23 ديسمبر، 2024 3:48 ص

بورسوف الذي يتذكره العراقيون

بورسوف الذي يتذكره العراقيون

بوريس ايفافوفيتش بورسوف ( 1905 – 1997 ) يرتبط في ذاكرتنا باسم كامران قره داغي , الذي ترجم عن الروسية كتابه الشهير – (الواقعية اليوم وابدا) في سبعينيات القرن العشرين , وقامت وزارة الاعلام العراقية في حينها بنشره , ولكنها حذفت (في اللحظة الاخيرة) اسم المترجم كامران قره داغي من الغلاف , لانه ترك بغداد والتحق بالحركة المسلحة آنذاك في كردستان العراق ( انظر مقالتنا بعنوان – كامران قره داغي والادب الروسي في العراق ) , وهكذا اصبح كتاب بورسوف ( تاريخيّا!) , لانه اول كتاب مترجم ( بضم الميم ) يصدر عن وزارة الاعلام العراقية دون اشارة الى اسم المترجم , او بتعبير أدق , بحذف اسم المترجم قبيل اصداره ( والاسرار لا تبقى اسرارا في العراق) كما هو معروف . والكتاب هذا اصبح مشهورا ايضا , لانه يتناول الادب الروسي بشكل موضوعي وشامل وعميق , وتلقفه القراء بحب ولهفة , خصوصا وانه مترجم بامانة و بلغة عربية رقراقة وسليمة و سلسة من قبل مترجم كبير ومبدع هو كامران قره داغي . ثم تم اصدار الطبعة الثانية من هذا الكتاب ولكن باسم المترجم كامران قره داغي هذه المرّة بعد ان هدأت العواطف والعواصف و عودة المترجم الى بغداد . ان قصة هذا الكتاب جعلت بورسوف اسما معروفا للقارئ العراقي بشكل ما, وهذا هو تفسير طبيعة عنوان مقالتنا , ولكننا في نفس الوقت يمكن ان نطرح السؤال من جانب آخر , وهو – هل يعرف القراء في العراق او في عالمنا العربي بشكل عام من هو هذا الناقد الادبي فعلا ؟ لقد (دردشت) مع عدد من الزملاء حول بورسوف , ووجدت آراء متضاربة جدا بشأنه , فمنهم من يرى , ان كامران قره داغي قدّمه لنا ليس دون هدف معيّن , وانما باعتباره الكتاب المضاد لروجيه غارودي وكتابه ( واقعية بلا ضفاف ) الشهير ( وقد تعجبّت جدا عندما استمعت الى هذا التحليل العراقي العميق !!!) , ومنهم من يرى , ان بورسوف هو النسخة الماركسية ( المحسّنة) لمفهوم الادب والفن , ومنهم لم يسمع باسمه ولا يعرفه اصلا . وبعد هذه (الدردشات الطريفة والغريبة ايضا!) بدأت بكتابة هذه المقالة عن بورسوف , وهي محاولة لرسم صورة تخطيطية لبورسوف لا اكثر , اذ ان الصورة التفصيلية لهذا الناقد الادبي الروسي السوفيتي تحتاج الى تفصيلات متشعبة وغور في مؤلفاته العديدة حول الادباء الروس الكبار , وحول مكانة النقد الادبي في الحياة الفكرية عموما ( يوجد لديه كتاب صدر عام 1976 بعنوان – النقد كأدب ), بورسوف الذي حصل على شهادة دكتوراه علوم في اختصاصه , واصبح بروفيسورا في جامعة لينينغراد ( 1948 – 1966 ) , ثم بروفيسورا في معهد غيرتسن التربوي في لينينغراد ( 1966 – والى تاريخ وفاته عام 1997 ) .
ولد بورسوف في قرية بضواحي فارونش في الامبراطورية الروسية عام 1905 , وبقي هناك ومارس مختلف المهن الفلاحية في قريته, ولم يدرس في المدرسة سوى 3 سنوات فقط , حيث انهى الصف الثالث الابتدائي ليس الا , ثم حدثت الحرب العالمية الاولى 1914 ثم ثورة اكتوبر 1917 الاشتراكية , ثم الحرب الاهلية في روسيا بعد تلك الثورة بين ( الجيش الاحمر والجيش الابيض!), وبعد ان استقرت السلطة السوفيتية بشكل او بآخر, انتقل بورسوف الى مركز مدينة فارونش وانهى هناك المدرسة (كان عمره 25سنة آنذاك) ,ثم تخرّج في معهد خاص بالصحافة والنشر في موسكو , ثم التحق بالدراسات العليا في اكاديمية الفنون وحصل على شهادة الكانديدات ( دكتوراه فلسفه) هناك , وكانت اطروحته عن البناء الفني لابطال رواية تولستوي ( الحرب والسلم ) , وجاءت الحرب العالمية الثانية عام 1941 , فالتحق بالجبهة مثل كل الشباب الروسي, وهناك ( وسط نيران الحرب الرهيبة تلك) انتمى الى الحزب الشيوعي السوفيتي عام 1942 عن قناعة تامة, وبقي محافظا على انتمائه الفكري هذا الى نهاية حياته , ولم يساهم بحركة البيريسترويكا ( اعادة البناء) في الثمانينات , وكان ضد الغاء دولة الاتحاد السوفيتي بقيادة الحزب الشيوعي السوفيتي , و توفي في روسيا الاتحادية عام 1997 . لقد عاصر بورسوف الامبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتي وروسيا الاتحادية , ولكنه استمر طوال الوقت مخلصا لافكاره الشيوعية السوفيتية , التي اقتنع بها في بداية مسيرته وبقي امينا لها الى نهاية حياته.
هذا عرض وجيز جدا لمسيرة حياة بورسوف , ولا يمكن ان يكون هذا العرض متكاملا دون الاشارة الى اهم اعماله المنشورة في كتب ومقالات وبحوث . ظهر اول مقال له عام 1935 في مجلة ( زفزدا) الادبية بلينينغراد وكان بعنوان – نظام تولستوي الاستيتيكي , اما اول كتاب له فصدر عام 1951 بعنوان – الام لغوركي وقضايا الواقعية الاشتراكية , وأصدر طبعة ثانية موسّعة و مزيدة لهذا الكتاب عام1955 , علما انه كتاب مهم من وجهة النظر السوفيتية الرسمية المعروفة آنذاك حول مفاهيم الواقعية الاشتراكية , وليس من باب الصدفة ابدا ان هذا الكتاب قد تم ترجمته في بعض دول المعسكر الاشتراكي , اذ ظهر في ثلاث دول اشتراكية آنذاك هي – بلغاريا وجيكوسلوفاكيا وهنغاريا . لقد اصدر بورسوف اكثر من عشرة كتب تتناول الادباء والنقاد الروس الكبار, ومن اهمها كتاب بعنوان – شخصية دستويفسكي , وهو رواية وبحث , وصدر بطبعتين الاولى عام 1974 والثانية عام 1979 , وكتاب آخر بعنوان – مصير بوشكين , وهو ايضا رواية وبحث , وصدر ايضا بطبعتين الاولى عام 1985 والثانية عام 1989 .
دراسة مسيرة بورسوف ونتاجاته النقدية المتنوعة بموضوعية تعني دراسة التجربة السوفيتية الفكرية في مجال الادب بكل جوانبها الايجابية والسلبية معا , وهي دراسة تستحق فعلا اهتمام الباحثين العرب.