سبق وان أشرنا الى موضوع بونين وجائزة نوبل للآداب وتحدثنا قليلا عنه في مقالتين منشورتين لنا سابقا وهما– (جائزة نوبل والادب الروسي ) و ( نقاش حول بونين ومكانته في الادب الروسي ), ونود هنا ان نتناول وقائع هذه المسألة المهمة والتاريخية والمتميزة في مسيرة الادب الروسي, والتي حدثت عام 1933 في ستوكهولم – عاصمة السويد, اذ اننا لم نجد في المصادر العربية حول الادب الروسي وتاريخه تفصيلات موضوعية شاملة حول اوليات استلام بونين لجائزة نوبل للآداب, وكيف تبلورهذا الحدث الفريد من نوعه والبالغ الاهمية في تاريخ روسيا الفكري, والذي أصبح في الوقت الحاضرجزءا مهما جداضمن وقائع مسيرة الادب الروسي بشكل عام , وربما يعود ذلك الى ان المصادر السوفيتية حول الادب الروسي وتاريخه حاولت آنذاك ان تتجاهل هذه المسألة ولم تتحدث عنها, لانها اعتبرتها قضية سياسية بحتة مضادة للاتحاد السوفيتي ليس الا,و نحن نرى انهم جزئيا على حق , اذ ان هذه المسألة بالطبع تمتلك جانبا سياسيا بلا ادنى شك,وكانت تعكس موقف الاوساط الغربية المعادية للاتحاد السوفيتي والافكار المرتبطة به , ولكنها ليست سياسية بحتة ليس الا كما ارادت ان تعرضها المصادر السوفيتية في تلك الفترة, اذ يبقى بونين– مع كل ما يحمل هذا الحدث من مواقف واراء و ظلال وردود فعل – واحدا من الادباء الروس الكبار رغم السياسة والسياسيين , ويبقى اول اديب روسي حاز على هذه الجائزة في تاريخ الادب الروسي بغض النظر عن كل شئ , ولهذا فان هذا الموضوع يستحق التوقف عنده و عرضه على القراء والتحدث عنه بتفصيلوكما حدث في الواقع آنذاك , والذي اصبح الآن تاريخا بالنسبة لروسيا ومسيرة أدبها ولكل المهتمين والمتابعين لهذا الادبخارج روسيا.
ابتدأ الحديث عن منح جائزة نوبل للاداب الى كاتب روسي بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا عام 1917 بالذات , اذ ارادت الاوساط الغربية ان تبين ان الثورة قد أوقفت عجلة الثقافة داخل روسيا بشكل عام ,وبالتالي ,فان الادب الروسي الحقيقي مستمر خارج روسيا , وان الثورة داخل روسيا لم تستطع ايقافه او القضاء عليه في الخارج , وهكذا بدأ البحث عن مرشحين بين الادباء الروس المهاجرين من روسيا الى الغرب بعد قيام الثورة , وقد تم الاتصال بالاوساط الادبية الروسية بالخارج وكذلك بالاوساط الاوربية , ومنهم الكاتب الفرنسي الكبير رومان رولان( وقد ساهم رولان فعلا بهذه الحملة ), لترشيح ادباء روس جديرينبالحصول على جائزة نوبل للآداب, و نتيجة لكل هذه النشاطات والفعاليات والمشاورات , فقد تم ترشيح بعض اسماءالادباء الروس خارج روسيا وهم – غوركي وبونين وكوبرين وميرجكوفسكي وشميليوف,الا ان المواقف الفكريةوالحياتية قد حذفت بعض هؤلاء المرشحين ,فقد كان من الواضح مثلا , ان غوركي– رغم هجرته – كان مؤيدا للثورة وافكارها بشكل عام , وان مسيرته الابداعية تؤكد ذلك , و ان له حتى علاقته الخاصة والوطيدة ببعض قادتها , وقد عاد غوركي فعلا الى روسيا السوفيتية فيما بعد ولعب دورا كبيرا وحاسما في مسيرة الادب فيها , و كذلك عاد كوبرين الى روسيا ايضا , لهذا بقيت ثلاثة اسماء مرشحة فقط وهم – بونين وميرجكوفسكي وشميليوف, وكان التنافس شديدا بين بونين وميرجكوفسكي بالاساس , وكان بونين على ثقة تامة باختياره لنيل هذه الجائزة , لانه كان فعلا اكثر سطوعا من ميرجكوفسكي في تاريخ الادب الروسي ومسيرته منذ نهاية القرن التاسع عشرولحد نهاية عشرينيات القرن العشرين , وانتهى هذا التنافس فعلا لصالح بونين , وقد وصف بونين فيما بعد كيف تم اعلامه بالنتيجة , اذ كان آنذاك في احدى صالات السينما لمشاهدة احد الافلام في تلك المدينة الفرنسية الصغيرة التي كان فيها , وكيف بحث عنه احد العاملين في تلك الصالة المظلمة وعندما وجده اخبره بصوت خافت , ان اتصالا هاتفيا من العاصمة السويدية – ستوكهولمينتظره في بيته , وكيف خرج بونين رأسا من الصالة وتوجٌه مسرعا الى البيت ولاحظ من بعيد ان كل اضوية الانارة في البيت متوهجة بانتظاره , وقد فهم بونين ان ( انعطافا حدث في حياتي ) كما كتب, ومن الطريف ان نشير الى ان بونين قد تحدث ايضا عن تفاصيل تلك اللحظة حتى في خطابه الذي القاه امام ملك السويد وبقية الضيوف عندما استلم الجائزة . وهكذا تم اعلان هذا الخبر الكبير في العاشر من تشرين الثاني / نوفمبر عام 1933 , وظهرت كل الصحف الباريسية وهي تحمل مانشيتات بارزة تعلن فوز بونين بجائزة نوبل للآداب , واحتفل اللاجئون الروس جميعا في باريس بشكل صاخب بذلك , وشارك في تلك الاحتفالات حتى هؤلاء الذين لم يقرأوا اي شئ لبونين معتبرين ان هذا الفوز هو اعتراف بهم شخصيا كلاجئين من قبل العالم , وقد اشارت بعض الصحف في حينها الى ان حانات باريس في ذلك المساء كانت مليئة باللاجئين الروس ( الذين احتسوا لآخر قرش في جيوبهم نخب مواطنهم اللاجئ الروسي في فرنسا – بونين ! ), وقد أشار بونين في خطابه امام لجنة نوبل الى انه لاجئ في فرنسا وانه اول لاجئ يستلم جائزة نوبل الرفيعة في تاريخ هذه الجائزة . لقد كان خطاب بونين عند استلامه الجائزة يعبر بصدق وعمق عن اسلوب هذا الكاتب بكل معنى الكلمة , اذ ابتدأ الكلام بالتفصيل الدقيق والمنمق الجميل كيف كان في صالة السينما وكيف استقبل المهاتفة (ويطلق على الهاتف تسمية – المعجزة الصغيرة للتقنية المعاصرة ) وكيف غمره الفرح ولكنه لم ينس احزانه ..الى آخر هذه التأملات الفلسفية , ثم يشير الى الشئ الذي ربط حياته به وبقي مخلصا له طوال مسيرته الحياتية وهو الايمان بالحرية, وبشكل عام فان ذلك الخطاب المركٌز والذي القاه بونين بالفرنسية يستحق الترجمة باكمله الى العربية لانه يعتبر وثيقة من وثائق الادب الروسي في تلك الفترة , اضافة الى انه يتضمن مفاهيم فكرية خالدة خلود الفكر نفسه , مصاغة باسلوب بونين الرقراق والساحر والبسيط والمعمق في آن( وكم أتمنى ان تسمح لي ظروفي ان اترجم هذا الخطاب الرائع واقدمه للقارئ العربي ) . وهكذا تحقق حلم الكاتب واستلم بحضور ملك السويد ميدالية نوبل والشهادة التقديرية واستلم بالطبع شيكا بمبلغ كبير جدا من المال كان يمكن ان يستخدمه بونين من اجل استقرار حياته , ولكنه – مثل حال معظم المبدعين – لم يفعل ذلك , اذ عاش ببذخ وأخذ يتبرع بمبالغ هنا وهناك , وعاد مرة اخرى الى وضعه الاقتصادي الصعب بعد مدة قصيرة نسبيا, وقد صرح فيما بعد قائلا انه يأسف لعدم امكانية تكرار هذه الجائزة مرة اخرى .