ان وجود التناقض في تراثنا ليس صفة خاصة بانتاج معرفة دون اخرى وانما اصبح بنية لخطاب يشمل معارف وانماط حياة وسلوكيات لمجتمعات تُعرف بالعربية. لذلك فهو بنية مستحكمة في ثقافتنا ومتأصلة في نفوسنا. ولكن كيف اصبح التناقض بنية عقلية ؟ او من اين جاءت بنية التناقض؟ والجواب هو : غياب النقد والتفكير النقدي من ثقافتنا يجعل المرء لا يميز بين الصالح والطالح ، فالشعارالمرفوع هو: احفظ ما تؤمر به بالتلقين فقط. و الحفظ والتلقين لايتركان للمتعلم مجالا للتفكيرفاصبح التفكير نفسه حرام ، لذا يجب ان تحفظ ما يقال لك ولا تناقش ، ولا تجادل فالجدل كفر. وبهذا الاسلوب توارثنا ان كل ما يقوله لنا المعلم هو بمثابة الكتاب المقدس فاصبحت المتناقضات مسلمات وبديهيات لا تتطلب التفكير. ولان الموضوع واسع ومتشعب لذا ساقتصر الحديث على مجال المعرفة اللغوية والنحوية لنتعرف كيف اسهمت بنية التناقض في تعقيد تلك المعرفة وتحولها من معرفة نافعة الى احاج وطلاسم.
ان وجود الكم الهائل من المؤلفات والعدد الكبير من العلماء والكتاب والمفكرين في اية معرفة لا يشكلان دليلا على ان هذه المعرفة تمتلك التفرد والاصالة. وبتعبير اخر، ان الكم لايشكل معيارا وانما هناك معايير اخرى منها النوعية والجودة والوظيفة التي تقدمها تلك المعرفة للبشرية. يضاف الى ذلك ، واذا لم يكن بناؤها تراكميا اولا، ولم تستطع ان تتخلص من مشكلاتها المستعصية عبر تداولها بين الاجيال المختلفة ثانيا فانها ليست معرفة اصيلة أو انها معرفة زائفة. انها معرفة لا يحتويها نسق تراكمي من جيل الى اخر كي تشهد نموا وتطورا منطقيين ، لذلك فهي اسيرة لعملية البناء والهدم في الوقت ذاته وهو ما سيعزز بنية التناقض التي لاتنتج شيئا الا الصراع وسوء الفهم.
لقد كان التناقض لصيقا للنحو العربي منذ نشأته الاولى فقد قيل: ان السبب الرئيس لنشأة النحو العربي كان لحفظ وصيانة لسان الاعاجم من اللحن بعد ان دخلوا الاسلام فوضعت لهم قواعد ميسرة لتقويم السنتهم لكن سرعان ما تحولت هذه القواعد من اسس ميسرة لتعليم غير الناطقين بالعربية الى قواعد معقدة يتمترس خلفها نحاة من الاعاجم يخطئون الأعراب الاقحاح بما فيهم الشعراء الفصحاء انفسهم. وكلما تقدم بنا الزمن ازداد وجود التناقض وكبر حجمة ليتحول من خلافات بين افراد من النحاة الى ظهور مدرستين نحويتين ، البصرية والكوفية. وكان زعماء المدرستين يخطئون بعضهم بعضا في مسائل مفترضة ومصنوعة لم يتكلم بها العرب او الاعاجم. يضاف الى ذلك ان هؤلاء النحاة اتخذوا من تلك الخلافات -التي قالوا عنها انها علمية- ميدانا لتصفية حسابات شخصية تمظهرت على شكل خصومات ونزاعات غيراخلاقية بعيدة عن القيم العلمية الموضوعية والاهداف النبيلة ، حيث كان الدس والتامر والحسد والغيرة والتحايل والتزوير وكل الرذائل التي ينبغي ان يترفع عنها اصحاب العلم. وتشهد كتب تاريخ النحو والنحويين برواياتها الجمة على تلك الاخلاقيات السيئة.
ولنضرب مثالا واحدا على سلوك زعيم المدرسة النحوية في عصره ومؤدب ولدي الرشيد (الامين والمأمون) الكسائي لتتضح لنا بعض من ملامح الصورة الشخصية لما يطلق عليهم بـ (العلماء). قال اليزيدي للكسائي: يا أبا الحسن، امور بلغتنا عنك ، ننكر بعضها ! فقال الكسائي : أومثلي يخاطب بهذا؟ وهل مع العالم من العربية الا فضل بصاقي هذا ؟ ثم بصق ! فسكت اليزيدي. وكما هو واضح فان الكسائي يدعي الأعلمية في العربية متحدثا بلغة عنجهية ومتصرفا مثل الرجل الاحمق. الكسائي يدعي الاعلمية بالاقوال ولكن الافعال والتصرفات (أقصد الجانب التطبيقي والعملي لاستعمال اللغة) تثبت عكس ذلك حيث ينكشف جهله وضعفه. فعنجهية الكسائي هذه وتشدقه بالأعلمية كذب وتزييف وما هو الا مدع مثل غيره الذين رفعهم السلطان الى بلاطه فاصبحوا عبيدا. يروي الكسائي نفسه رواية تظهر كيفية جهله ببعض القراءات التي تتقنها العامة فقال: حججت يوما مع الرشيد فقمت لبعض الصلوات ، فقرأت (ذرية ضعافا خافوا عليهم) فأملت ضعافا ، فلما سلمت ضربوني بالنعل والايدي وغير ذلك ، حتى غشي عليَ. وينقل احد الدارسين المعاصرين: ان الكسائي نفسه ( يعترف بان لسانه ربما سبقه باللحن ، فلا يمكنه ان يرده، فتذكر المصادر أنه قرأ، وهو يصلي بهارون الرشيد: ( لعلهم يرجعون) فقال : لعلهم يرجعين ! قال: فو الله ما اجترأ هارون أن يقول لي : أخطأت ، ولكنه لما سلمت ، قال لي: يا كسائي، اي لغة هذه؟ قلت : يا أمير المؤمنين ، قد يعثر الجواد. فقال : أما هذه فنعم). ومما يروى ايضا ما ذكره الفراء من ان ( الكسائي مات وهو لا يحسن حد (نعم وبئس) ولا حد أن المفتوحة ، ولا حد الحكاية). والفراء نفسه يقول : ( ولم يكن الخليل يحسن النداء، ولا كان سيبويه يدري حدَ التعجب).
وتوارثت الاجيال ذلك التناقض حتى بتنا نسمع استاذا مساعدا يحمل شهادة الدكتوراه في اختصاص النحو يناقش طالب دكتوراه في اختصاص النحو-ايضا – يلحن في خطبته فينصب ما حقه الجر مرارا وتكرارا دون ان يشعر انه قد أخطأ. هل نحتاج الى براهين وامثلة اكثر للتدليل على بنية التناقض؟ نعم ، نحتاج والامثلة كثيرة بيد ان المكان لا يتسع الى ذلك. لذا ساختم ببعض الامثلة التي تكشف ان بنية التناقض ليست في انتاج المعرفة والفكر فقط ، وانما في السلوكيات والتصرفات التي اعتاد عليها اؤلئك العلماء. الكسائي نفسه ، المقرئ المشهور وصاحب الحديث الثقة كان يشرب الخمر ويمارس اللواط في حلقة تحفيظ القران ولا يشعر بان هذه الممارسات تتناقض مع مكانته العلمية ودوره التربوي.
يروي صاحب ارشاد الاريب ويتفق معه مؤلف بغية الوعاة : ان الكسائي أقام غلاما ممن عنده في الكتَاب، وقام يفسق به ، وجاء بعض الكتاب ليسلم عليه ، فراه الكسائي، فجلس في مكانه ، وبقي الغلام قائما مبهوتا. فلما دخل الكاتب ، قال للكسائي: ما شأن هذا الغلام قائما؟! قال: وقع عليه الفعل فانتصب!.
من هنا نخلص الى ان الصورة لم تكن مثالية والتراث ليس كتابا مقدسا، ورجاله ليسوا انبياء ، وانما هم بشر يخطئون ويصيبون لذا بات واجبا علينا ان نعيد قراءة ذلك التراث لتخليصه مما علق به من افكار متناقضة واخطاء فاحشة ، فنعيد انتاجه بالشكل الذي يتوافق مع متطلبات العصر وضرورياته.