18 ديسمبر، 2024 6:02 م

بوابة عشتار..مجد عصي على التكرار

بوابة عشتار..مجد عصي على التكرار

ارتبط العراق على مدار التاريخ الإنساني بالحضارة والعلم والمعرفة والثقافة والفنون والآداب، تماماً كما ارتبط بالأساطير والأيقونات التي كانت جزءاً من حكاياتٍ محفورة في الوجدان الشعبي العربي والعالمي من خلال حكايات سندباد وألف ليلة وليلة، فكانت مصدر إلهام ونواةً لعددٍ كبير من الأعمال الفنية في مختلف المجالات وارثاً نقف أمامه بكثير ٍمن التقدير والإنبهار.. وتعد بوابة عشتار إحدى أهم هذه الأيقونات التي نتحدث عنها اليوم..

فهي البوابة الثامنة لمدينة بابل الداخلية والتي بناها نبوخذ نصر عام ٥٧٥ ق.م في شمال المدينة كإهداءٍ إلى آلهة البابليين عشتار، ويبلغ ارتفاعها (مع الأبراج) خمسين متراً وعرضها ثمانية أمتار، كما زينها بالتنين والثيران وبالطابوق المصقول المطلي، وهو الذي وضع الأبواب بعد أن غطاها بالنحاس وثبت فيها مغاليق ومفاصل من مادة البرونز، والتي اكتشفها لاحقاً المنقب الألماني روبرت كولدواي في عام ١٨٩٩، وتم استخراجها من تحت الأنقاض بين عامي ١٩٠٢ و١٩١٤ م، حيث عُثر على ١٣,٧ مترًا من أساسات البوابة الأصلية حينها، واستُعملت المواد التي استخرجها روبرت كولدواي في إعادة بناء بوابة عشتار وشارع الموكب، وفي سنة ١٩٣٠ انتهت عملية إعادة البناء في (متحف بيرغامون) ببرلين (ألمانيا) حيث تعرض هناك، لكنها ليست كاملة أو بالحجم الأصلي لضيق مساحة المتحف، حيث كانت البوابة الأصلية مزدوجة لكن البيرغامون استعمل الجزء الأمامي الأصغر فقط، أما البوابة الخلفية الأكبر فما تزال في مخازن المتحف.. وكان للبوابة -في الأصل- باب وسقف مصنوعان من خشب الأرز والبرونز، ولم يُعَد إنشاءهما..

وتمتاز هذه البوابة كبقية الآثار العراقية بخصائص تميزها من حيث المواد التي صنعت منها أو النقوش التي زينتها والرموز التي تحملها ومعانيها التي تمثلها، فقد اكتست هذه البوابة بأكملها بالمرمر الأزرق والرخام الأبيض والقرميد الملون، كما كانت مزينةً بـ ٥٧٥ شكلًا حيوانيًا بارزًا لكلٍ منها رمزيته ومكانته لدى الآلهة البابلية، فالثيران ترمز لأدد (أداد) وهو إله الطقس، والتنين المعروف ب(السيروش أو الموشوشو) رمز الآلهة (مردوك) إله بابل القومي وكبير الآلهة، أما الأسد فهو يرمز لعشتار، إلهة الخصوبة والحب والحرب والجنس وهم جميعاً يرمزون لآلهة العراق القديمة، كما أن هذه البوابة جزءٌ من أسوار مدينة بابل، وقد كانت روعة تصميم وبناء بوابة عشتار سبباً في جعلها تدخل في القائمة الأولى لعجائب الدنيا السبع في العالم القديم، لكنها استُبدِلت لاحقًا بمنارة الإسكندرية..

وكانت المواكب تدخل من بوابة عشتار، وهي البوابة الرئيسة لسور المدينة الداخلي، والبوابة الرئيسة إلى شارع الموكب الذي يعد الشارع الرئيس لمدينة بابل والطريق المقدس الذي يربط المدينة ببيت الإحتفالات الدينية المعروف ببيت (أكيتو) والذي يستخدم في احتفالات رأس السنة، فيمرّ عبره موكب تماثيل الآلهة بينما بُلِّط طريقها بالأحجار الحمراء والصفراء (صفوف من الحجر الأحمر على الحافة الخارجية وصف من الحجر الأصفر في الوسط)، وكان تحت كل حجر من هذه الأحجار نقش هو صلاة قصيرة من الملك نبوخذنصر لسيد الآلهة (مردوك)، فهذا هو الشارع الذي سار فيه الموكب نحو معبد (مردوك)، ولقد أطلق البابليون على القسم الشمالي من الشارع (الذي يبدأ من بوابة عشتار شمالي المدينة الداخلية ثم يمتد جنوباً حتى ينحرف غرباً بين زقورة بابل ومعبد مردوك) متصلاً بالجسر المسمى جسر (بور- شابو) ومعنى هذا الإسم (لن يمر العدو)، والقسم الجنوبي من الشارع أطلق عليه اسم (عشتار لاماسو أو مياشو) وهي عبارة تعني عشتار حامية جيوشنا..

ووجد ضمن الآثار لوح تكريس على بوابة عشتار كُتب من وجهة نظر نبوخذنصر يشرح فيه الغاية من إقامة البوابة ببعض التفصيل:

نبوخذنصر، ملك بابل، الأمير الوفي الذي اختارته إرادة مردوك، كبير الأمراء الفخيمين، حبيب نابو، المُشير الحصيف، الذي تعلم اعتناق الحكمة، وأدرك كنه وجودهما الإلهي وبجّل عظمتهما، الحاكم المُثابر، الذي يعتني دومًا -من كل قلبه- بطقوس الإيساكيلا والإيزيدا والذي يهتم دومًا برفاه بابل وبورسيبا، الحكيم، المتواضع، راعي الإيساكيلا والإيزيدا، بكر نبوبلاصر، ملك بابل.

بعد أن مُليء الطريق من بابل، أصبح مدخلا بوابتي إيمكور إنليل ونيميتي إنليل منخفضين أكثر عن مستوى الشارع، لذلك هدمتُ البوابتين وثبّتُّ أساسيهما عند مستوى المياه الجوفية بالطابوق والأسفلت وبنيتهما بالطابوق والحجر الأزرق الذي صوِّرت عليه الثيران والتنانين الرائعة.

غطيتُ سطحيهما طوليًا بخشب الأرز العظيم وعلّقت بوابات من الأرز المزيّن بالبرونز على كل فتحات البوابة. ووضعتُ ثيران برية وتنانين ضارية في البوابات فزينتها بالأبهة الباذخة لكي يتطلع إليها الناس متعجبين.

جعلتُ معبد إيسِسكورسِسكور (الأعلى مقامًا بين بيوت الاحتفال بمردوك، سيد الآلهة، مكان للفرح والاحتفال للآلهة الكبرى والصغرى) يُبنى راسخًا كجبل في تخوم بابل بالأسفلت والطابوق المحروق..

ولا زالت تتواجد بعض الأجزاءً من بوابة عشتار في عدة متاحف حول العالم منها متحف إسطنبول للآثار، ومعهد ديترويت للفن، ومتحف أونتاريو الملكي، ومتحف اللوفر، ومتحف ميونخ للفن المصري، ومتحف المتروبولتان للفنون بنيويورك، والمعهد الشرقي بشيكاغو، ومتاحف أخرى كثيرة.. ولا نملك بعد الكتابة المبسطة والمعلومات المختصرة عن جزء بسيط جداً من هذا التاريخ الإنساني العظيم والعريق إلا أن نحدث أنفسنا بالكثير من الأسئلة، وتمتلأ صدورنا ومخيلتنا بعلامات الإستفهام والتعجب.. فهل كان هذا مجرد حلم؟