يعدّ بيساريف الناقد الثالث بعد تشرنيشيفسكي ودبرالوبوف في تاريخ النقد الادبي الروسي في الستينيات بالقرن التاسع عشر, اذ انه يتميّز باهميته وقيمته الفكرية ودوره الكبير في الحياة الادبية الروسية , اما نحن الطلبة العراقيين في كليّة الفيلولوجيا بجامعة موسكو آنذاك , فان بيساريف ( عندما سمعنا باسمه في محاضرات استاذنا اول الامر ) فقد ركّزنا في حينها على نقطتين فقط , الاولى , انه مسكين لأنه غرق في النهر وتوفي عندما كان عمره 27 سنة ليس الا, وقد ترحّمنا عليه طبعا وتألّمنا لوفاته المبكرة, اما النقطة الثانية , فانه الناقد الادبي الذي كان يخطط زميلنا العراقي طالب الدراسات العليا سليم غاوي كتابة اطروحته عنه ( انظر مقالتنا بعنوان – العراقيون بجامعة موسكو في الستينيات ومصائرهم – 10) , وأتذّكر الان كل ملامح هذه الصورة الساذجة وابتسم …
نقاد الادب ليسوا نجوما في عالم الشهرة في كل مكان وزمان , وقد كنت اتحدث مرة – وقبل فترة قصيرة ليس الا – مع أحد الزملاء العراقيين عن الدكتور علي جواد الطاهر, فقال لي , انه لم يسمع بهذا الاسم ابدا . ومهما تكن مكانة بيلينسكي كبيرة في دنيا النقد الادبي الروسي , ورغم اننا قد سمعنا عنه بعض الشئ آنذاك , فهو- مع ذلك – كان أقل شهرة من أي أديب روسي معروف لدى القراء العرب , ولهذا يمكن القول وبكل ثقة, ان الناقد الادبي بيساريف يكاد ان يكون شبه مجهول تقريبا لهؤلاء القراء , ولهذا ايضا , فاننا , الطلبة آنذاك في جامعة موسكو , ليس فقط كنّا لا نعرف مكانته وقيمته , بل – واقعيا – لم نكن حتى قد سمعنا باسمه أصلا .
دميتري ايفانوفيتش بيساريف ( 1840- 1868 ) كاتب متعدد المواهب الفكرية بكل معنى الكلمة فعلا, فهو فيلسوف وناقد ادبي ومترجم وصحافي , واستطاع ان ( يحفر !) اسمه في تاريخ الفكر الروسي و في كل تلك المجالات الفكرية المتنوعة , رغم انه توفي في ريعان شبابه , اذ كان في السابعة والعشرين من عمره ليس الا . ومن الضروري هنا اضافة ملاحظة مهمة جدا , وهي ان بيساريف حاز على هذه المكانة المتميّزة في تاريخ الفكر الروسي دون ان يصدر الكتب في حياته , بل نشر مقالاته ودراساته المتنوعة حول كل تلك المواضيع في المجلات والصحف الروسية آنذاك ليس الا , والتي تمّ جمعها واصدارها من قبل الباحثين بعد فترة من وفاته , وصدرت مؤلفاته المختارة والكاملة بعدة طبعات في روسيا (الامبراطورية والسوفيتية والاتحادية) منذ القرن التاسع عشر ولحد الان , وصدرت آخر تلك الطبعات في 12 مجلدا عن دار نشر ( العلم / ناووكا ) الروسية الشهيرة بين اعوام 2000 – 2012 , وكل هذا يعدّ – بلا شك – ظاهرة فكرية نادرة جدا في روسيا , ظاهرة تدعو الى التامّل فعلا.
بيساريف الفيلسوف يستحق التوقف عنده , اذ انه يعدّ الان واحدا من أعمدة الفلاسفة الروس , وقد تحدثت حتى بعض المصادر العربية حول فلسفته , وبيساريف المترجم يستحق التوقف عنده ايضا , لأنه قدّم ترجمات لا زالت مهمة في دنيا الفكر الروسي , وبيساريف الصحافي يستحق التوقف عنده ايضا , لأنه لعب دورا بارزا في مسيرة الصحافة الروسية بالستينيات وكان حتى المحرر الاساسي لاحدى اهم المجلات الفكرية الروسية وهي مجلة ( روسكويه سلوفو / الكلمة الروسية ) , وقد أدّت مساهماته الحادة في النشر والمناقشات المرتبطة بافكاره حتى الى اعتقاله لفترة طويلة نسبيا , ولكننا , والتزاما بعنوان مقالتنا , نتوقف فقط عند بيساريف الناقد الادبي في تاريخ النقد الادبي الروسي , ويجب التأكيد هنا , ان هناك العديد من الدراسات الاكاديمية باللغة الروسية حول هذا الناقد الادبي , بما فيها طبعا كتب ضخمة باكملها واطاريح علمية , ولهذا , فان هذه الموضوع كبير ومتشعب , وعليه فاننا – وفي اطار مقالتنا – لا يمكن لنا ان نتحدث عنه الا بايجاز شديد جدا …
بدأ الناقد الادبي بيساريف طريقه في مجال النقد الادبي بمقالات ظهرت في الصحافة الادبية منذ عام 1859( اي عندما كان عمره 19 سنة ليس الا ) , وهي مقالات تحليلية تناولت آخر ظواهر الادب الروسي في عصره , وكذلك تناول تاريخ اعلام الادب الروسي والموقف تجاههم . لقد اختلف بيساريف مع دبرالوبوف حول الكاتب المسرحي أستروفسكي وحول الروائي أبلوموف . وكتب بيساريف عن تورغينيف كثيرا , ورأى في شخصية روايته ( الاباء والبنون ) بازاروف – بطلا جديدا , رغم ان الناقد كان يعتقد , ان مأساة هذا البطل تكمن في وحدته المطلقة , وانه بسبب ذلك لم يستطع ان يحقق افكاره , وانه في نهاية المطاف أضاع حياته . هناك موقف مهم آخر يستحق الاشارة اليه هنا , وهو ما كتبه عن بوشكين في مقالة بحلقتين عنوانها – بوشكين وبيلينسكي , وغالبا ما يتحدث عنها الباحثون في تاريخ الادب الروسي . بيساريف كتب , ان بوشكين يمثّل مرحلة انتهت , وان بطله ( يفغيني اونيغين ) هو ( غير مفيد ) للمجتمع , لانه يبعد ( بضم الياء ) القارئ عن المشاكل الحقيقية للحياة , وتحدث بيساريف عن ضرورة ( عدم الاختلاط ) معه . لقد كانت هذه الافكار عن بوشكين جديدة وجريئة في مسيرة الادب الروسي , رغم انها لم تغيّر مكانة بوشكين في روسيا واقعيا .
بيساريف اسم كبير و مثير للجدل في تاريخ روسيا وأدبها و فكرها , واتمنى ان يساهم زملائي في الكتابة عنه وتعريف القراء العرب بنشاطاته الفكرية المتعددة , لأنه يستحق ذلك حقا.