18 ديسمبر، 2024 7:58 م

بوشكين كاتبا مسرحيا

بوشكين كاتبا مسرحيا

بوشكين- قبل كل شئ – شاعر كبير , اي ان الشعر يأتي اولا عندما يجري الحديث عنه , اذ انه ( شمس الشعر الروسي ) بلا منازع , ولكن بوشكين ساهم – وبشكل كبير وهائل ورائع ايضا – في مجالات ابداعية اخرى , فما هو الجانب الثاني في ابداع بوشكين يا ترى ؟ يعتقد بعض الباحثين , ان النثر يأتي ( ثانيا ) , اذ مازالت قصصه ورواياته القصيرة شاخصة في عالم الادب الروسي , ويشيرون مثلا الى ابنة الضابط ( حسب ترجمة الدروبي والتي اختلف المترجمون العرب على ترجمة عنوانها لاحقا!) , وهناك من يرى , ان مسرح بوشكين اهم من نثره , ويذكرون مسرحيته التاريخية – ( بوريس غودونوف ) والتي لازالت تتفاعل مع الحياة الروسية المعاصرة ولحد الان , وذلك عندما يدور الكلام عن المسرح الروسي او التاريخ الروسي , ويظن آخرون , ان هناك جوانب ابداعية اخرى في نشاط هذا (المعلّم !) الكبير , وان تلك الجوانب هي التي تستحق ان تكون ( ثانيا) . وبغض النظر عن تحديد الموقع ( الثاني!) في ابداع بوشكين ( وكل ذلك يخضع للنظرة النسبية للباحثين طبعا , اذ يجد كل باحث تبرير موقفه تجاه بوشكين وابداعه ) , فاننا نود ان نتوقف في مقالتنا هذه عند جانب مهم في مسيرته الابداعية , وهو بوشكين – الكاتب المسرحي في تاريخ الادب الروسي , وفي تاريخ المسرح الروسي .
هذا الموضوع يذكّرني رأسا بحدث محفور في اعماق روحي , وهو – كيف جاءت المرحومة أ.د. حياة شرارة مرة اليّ ( عندما كنّا نعمل سويّة في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد ) , وقالت لي انها ترجمت تراجيديات بوشكين الصغيرة عن الروسية , وتريد ان تقدمها الى وزارة الاعلام العراقية لنشرها في كتاب , ولكنها مترددة جدا, لانها تخشى ان يحيلون الترجمة الى شخص غير مؤهل لمراجعتها كما كانت الامور متبعة بشأن اي كتاب مترجم تنشره الوزارة , ويبدأ هذا الشخص ( يتفلسف برآسي !) ( هكذا قالت لي المرحومة حياة مازحة ) , ولهذا سألتني , هل توافق ان تكون انت المراجع لتلك المسرحيات ؟ فقلت لها , اني اوافق على ذلك دون اي تردد , وأضفت قائلا , انها يجب ان تكون مثل جبرا ابراهيم جبرا , الذي يشترط عدم مراجعة ترجماته من قبل مراجعين , وانها جديرة ان تشغل مكانة جبرا في عالم الترجمة عن الروسية في العراق , ( انظر مقالتنا بعنوان – حياة شرارة والادب الروسي في العراق / لقطات ) . وهكذا صدر كتاب المرحومة حياة عن وزارة الاعلام العراقية بعنوان – ( مسرحيات بوشكين ), وهو اول كتاب عراقي متكامل عن مسرح بوشكين , اذ يضم نصوص المسرحيات تلك , التي أسماها بوشكين – ( تراجيديات صغيرة ) بترجمة د. حياة شرارة عن الروسية , وبمقدمة عن مسرح بوشكين بقلمي , والمقدمة تلك هي في الاصل بحث نشرته اولا في مجلة كلية الآداب / جامعة بغداد ( وقدمته في حينها للترقية العلمية حسب تعليمات الترقيات العلمية في الجامعة ) , واتفقنا ( حياة وانا ) انه يصلح ان يكون مقدمة لكتابها المترجم ذاك , وهذا ما تمّ فعلا . ولهذا , فان مسرح بوشكين – بالنسبة لي شخصيا – يرتبط بترقيتي العلمية في الجامعة , ويرتبط ايضا باول كتاب عن مسرح بوشكين في العراق اصدرته المرحومة المبدعة حياة شرارة .
تراجيديات بوشكين ( الصغيرة!) تلك هي مسرحيات ( كبيرة!) الاهمية في تاريخ الادب المسرحي الروسي , اذ انها تعدّ كلمة جديدة لم يسبق لاحد قبل بوشكين في روسيا ان قدّم شيئا مماثلا لها , وكتب بوشكين تلك المسرحيات عام 1830, اي عندما كان في قمّة ( نضوجه الابداعي!) ان صحّ التعبير( توفي بوشكين عام 1837) , وليس عبثا , ان تلك المسرحيات كانت تعكس مواضيع انسانية شاملة , او (امميّة) كما أسماها باحث سوفيتي مرّة في محاولة لاستخدام المصطلح السياسي المعروف في سياق النقد الادبي. التراجيديات الصغيرة , او (مآس صغيرة) كما جاءت في بعض الترجمات العربية , كانت تدور حول صفات عامة توجد عند البشر كافة , صفات وردت الى ذهن بوشكين نتيجة قراءآت واسعة جدا في الادآب العالمية , (اي لا تتناول الخصائص القومية البحتة ولا الاحداث القومية) , كالحسد مثلا ( انظر مقالتنا بعنوان – مسرحية بوشكين الشعرية موتسارت و ساليري) .
المسرحية المركزية لبوشكين هي ( بوريس غودونوف ) طبعا , والتي قرأ بوشكين مقاطع منها لقيصر روسيا الكساندر الاول عندما استقبله بعد الغاء عملية النفي وعودة الشاعر الى بطرسبورغ , وهي دراما تاريخية ضخمة ومليئة بالاحداث والشخوص , بدأ بوشكين بكتابتها بعد ان اطّلع على نتاج كارامزين الشهير ( تاريخ الدولة الروسية ) , ويرى بعض النقاد , ان بوشكين اراد ان يكون ( شكسبير روسيا ) بواسطة هذا العمل المسرحي الكبير . استمر بوشكين بكتابة هذه المسرحية طوال سنوات , ونشرها عام 1830 فقط , ولم يستطع ان يراها على خشبة المسرح اثناء حياته نتيجة عوامل كثيرة , منها سياسية وفكرية , ومنها كذلك صعوبة تحقيق ذلك تقنيا . لقد تم تقديم تلك المسرحية على خشبة المسرح الروسي بعد اكثر من ثلاثين سنة على وفاة بوشكين , ولا زالت تعرض لحد الان , بل انها تحولت حتى الى اوبرا , والى عروض موسيقية غنائية متنوعة , وحولتها السينما الروسية منذ اواسط القرن العشرين الى افلام سينمائية عديدة , وكان آخرها فلم سينمائي تم انتاجه عام 2011 ليس الا…
شمس الشعر الروسي بوشكين استطاع ان يمنح لشعبه ايضا المسرح الشعري الروسي , وهو عمل ابداعي كبير وعنصر ضروري جدا في تاريخ كل شعب من شعوب العالم المتحضّر…