هذا موضوع واسع ومتشعّب جدا , لهذا اضفنا الى عنوان المقالة – ملاحظات , اذ لايمكن لمقالة واحدة – او حتى عدة مقالات – ان تحيط بكل ابعاده ولا حتى بالنقاط الاساسية حوله, فبوشكين ( الذي توفي عام 1837 ) لا زال ولحد الان ( ونحن في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ) الاديب رقم واحد – وبلا منافس- في مسيرة الادب الروسي وتاريخه داخل روسيا , ولم يستطع اي اديب روسي آخر ان (ينافسه! ) (ان صح هذا التعبير الخشن جدا) في موقعه هذا , او ( بتعبير أرق وأدق ) ان يحل محله في قلوب الشعب الروسي , ولكن بوشكين لم يشغل هذا الموقع خارج روسيا ابدا لا من قريب ولا من بعيد, بل ان هناك ادباء روس , مثل دستويفسكي وتولستوي , يعتبرونهم ( خارج روسيا ) اكبر من بوشكين واكثر اهمية وشهرة منه , ويشكّل كل ذلك ظاهرة غريبة حقا في النظرة العامة للادب الروسي , ظاهرة تستحق التأّمل العميق من قبل اي باحث في مسيرة هذا الادب العريق.
لا يمكن طبعا ان نتكلم عن بوشكين خارج روسيا , اذ ان هذا يعني الكلام عنه في كل من اوربا وامريكا وآسيا وحتى بعض بلدان افريقيا الحديثة , وذلك أمر يقتضي جهود مجاميع كبيرة من المتخصصين , الذين يجب ان يجتمعوا مع بعض ضمن مؤتمرات او ندوات خاصة لبلورة تلك الافكار والوقائع والتأملات بشأن هذا الموضوع , ولكننا مع ذلك نرى , ان طرح الموضوع هذا بشكل مكثّف ومختصر, وكتابة ملاحظات عامة عنه من هنا وهناك – يكفي للتذكير به وللتأمل في اهميته بالنسبة لمتابعي الادب الروسي وتاريخه في عالمنا العربي .
بوشكين بالنسبة لروسيا, كما قال عنه مرّة الناقد الادبي الروسي غريغوريف, في محاولة لتعريفه – ( بوشكين – انه كل شئ!) , ولم يتغّير هذا الرأي حتى بعد ظهور ادباء – لاحقا – بمستوى تولستوي ودستويفسكي , بل ان تولستوي ودستوبفسكي نفسهما أكّدا هذه الحقيقة , ( انظر – مثلا – مقالتنا بعنوان – خطاب دستويفسكي عن بوشكين) . وروسيا تمتلك سمات شرقية في بعض صفاتها , ومن بين هذه السمات حبها للتقديس والمبالغة , وانطلاقا من ذلك وارتباطا بذلك ايضا , فانها – ربما – تبالغ برفع مكانة بوشكين الى الاعالي ( انظر- مثلا – مقالتينا بعنوان – (هل بوشكين أعلى من ستالين ؟) , و الثانية بعنوان – ( الشعر أعلى من السياسة ) . ) , ولكن هذه المبالغة لا يمكن – باي حال من الاحوال – ان تجعل الشعب الروسي ( يتوّج!!) بوشكين على عرش الادب الروسي , كما حدث و يحدث لحد الآن , ولا يزال بوشكين يحمل في روسيا – ومنذ سنوات طويلة جدا – لقبه المتفرّد الجميل – ( شمس الشعر الروسي !).
اما بوشكين خارج روسيا فالامر يختلف طبعا , واذا ما توقفنا – مثلا – في عراقنا , او عالمنا العربي بشكل عام , فاننا نجد , ان الجواهري قد أشار الى اسم تولستوي مرة في احدى قصائده باعتباره رمزا لروسيا , و ذلك في قصيدته الشهيرة – ( ستالينغراد ) , والتي كتبها بعد معركة ستالينغراد , وهي المعركة التي حوّلت – كما هو معروف – مسيرة الحرب العالمية الثانية , و البيت هو –
يا تولستوي ولم تذهب سدى ثورة الفكر ولا طارت هباء
يا ثريا وهب الناس الثراء قم ترى الناس جميعا اثرياء
(ولا مجال هنا للحديث عن رثاء تولستوي من قبل احمد شوقي وحافظ ابراهيم والزهاوي , وردود الفعل الاخرى بعد وفاة تولستوي في العالم العربي ), ولم يخطر في بال الجواهري طبعا ان يستشهد باسم بوشكين هنا , رغم ان بوشكين هو الاقرب من مفهوم (رمز روسيا), مقارنة مع اسماء الادباء الروس الآخرين , لأن ذلك لم يكن مطروحا في الوعي الاجتماعي العربي لا آنذاك ولا في الوقت الحاضر ايضا . وكذلك الحال خارج العالم العربي , واذا ما أخذنا فرنسا مثلا , وهي التربة الفكرية الاقرب الى روسيا بين كل الدول الاوربية ,وليس عبثا ان لجأ اليها الادباء الروس بالاساس بعد ثورة اكتوبر1917 , فاننا سنجد ايضا , ان بوشكين لا يشغل الموقع الاول بين الادباء الروس هناك , (رغم انه كتب اول قصيدة له باللغة الفرنسية !) , ومع انه يبقى متميّزا بينهم , ولكن دستويفسكي وتولستوي وحتى تشيخوف يقفون في الساحة الفرنسية الند للند مع بوشكين ( ان صح هذا التعبير!) , بل ويبرزون اكثر منه بعض الاحيان , ولا يرتبط الموضوع فقط بطبيعة نتاجات بوشكين , اذ ان ترجمة الشعر دائما هي الاصعب , لكن هذا الوضع يشمل نثره ايضا. ويمكن تكرار القول بالنسبة لانكلترا ايضا , وعلى الرغم من تباين الظروف السائدة فيها مقارنة مع فرنسا , الا اننا نلاحظ تلك الظاهرة ايضا , ومن الطريف ان نذكر هنا , ان السفير الروسي في لندن قد دعى مرّة المترجم الانكليزي الاول لبوشكين واسمه – (انطوني بريغس) للاحتفال معه بيوم ميلاد بوشكين في السفارة الروسية, وقال له , ان الجميع معجبون بترجماته , وانه ( يجعل القارئ الانكليزي يتعرّف على الثقافة الروسية ) , وقد اعلن المترجم عندها , انه درس الشعر الفرنسي والاسباني والانكليزي , ويجد ان بوشكين هو أعلى من الجميع … ولكن رأي المترجم هذا شئ , والواقع في انكلترا شئ آخر …
لا يمكن طبعا الاسترسال اكثر والتوقف عند بوشكين في بلدان اخرى كالصين مثلا , او الولايات المتحدة الامريكية وغيرها من البلدان الكبيرة , ولكن خلاصة كل هذه النظرة السريعة والشاملة تؤكد ما ذكرناه آنفا , وهو ان مكانة بوشكين في بلده تختلف تماما عن مكانته خارج روسيا , وعلى الرغم من طبيعيّة هذا التباين بشكل او بآخر بالنسبة لاي اديب داخل بلاده وخارجها , الا ان هذا التباين الكبير بالنسبة لبوشكين هو امر يستحق الدراسة المعمقة بلا شك.