاً ساماً أسوأ من قصف هيروشيما!
وقد ارتفعت في مدينة الفلوجة معدّلات اللوكيميا (سرطان الدم) بنسبة 2200 في المئة بمتوسّط خمس إلى عشر سنوات فقط بعد القصف الأميركيّ، قياسا بنسبة أولئك الذين يعيشون بالقرب من مكان القصف النوويّ في اليابان والتي بلغت 660 في المئة، بعد مرور 12 إلى 13 عاماً على القنبلة!
وهكذا تتواصل الجنايات الأمريكيّة بحقّ العراقيّين، وتستمرّ حكايات الرعب والموت، ولكن هل نستسلم ونرفع الراية البيضاء وندفن العراق؟
أتصور أنّه، ومع هذه الصور السوداويّة القاتمة، ينبغي أن نتحدّث عن الأمل والمستقبل المزدهر وغيرها من الصور الباعثة للحياة والقاتلة لليأس.
إنّ الدعوة لبثّ روح الأمل جزء من رسالة الذين يحبّون الوطن، وإلا فإنّ الطبيب الماهر يُفترض به ألا يزرع اليأس في قلوب (المرضى) وألا يقطع الأمل بالشفاء!
مَن يُريدنا أن نزرع اليأس لدى الناس مع تشخيصنا للواقع غير الصحّيّ، فإنّ هذا النموذج (المخلص) مخطئ جدا، وطريقنا الذي لا نتراجع عنه يعتمد على تشخيص السلبيّات مع زراعة الأمل واجتثاث القنوط واليأس من العقول والقلوب والنفوس!
لنزرع الأمل في نفوس العراقيّين من أجل غد مليء بالعمل والجدّ والمثابرة لأنّ هنالك نسبة ليست قليلة من السياسيّين الذين فهموا اللعبة يحاولون زرع اليأس في الشارع لأنّهم فهموا أنّ الإنسان اليَائِس لا يختلف عن الإنسان الميّت، ولا يُميّز بين الحياة والموت، ولأنّ القنوط يَدفن العمل والمثابرة وبهذا يُقْتَل حبّ الحياة والسعي للتغيير والنهوض بالوطن والمواطنين، وبالنتيجة تستمرّ المأساة!
إنّ ثقتنا كبيرة بالله ثمّ بالعراقيّين الأحرار بأن يعملوا لبناء العراق والنهوض بهذا المارد من بين الركام لعمارة الوطن الجامع للمسلمين والمسيحيّين والصابئة والايزيدين، والعرب والكرد والتركمان وغيرهم من مكوّنات الفسيفساء العراقيّة المتلاحمة والمتماسكة.
العراق أمانة في أعناقنا، والكلمة الباعثة للعمل والأمل جزء من المسؤولية الأخلاقيّة والسياسيّة والإعلاميّة والدينيّة، والكلمة الباعثة للخنوع واليأس جزء من المؤامرات المتنوّعة التي تحاك ضدّ العراق الصابر الجريح!
حُبّنا للعراق لا تزيده تقلّبات الزمان إلا إحكاما في العهد، وتثبيتا للوعد، وتمسّكا بالحياة والأمل، وهذا الثبات سيوقف العراق على قدميه قويّا شامخا ليكون خيمة مليئة بالأمن والخير والسلام والمحبّة لكلّ المواطنين!
وهنا نكرّر ما ذكرناه سابقا:
صبر العراقيّين سيثمر قريبا، وستشرق عليهم شموس الحرّيّة والعدل والتعليم والصحّة والعمل، وحينها سيكون حاضرهم ومستقبلهم مليئا بالأفراح وخاليا من المنغصات، والقنوط، والظلم والظلام.
dr_jasemj67@