في كل مراحل التاريخ ومنذ فجر الإنسانية ، كانت وما تزال كل الثورات والحركات التصحيحية تبدأ برجل وان كتب لها النجاح يتحول هذا الرجل إلى أمة ، تؤمن بنهجه وتسير على خطاه ، وقد شكل هذا المنطلق الأساس لجميع الديانات السماوية الرئيسية التي وجدت على هذه الأرض ، إلا أنها تميزت عن غيرها من الحركات الوضعية بأنها جعلت لكل نبي وصي أو أوصياء يتحملون عبئ ووزر الرسالة معه ويكونون من بعده مرجعية فقهية وتربوية للناس يفسرون الشريعة لهم ويوضحون ما خفي منها أو ما استحدث عليهم في أمور دينهم ودنياهم .. بعث الله نبيه موسى (ع) الذي حاول إعادة إحياء ديانة التوحيد في مجتمع كان يمثل حكامه أنصاف آلهة ، وحين أمره الله بالذهاب إلى فرعون ودعوته إلى الإيمان بالله الواحد ، ناء بحمل المسؤولية وثقلت عليه وهو من الأنبياء أولي العزم عندها طلب من ربه أن يجعل له نصير ومعين على مواجهة مثل هكذا موقف ، فدعا ربه كما جاء في سورة طه..( قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا انك كنت بنا بصيرا)… وقد جاء في التفسير الكبير للرازي .. ( إن الله تعالى لما طلب من موسى عليه السلام الذهاب إلى فرعون وكان ذلك تكليفا شاقا فلا جرم أن سأل ربه أمورا ثمانية )..
وحين أرسل الله تعالى نبيه عيسى (ع) إلى بني إسرائيل ليصحح النهج المخطوء الذي ساروا عليه وتشويههم للحقائق والشرائع السماوية ، كانت أولى مهامه هي البحث عن أنصار لهذا الدين يكونون النخبة والأداة التي ستساهم في نشر دينه الجديد فقال كما جاء في سورة آل عمران .. ( فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار لله أمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ) ..
وفي ارض الجزيرة العربية حيث كان الشرك بالله والظلم يشكلان ثنائية اجتماعية سائدة وغالبة على عادات وطباع ذلك المجتمع البدوي المتعصب لجاهليته وانتمائه القبلي .. بعث النبي محمد (ص) ، من صلب معانات فقرائه ومعدميه ليجعل الدعوة إلى التوحيد ونبذ الأوثان والأنصاب التي كانوا يعكفون على عبادتها خط الشروع لدعوته التنويرية التصحيحية ذات الأبعاد الاجتماعية والإنسانية والسياسية الكبيرة .. فامن به القلة القليلة من أبناء قومه وكان أولهم ورائدهم زوجته خديجة الكبرى (ع) …وأخيه ورفيقه وابن عمه الإمام علي بن أبي طالب (ع)… فصدقه حين كذبه الناس وآزره حين لم يجد له ناصر أو معين ، وصلى معه حين لم يكن أحدا يعرف معنى أو ماهية الصلاة .. ويذكر ابن الأثير في كتابه .. أسد الغابة ، عن أبي أيوب الأنصاري قال رسول الله (ص)…( لقد صلت الملائكة علّي وعلى علي سبع سنين ، وذلك انه لم يصلي معي رجل غيره ) ..ّ وذكر ابن الأثير في نفس المصدر ( إن أبا طالب رأى النبي صلى الله عليه واله وسلم وعلي يصليان وعلي على يمينه ، فقال لجعفر(ع).. صل جناح ابن عمك وصل عن يساره) .. وكان لهذا الانتماء ألصميمي والالتصاق بهذا الدين ونبيه (ص) ، من قبل علي (ع) ..أن يكون مدعاة للرعاية واللطف الإلهي لهذا الكيان العظيم فنزلت في حقه عشرات الآيات التي تخلد تفانيه وتجذره بالنهج المحمدي القويم ..فقد ذكر الحافظ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي في كتابه ينابيع المودة ..( نزل في علي ثلاثمائة أية ).. وأما الأحاديث النبوية التي قيلت بحقه فهي مستفيضة وقد رواها علماء المسلمين ومحدثيهم على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم العقائدية والمذهبية حتى بلغ تعداداها أكثر من مئة وعشرة حديث ومنقبة في كتب المسلمين من غير الشيعة .. وأكثر هذه الأحاديث والمناقب شهرة وعظمة ومنزلة هي (بيعة الغدير ) …حين أفاض رسول الله من حجة الوداع سنة عشرة للهجرة وفي طريق العودة إلى المدينة وعند غدير خم توقف النبي لينادي مناديه بالمسلمين وما أن تجمعا وبعد أن أقام الحجة والبينة عليهم ..ليقول ( من كنت مولاه فهذا علي مولاه ).. وقد اخرج هذا الحديث جملة من الإعلام منهم الحافظ النسائي في الخصائص عن زيد ابن الأرقم قال.. (لما رجع النبي (ص) ..من حجة الوداع ونزل في غدير خم أمر بدوحات فقممن ، ثم قال ..كأني دعيت فأجبت واني تارك فيكم الثقلين ، احدهما أعظم من الآخر.. كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض …ثم قال .. إن الله مولاي وأنا مولا كل مؤمن ..ثم اخذ بيد علي (رض)..فقال ..من كنت وليه فهذا وليه اللهم والي من والاه وعادي من عاداه ) … وأخرجه الإمام احمد في مسنده في المناقب عن حديث عمر ابن الخطاب (رض)…وزاد بعد عادي من عاداه بقوله وانصر من نصره ، وأحب من أحبه …
ويقول سبط ابن الجوزي ..( اتفق علماء أهل السير على أن حادثة غدير خم كانت بعد رجوع النبي (ص)…من حجة الوداع في الثامن عشر من ذي الحجة ، جمع الصحابة وكانوا مئة وعشرون ألف ..وقال (من كنت مولاه ، فعلي مولاه ….إلى آخر الحديث ..وقد نص النبي (ص) على ذلك بصريح العبارة لا بالإشارة )…
وقد أشار الله تعالى لهذه الحادثة في قرانه الكريم في سورة المائدة ..كما ذكر الشهرستاني في كتابه الملل والنحل …(ومثل ماجرى في كمال الإسلام وانتظام الحال حين نزل قوله تعالى ” يأيها النبي بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته “… فلما وصل إلى غدير خم أمر بدوحات فقممن ونادى للصلاة الجامعة ، وقال .. من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والي من والاه وعادي من عاداه ونصر من نصره وخذل من خذله وادر الحق معه أين دار ألا هل بلغت ؟…قالها ثلاث )…
وقد ذكرت بيعة الغدير بعدة طرق وألفاظ لكنها اجتمعت حول محور واحد وهو أن الله تعالى ورسوله (ص) الذي .. (وما ينطق عن الهوى إلا إن هو وحي يوحى ) …قد نصا وأشارا بوضوح على ولاية وإمامة علي ابن أبي طالب على المسلمين بعد رحيل النبي (ص)…
فقد ذكر هذا الحديث …بن حجر العسقلاني في الإصابة الجزء الثاني والمقريزي في التخطيط الجزء الثاني والإمام احمد في مسنده الجزء الأول والبيهقي في الاعتقاد والسيوطي في تاريخ الخلفاء والجامع الصغير والمحب الطبري في الرياض النظرة والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد وابن قتيبة في الإمامة والسياسة الجزء الأول .
مما تقدم اتضح بان بيعة غدير خم كانت قد اتفقت الأمة بجميع مشاربها على حقيقتها التاريخية ، إلا إن الخلاف حصل في تفسير مضمون الحديث والنتائج التي يجب أن تترتب عليه ، في نظرة الأمة لعلي بن أبي طالب (ع).. بعد رحيل النبي (ص) ، وانقطاع الوحي والدور الذي أناطته له السماء في مرحلة ما بعد النبوة …وكان لما حدث في سقيفة بني ساعدة الأثر الأكبر في تحديد طبيعة هذه التفاسير وتوجهاتها ، تبعا للانتماءات الفكرية والمذهبية والعقائدية ، ولم يطعن به أو يشكك فيه إلا القلة القليلة ، كابن تيمية كما جاء في كتابه منهاج السنة قال..( أما قول اللهم والي من ولاه وعادي من عاداه ..فلا ريب انه كذب )… بل قال في هذا الحديث في كتابه مجموع الفتاوى …( إن هذا الحديث مخالف لأصل الإسلام )…
وبغض النظر عن ما أرادته الرغبات والميول المذهبية والدنيوية في صرف الناس عن فحوى هذا الحديث ، وعن مايعنيه وهل إن المولاة تعني الولاية المطلقة على المسلمين في أمور دينهم ودنياهم وإنها معنى آخر للإمامة والخلافة … أم أنها المحبة والنصرة كما ذهب إليه البعض ..وهل أن الأمة التزمت بهذه الإرادة الإلهية أم لا ، ومن بقى ومن أقصي بعد وفاة النبي الأكرم (ص) … لكن تبقى حادثة الغدير على مدى الدهر علامة مشرقة في تاريخنا الإسلامي ، وإشارة واضحة إلى الدور الذي إرادته السماء للإمام علي (ع) في الإسلام بحياة النبي (ص) ، وبعد رحيله وان الموالاة له هي جزء من التكوين العقائدي للفرد للمسلم مهما كان انتمائه أو مذهبه ..وان بيعة المسلمين له في ذلك اليوم الصائف وفي حر الهجير ما هو إلا مسؤولية حملتها له السماء هي تعلم انه قادر على النهوض بأعبائها الثقيلة ، وهي وسام شرف قلده له أخيه رسول الإنسانية محمد (ص)… تكريما له لعظم إيمانه وجهاده وتفانيه في الله وللإسلام الذي ماكان له أن يقوم لولا أموال خديجة وسيف علي (ع) .