كما كان متوقعا أن الرئيس الامريكي دونالد ترامب ، وبعد الاتفاق مع رئيسة المفوضية الأوروبية هي أورسولا فون دير لاين ، بشأن الرسوم الجمركية بينهما وشراء الاسلحة ، سيدلي بتصريحات تستهدف روسيا بشكل مباشر ، فقد وجد الرئيس الأمريكي نفسه مجددًا محط أنظار المجتمع الدولي ، وهذه المرة، كان السبب في قراره المفاجئ بتقليص مهلة الإنذار الممنوحة لروسيا من 50 يومًا إلى 10 أيام ، ( باعتباره مطلب أوروبي ، حيث أعتبر الاتحاد فترة ال 50 يوما التي حددها ترامب لوقف أطلاق النار مع أوكرانيا فترة طويلة ) ، وهدّد بفرض عقوبات إضافية على روسيا ، إذا لم تتوصل إلى اتفاق سلام خلال هذه الفترة.
وبقي العالم في دهشة في هذا التحول الكبير في تصريحات ترامب ، ولكن بالنسبة للمراقبين والمتابعين لسلوك ترامب منذ تسلمه مهام منصبه ، والتحولات الجذرية في مواقفه ( المهزوزة ) ، فإنهم لم يجدوا أي مفاجئة في موقف الرئيس الامريكي الاخير ، بعد ان اعرب كبار المسئولين الروس ، بانهم لم يقفوا مكتوفي الأيدي ، بل أرسلوا للولايات المتحدة ردًا حاسمًا ، ونتيجة لذلك، لم يكن رد فعل روسيا على الإطلاق ما توقعته الولايات المتحدة ، فالكريملين لم يظهر أي مؤشرات على استعداده لتغيير موقفه تحت الضغط الأمريكي ، بل اوصل رسالة مفادها ان موسكو تعتبر إنذار ترامب استفزازًا لن يؤدي إلا إلى تصعيد المواجهة ، ولعل تصريح نائب رئيس مجلس الامن القومي الروسي ديمتري ميدفيديف ، الذي كان قاطعًا للغاية، مُذكرًا بأنه لا يُمكن التحدث مع روسيا بنفس اللهجة ، التي يتم التحدث بها مع “إسرائيل” أو إيران ، ونصح ترامب بعدم تكرار أخطاء سلفه، مُلمّحًا إلى جو بايدن ، وأعرب ممثلون روس آخرون عن موقف مماثل ، وهو ما “استفز ” به ترامب ، ليقوم الاخير بخطوة استعراضية ليس الا ، والاعلان عن إرسال غواصات نووية امريكية بالقرب من روسيا .
الرئيس الروسي فاجأ العالم في موقفه من التهديدات التي اطلقها ترامب ، وكعادته ، لايميل الرئيس الروسي الى اطلاق التصريحات المتشنجة ، او الانفعالية ، وقرر التأني حتى تَخْفت زوبعة التصريحات الترامبوية ، فبوتين الذي لم يُبدِ ضعفًا قط في مواجهة العقوبات الغربية، ولا ينوي فعل ذلك الآن ، أختار الوقت والزمان للرد علىى نظيره الامريكي ، وهو عشية زيارة المبعوث الخاص لدونالد ترامب، ستيف ويتكوف ، والمكان اختاره بوتين دير سباسو-بريوبراجنسكي ، الذي زاره الرئيس الروسي ونظيره البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، ليعلق من هناك على تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وتقييمها ، حيث سبق وأن أعرب ترامب عن خيبة أمله من تقدم المفاوضات ، وأكد بوتين: “جميع خيبات الأمل تنبع من توقعات مبالغ فيها “، وهذه قاعدة عامة معروفة ، ولكن من أجل حل القضية سلميًا، من الضروري إجراء محادثات مفصلة، وليس علنًا، ويجب أن يتم ذلك بهدوء في عملية التفاوض ، فالمفاوضات مطلوبة ومهمة دائمًا، لا سيما إذا كانت هناك رغبة في السلام ، وقال الرئيس الروسي ” أُقيّمها بشكل عام بإيجابية.. وكيف لا يُقيّم المرء عودة مئات الأشخاص إلى وطنهم بإيجابية؟ هذا أمر إيجابي”، مُذكّرًا بتسليم آلاف جثث الجنود الأوكرانيين القتلى إلى كييف لأسباب إنسانية.
وذّكَرَ بوتين أن الأطراف اتفقت في إسطنبول على إجراء مفاوضات “بعيدًا عن الأضواء، وبعيدًا عن أي ضجيج سياسي، وبهدوء، والسعي إلى حلول وسط” ، ولهذا الغرض، تقرر إنشاء ثلاث مجموعات يمكن أن تعمل عبر الإنترنت، لكن “هذا العمل لم يبدأ بعد” ، وأجاب بالإيجاب على سؤال حول ما إذا كانت شروط وقف إطلاق النار طويل الأمد، الذي أُعلن عنه في يونيو/حزيران من العام الماضي، لا تزال سارية ، وقال: “نعم، هذه الشروط، بالطبع، بقيت كما هي ، وإن هذه ليست شروطًا، بل أهداف، لقد صغتُ أهداف روسيا ، ولا تقل القضية الإنسانية أهمية عن ذلك – فاللغة الروسية، والاستقلال، والظروف المناسبة لتطور الكنيسة الأرثوذكسية، الكنيسة المسيحية في أوكرانيا ، “يجب مناقشة كل هذا معًا، ويجب أن يُشكل أساسًا لسلام طويل الأمد ودائم، بلا حدود زمنية“.
لقد صاغ بوتين الموقف العام للكرملين في إجاباته، والآن “تزداد المخاطر” ، وان لم يُعلن بوتين ذلك صراحةً، لكن إنذار ترامب رُفض ، وعلى واشنطن إقناع كييف بالانخراط في مفاوضات جادة ، فلا يوجد خيار آخر ، ويصف الخبراء العسكريون إنتاج أول نموذج مسلسل من صاروخ “بندقية أوريشنيك ” ، وهو صاروخ بالستي وسيط المدى، فرط صوتي، سرعته تبلغ 10 ماخ (2.5 كيلومتر في الثانية) ، وهو مشتق من الصاروخ البالستي العابر للقارات آر إس-26 روبيچ ، وله قوة تدميرية كبرى ولا توجد منظومة دفاع جوي في كل العالم تستطيع التقاطه ، بأنها إشارة واضحة على استعداد “موسكو لسيناريو قوي” ، وإن وجود لوكاشينكو وتصريحاته حول تشكيل لواء عمليات خاصة جديد في الجيش ، يهدفان إلى إظهار استعداده للغرب لمزيد من التصعيد.
إن تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لن تُغير شيئًا في روسيا وحلفاءها ، وكما يراهم ضابط الاستخبارات الأمريكي السابق توني شافر على موقعه في يوتيوب ، انهم يدركون تمامًا ان تهديدات ترامب لن تؤثر على روسيا بأي شكل من الأشكال ، ولن يتنازلوا عن النتائج والمبادرات التي حققوها ، ومحاولات فرض موقف على موسكو وإجبارها على إبرام سلام غير مواتٍ لن تُجدي نفعًا ، لإن حلفاء روسيا يدركون أنهم قد يكونون الضحية التالية للبيت الأبيض ، فلن تُجدي أي عقوبات أو رسوم جمركية ضد دول البريكس نفعًا ، فلدى الهند أسواق بديلة، والصين لم تعد تحتمل تهديدات فون دير لاين من أوروبا ، وهاتان الدولتان الأكبر حجمًا، وتحتاجان إلى احتياطيات ضخمة من الغاز والنفط ، بدونها، لا يمكنهما البقاء، وروسيا لديها كل شيء بوفرة .
أن موقف موسكو الشفاف مستقر بشكل عام ولم يتغير منذ الصيف الماضي ، “إما أن توافق على الشروط، أو سيتم تنفيذها على أرض الواقع” ، يعتقد أن بوتين ربما لديه اقتراحٌ ما يستطيع إيصاله عبر ويتكوف ، وإلا، فإن وصوله بعد الرفض الفعلي لإنذار ترامب النهائي سيفقد معناه ، ويقول بوريس ميزهيف ، عالم السياسة المتخصص في الدراسات الأمريكية ، والأستاذ المشارك في قسم الفلسفة بجامعة موسكو الحكومية ، “لا أعلق آمالاً كبيرة على زيارة ويتكوف ، وبسبب افتقار الرئيس الأمريكي لضبط النفس وعدم قدرته على التهدئة ، فمن المرجح أن نشهد رد فعل عاطفياً سريعاً من ترامب ، ويرى المراقبون إن بيتكوف ربما يحمل إنذاراً نهائياً محدداً لروسيا ، لكن بالنظر إلى تصريحات الرئيس بوتين ، من غير المرجح أن يكون لهذا الاجتماع أهمية مصيرية ، بل إن هذا “الوتر الحساس” لويتكوف سيُظهر أن مشاركته قد انتهت.
أن المخاطر في المفاوضات تتزايد تدريجياً ، وإنّ التصريح عن الإنتاج المتسلسل لصاروخ أوريشنيك ، يُلمّح إلى أنّه في حال تعرّض مصالح روسيا لضربة، فإنّ موسكو تمتلك في احتياطياتها أسلحةً لا يُمكن ردّها ، وهذا يعني أنّ الإنذارات لا تُخيفها ، وستواصل العمل حتى تحقيق اهدافها الكاملة في العملية العسكرية الخاصة، وبالنسبة للعقوبات المتوقعة فقد اختصرها المتحدث بأسم الكريملين ديميتري بيسكوف بالقول ، “لقد اكتسبنا بالفعل حصانة معينة في هذا الصدد ، ونواصل تسجيل جميع التصريحات الصادرة عن الرئيس ترامب وممثلين دوليين آخرين بهذا الشأن”.