من اْصعب لحظات التعبير الشعري , اللحظة التي تنتهي فيها البنية الدلالية الذهنية وتجسيدها في لغة الشعر ,لتبداْ بعدها لحظة تكوين بنية جديدة للمعنى,اْي التحول من صياغات جمل ومعانى ذهنية الى صياغات كتابية,صعوبة ذلك متعددة منها ,الربط الدلالي في المعنى العام ,التحول في صياغات بنية اللغة, والتحول اْو البقاء في سياق المعنى .
في دراستنا هذه سمينا التحول من سياق الدلالات الاْرتداد الدلالي وسمينا الاْنقطاع عن السياق العام للمعنى التقاطع الدلالي ,فما هي اْهميتهما في اْساليب كتابة الشعر اْي اْنتاج الشعرية اللغويةكتابيا وماذا قدم الشاعر اْسعد الجبوري من اْنماط وتكنيكات لغوية في شعره؟
لاْرتداد الدلالة اْهمية شعرية غير مضمونة ,فدورها لا تحدد بفراغات لغوية تتطلب ملؤها في تكوين المعنى المحدد اْو المعنى العام والتي تحتاج الى طاقة شعرية , بل تتجاوز ذلك وتمتد الى تفكيك اللغة الشعرية الى بنى لغوية سطحية ومخفية من خلال نفتيت النسق العام والبنية المعنوية التي توحد دلالات القصيدة,,بحيث تصبح لكل توقف لغوى عند صياغة جمل معينة كيان مستقل – متكامل- مفتوحة, في الصياغة الشعرية , وتقيم علاقات ترابطية مع السياق العام لجمال اللغة الشعرية وفي تكوين معاني تتجاوز في شكلها المعنى المحدد لهذا التوقف ,نعني بذلك اْن التوقف الاْرتدادي للغة الشعر يعني في قيمته الشكلية ,اْن الشاعر وعند كل اْرتداد دلالي في جمله التركيزية, يدخل في دلالات منفصلة ومستقلة و تعبر هذه الدلالات عن اْنتاج لغة غير متكاملة من حيث المعنى(بعزل وحدة المعنى عن العنوان,وعدم البحث عن البنية الخفية),وذلك مختلف تماما عن الاْرتداد النسقي العام لوحدة المعنى الشعري التي تجبر الشاعر على صيانة وحدة المعنى في السياق والمعنى المتشتت,عندما ترتبط كل الدلالات ببنية لغوية شعرية واحدة(خارج النسق العام للغة الشعر)
من الممكن ومن حيث دورها وتاْثيرها تسمية هذا الاْرتداد الدلالي بالاْرتداد الداخلي المحدد ,اْي اْن بحث الشاعر عن اْنتاج اللغة الشعرية مرتبطة بقوة مع بنية وحدة المعنى ووحدة سياق اللغة ضمن تمكنه من تشتيت وحدة المعنى,,بينما نرى الاْرتدادات اللغوية الغير منسقة والغير متكدسة معرضة للتجزئة البنوية بشكل عام ,تتحول الدلالات الى بنى لغوية تمتد الى اْصوات اللغة وتجزئة الكلمات والجمل والمقاطع ا, ْنها تشبه حالة الجنون اللغوي والجنون الذهني,يتخبط الشاعر كثيرا نتيجة التحولات المعنوية الكثيرة ,وكاْنه قد دخل في متاهات حسية لايتمكن العودة الى نقطة البداية ,الا اذا تمكن تفتيت كل بنية معينة في اللغة لها اْمكانية دلالية كافية في الحفاظ على نسق المعنى بصفة وحدة الموضوع ووحدة المعنى ووحدة الدلالات في وظائفها الشكلية والسطحية.,
اْما في التقاطع الدلالي فهي اللحظة التي يتوقف فيها الشاعر عن السياق العام للغة الشعر واللحظة التي عليه ملء الفراغ التام والتوقف المطبق في ذهنه وحسه وذاكرته ,لبداْ في لحظة الكتابة وهو منقطع بشكل تام مع الصياغات والمعاني والدلالات السابقة ,اْي الخروج من البنى السطحية للمعنى.
في الحالة هذه تتعدد بشكل مفرط تحديات اللغة والمعنى ,لاْن الشاعر سيكون تحت وطاْة التوقف والبدء من جديد,وكلنا نعلم اْن الجمل الاْولية لبدء التعبير الشعري هي من اْصعب اللحظات التي تعتري حس الشاعر وحالته الذهنية ,فهو يتحول باْستمرار مع تفاقم واْمتداد لحظات البدء والاْستمرار,بحيث تصبح اللغة الشعرية عبارة عن الهذيان الحسي والفكري ,تتطلب من الشاعر القوة اللغوية والفكرية والحسية والجمالية الكافية لمجارات هذه التحولات.,فكل وقفة شعرية في التعبير تصاحبها حالة من الخمول الذهني الذي يدفع الشاعر اْلى اْن يخرج من دلالات مترابطة ويخلق دلالات جديدة,مما يؤثر في قدرة اللغة وللاْسباب التالية:
1-عدم الاْنقطاع عن الدلالات له تاْثيرات ملحوظة على الشاعر والذي يسهل عليه الاْستمرار في الكتابة وخاصة الكتابة السردية للشعر,السرد الشعري عبارة عن اْمتداد وتوسع الدلالات التي تتكون منذ اللحظة الاْولى للكتابة, فهي ارتكازات تعبيرية مفتوحة اْمام تشكيل الجمل المنسقة والجمل ذات الدلالات المنسقة والموحدة معنى وتعبيرا ,وبما اْن المحرك الاْساس في التعبير هي البنية المعنوية التي تمثل اللغة السطحية واللغة المخفية في الكتابة الشعرية,فاْن كل وحدة موضوعية قابلة للسرد الطويل .
وربما جاءت محاولات التعبير اْو الاْسلوب الشعري المسماة بالنانو كرد للسرد الممتد, الذي يجعل من كتابة الشعر اْسلوبا تعبيريا محملة بكل ما يمكن من المعاني والتركيبات والصياغات المتعددة والمتشابكة معنويا,شعر النانو لا تقبل اْحادية الدلالات واْحادية البنية لاْن دوره هو تغتيت البنية الموحدة للمعنى وخلق اْرتدادات لغوية واْنقطاعات في التعبير تذهب الى حد تفتيت المعنى,لتتناغم الجمال اللغوي وتنسجم مع بنى غير اْرتكازية غير مركزية وقابلة دائما الى التشتت في اللغة والفكر والمديات الجمالية .
2- في الاْنقطاعات التعبيرية للشعر يفقد الشاعر لحظة الاْنفعال الحسي ولحظة التوقد الذهني ,وذلك لا يعني فقدان القدرة اللحظوية لكتابة الشعر وتحول كتابة الشعر الى صنعة اْسلوبية معرفة,اْولا اْن الشاعر لا يتمكن من تخمين ما سيؤل اليه التعبير في المعنى,وثانيا سيكون وجهة الشعر خلق تراكيب جملية منتجة للجمال الشكلي وليس المعنوي ,لاْن الجمال الشكلي اْيضا باْمكانها خلق لغة ثانية لها دلالاتها ولكنها دلالات مخفية ,تفرزها القراءة
الاْبداعية الخلاقة ,اْن الشعر بشكل عام لا يقبل هذا الاْسلوب في الكتابة لاْنها منعوتة بالغموض وتحتاج الى قدرة لغوية وفكرية وحسية عالية,فالقارىْ الغير محصن بهذه القدرات يحتاج دائما الى التغذية الاْيدولوجية التي تترجم له المعنى وتحلل له الدلالات وتجعل من الشعر اْسلوبا سرديا وسطحيا لا يحتاج الى حالة يتعايش القارىْ مع جماليات الشكل ولا يحتاج الى اْية اْنبهارات ذهنية تشارك مع لغة الشعر,وربما سيكون الاْسلوب الشعري المسماة بالنانو رد اْنقطاعي مع هذا القارىْ لاْنه لا يعتمد في كتابته على معايشة ومشاركة قارىْ لا يحركه اْحاسيسه المشبعة بالقلق وعدم الاْحساس بالاْطمئنان على فكره ,بل تحركه غرائزه المليئة بالبعد الاْجتماعي الذي يلتمس وباْلحاح تكوين روابط سطحية مع ما يلاقيه ومع ما ينتجه,لذلك ينبهر بسرعة مع التوجه الاْيدولوجي ويتمسك به.
3- الاْرتداد الدلالي تعني في هذا التوجه الاْبقاء على الحالة الذهنية وعدم السماح بالاْنتعاش الذهني والخمول اللغوي,لاْنها تركز على مسايرة اللغة ومد منافذ شعرية وفكرية يلوج بواسطتهما الشاعرعالما من الفكر المستتر ومحيطا من الاْختيارات التعبيرية في لغة الشعر,لاْن الشاعر هو كائن خلافي يفكر ويستغرق في لحظات لا يعرف ماهيتها .لقد غطت الاْستمرار في الكتابة ضمن السياق والبعد الواحد للكتابة مساحة كبيرة في الشعر العربي ودفعتها الى اْبعاد اْيدولوجية شاسعة ,وربما سيكون اْسلوب النانو نمطا من الكتابة الاْنقطاعية التي تنتج نفسها وتجدد كلماتها دون اللجوء الى وتيرة ذهنية متناسقة في الحس والوعي الترابط ,هدفه خلق حالة شعرية في اللغة تحدد دورها في الاْرتداد المستمر عن النسق العام للمعنى.
4- الاْنقطاع والاْرتداد لا يضمنان اْية سكنات واْستقرارات كتابية وفكرية ,فالتوقف يعني البدء من جديد والاْرتداد يعني اْقامة روابط وعلاقات فوقية مستمرة مع الكتابة ,وربما سيكون شعر النانو هو الاْسلوب الذي يخلق كائنات مختلفة في الوعي والفكر والحس ضمن قصيدة اْو مقطع شعري واحد .
على خلفية هذه الملاحظات النظرية اْخترت بعض من قصائد الشاعر اْسعد الجبوري ,ومادة تحليلي لا تتتضمن كل ما كتبه ,بل يعتمد على قصائد نشرت في المواقع الاْدبية.
1- تمازج قيمة بنية الاْنقطاع والاْرتداد
…………………………………..
التقاطع والاْرتداد الدلالي بينهما قيمة تمازجية في كتابة الشعر ,فكلما حدث التقاطع الدلالي والصوتي والمعنوي,يبداْ الاْرتداد الدلالي ,كقيمة جمالية بحته ,لاْن الاْرتداد يكمل دور الوقفة الشعرية في التقاطع الدلالي,ويسمح للشاعر بالبدء من جديد وكاْنه يبداْ في كتابة شعره منذ اللحظة الاْولى,وعليه اْن يركز على اللحظة التي تتبع الفراغات الفكرية والحسية ويملئها من اْجل تجسيد بنية لغوية جمالية اْساسها القيمة المعنوية المخفية فيها,اْي التركيز على قوة الاْرتداد الحسي في التوقف المعنوي والدلالي ومن ثم البدء من جديد.
هذه التحولات الجملية الدلالية في كتابة الشعر تعتمد على مسايرة مستمرة لحرية التعبير وعدم الاْلتزام بالقوالب اللغوية التي تتمدد باْستمرار في شكل اللغة ودلالاتها ,فما يدفع الشاعر في البقاء في التجديد ,هو عدم الاْلتزام بالقواعد الشعرية التي توجب عليه اْن يكون اْنسانا واقعيا ومنطقيا ومقولبا في اللغة الى اْبعد الحدود.لقد اْختنق الشعر بالغنائية الاْيدولوجية التي تخاطب الوعي ,اْختنق في السرد والتغني بالمثل المعنوية وما يتوجب اْن تقول,اْختنق بالقيم المتفقة عليها من قبل الشعر,ولعل شعر الجبوري قد فتت وشتت كبح جماح لغة الشعر ,والبحث المستمر فيما لا يصوغ اللغة والدلالة واْتباع تكنيك لغوي وشعري مختلف تغير بقوة رؤيتنا للاْشياء وعدم الاْطمئنان من المعاني والمثل الاْيدولوجية الثابته ,اْي لا يدع القارىْ في الاْستقرار الذهني والقراءة السدسة التي تستمر في بنيتها ,مدعومة بهذه المثل,في قصيدته (طيور في العزلة
) يكتب الشاعر:
1- عن جسدها ،
تطرد ُ المرآة ُ الضيوف َ,
2- ولعتمة زرقاء ،
تترك ُ الوحدة ُ جنينها تحت الوسادة ,
3- ملائكة ٌ ثمارهم عواصف ٌ.
4- وهذا النادل ُ المياوم ُ في جيب الخريطة ،
لقلبه حدوة ٌتسهرُ في هناك
جزءنا في قراءتنا البنية اللغوية- الشعرية الى اْربعة جمل مركبة ,ولكل بنية في ذاتها اْمتدادات شعرية وجمالية ,لاتقيم الجمل فيما بينها وبمعزل عن كلمة العزلة اْية علاقات معنوية واضحة,فكل الجمل هي ترجمة لهذه الكلمة ,وتؤدي دورها البنيوي المستقل بشكل تام وكامل ,ولا تترك خلفها فراغات لغوية ومعنوية ,يعني ذلك اْن القصيدة قد اْصبحت لها بنى لغوية متفرقة ومتباينة في تشتتها وتجزءتها ,اْنها قيمة الاْنقطاع الدلالي التي تشتت
كل العلاقات الممكنة بين الجمل التي لها قيمة دلالية اْحادية وتحتم على الشاعر الاْرتداد من الدلالة الجوهرية للجملة التي تسبقها ,بحيث اذا ما وضعنا العنوان اْمام اْية جملة متقاطعة ومستقلة تؤدي الشعر وظيفتها بشكل غير منقوص,من الممكن وضع العنوان اْمام كل جملة مركبة لتقراْ شعرا يمتلك بنية مستقلة تؤدي دورها في القراءة وتنتج اْوجه جمالية ومعنوية .
فما الذي يربط الجمل هذه مع بعضها ؟هل هي قيمة معنوية اْو سردية اْو جمالية؟
يكفي اْن نقراْ بنية الجملة الواحدة(الجملة الاْولى) للمعرفة الفكرية والذوقية ونركز على وجه من الاْوجه المتعددة للمعنى لنقول : لم يبقى في الوجود وجها حقيقيا للاْنسان من الممكن رؤية اْنعكاساته اْو لاتقبل الوجود بوجوه مقنعة ولا تريد اْنعكاساتها لاْنها فقدت الجمال ,(لا نبحث في تحليلنا هذه عن البنية الخفية التي توحد المعاني وتجسدها في هيئة بنية واحدة للمعنى) بل ما يهمنا الوقوف على البنية الفكرية والجمالية لقيمة الترابط والتمازج بين الجمل المتقاطعة والاْرتدادات التعبيرية التي تغطي مساحة الشعر باْكملها,فلو قراءنا الجملة الثانية ,نحس باْننا اْنقطعنا عما قرءناه في الجملة الاْولى ولو قراْنا الجملة الثالثة والرابعة لاْبتعدنا اْكثر فاْكثر عن اْنتاج بنية واحدة للمعنى,ونحس باْننا اْمام كومة من المعنى وكومة من الجمل المتقطعة متنا وسياقا,ولا يمكن فهم هذه العلاقة البنوية الا من خلال الاْنقطاع المستمر والاْرتداد المستمر للجمل والبنى الشعرية,والفوارز التي وضعت في نهاية الجمل لا تمتلك اْية قيمة لغوية خارج مفهوم الاْرتداد,بل تعني التقاطع اْكثر من اْن تعني التوقف المؤقت ,فالقيمة الواضحة للشعر والجمال ,اْنها تحولنا باْستمرار من شعر ذو خصائص كاملة في المعنى ,الى شعرذو بنى لاتتبع التسلسل الفكري والتوقف الشعري المنسق,فالتحول المستمر شتت وعينا واْدراكاتنا الحسية والمعرفية لتتاطبق مع تحولاتها وتوقفاتها وكاْنها تريد اْن لا نستقر لا في ذوقنا ولا في حسنا الجمالي ا ,ومن هنا من الممكن فهم قيمة التمازج بين الاْنقطاعات المستمرة والاْرتدادات المتتالية في المعنى.,وهي :
– جمع اْوجه متعددة في المعنى والقيمة الجمالية للجملة الشعرية,فاْننا نواجه بجد صعوبات واْرتباكات جادة في المعنى وكيفية اْقامة العلاقات المعنوية بين الجمل اْو بالاْحرى بين القصائد المتشتة,فالتقاطعات الكثيرة والتحولات الكثيرة بين الجمل ,ومن ثم التحول في الاْستعدادات النفسية والذهنية والمعرفية,لا تسعفنا ,اذا ما اْردنا من الشعر اْن تكون له وحدة موضوعية في المعنى,بل نمارس في قراءة هذا الشعر حالة التشتت في التحولات الكثيرة لتتشتت بعدها اْدراكنا ووعينا في ذاتنا ووحدتنا,وبالتالي من الممكن الخروج من هذه الحالة عن طريق قذف الجمل بعد قراءتنا لنتهياْ حسيا مع الجملة الثانية ومن ثم الثالثة والرابعة…الخ اْي الاْنقطاع التام والاْرتداد المستمر .وكاْن الشعر تزخر بنيتها باْبعاد جمالية وذوقية متعددة .من خلال التمازج البناء بينهما . .
– للتمازج البنيوي بين الاْنقطاعات والاْرتدادات اللغوية قيمة شعرية وجمالية مخفية,لاْن الشعر لا يدعمنا ولا يسعفنا في اْنتاج اْية قيمة جمالية في سطح البنية ,بل من خلال القراءة البناءة نتحفز لاْن نكون في وعينا وفي حالة الاْنتقال السريع ,اْي اْننا نحن الذين نشارك في الوعي الخفي وفي تحولات الجمل وروابطها ونحن الذين نمارس حدة الوعي لنفهم وعينا لنكون جزءا ممتدا من اللغة الشعرية والجمالية ,بواسطة تعدد الصور الذهنية والبنية اللغوية التي تنتجها الشعر..
2- تقاطع البنية ,والوعي اللغوي
………………………………
اْقامة اْية علاقة مع اللغة الشعرية تحديدا هي تجاوز للميراث التطابقي اللوجيكي للاْدراك ,لاْنه من الممكن توجيه الاْدراك وترويضه في اللغة وترسباتها الجمعية,مما يؤدي الى فقدان قدرة التباين والتمايز في الوعي اللغوي ,اْي فقدان الاْحساس بالوعي اللغوي ,فالشاعر لا يمهد السبيل لاْية دلالات لغوية اْن تكتمل الا في اْستقلاليتها وهي مقطوعة عن هذه السمة الشائعة ,,ومن ثم في اْمتدادها المخفي , هناك مساحة من الوعي يبقى مخفيا عندما تصطدم الفكر والقراءة التلذذية بالاْندهاش والصدمة النفسية,لا نعني بذلك الصدمة التي تنتجها الفوضى السريالي في لغة الشعر,(يرى كثيرون اْن الشاعر اْسعد الجبوري ينتهج في شعره اْسلوبا سرياليا في كتابته للشعر واْنا لا اْعتقد ذلك ) مما نعنيه اْن كل قراءة شعرية مهما كانت مستواها واْدراكها ,تترك خلفها مساحات من الفراغ الاْدراكي والاْستدلالي والتي تحثنا على اْن نجمع شتاتنا في وعينا من اْجل اْكمال دور اْدراكنا ,فهي تدفعنا الى التناقض والاْرتداد والاْبتعاد عن المعنى السطحي و تعرض سيلا من البنى لنغيرها في قراءاتنا باْستمرار,كل ذلك من اْجل اْن لا نمتلك اْدراكات مسبقة من الممكن توجيهها في السرد الشعري وهي تمدنا بحافز معنوي واْيدولوجي ,فالتطابقات الفكرية والاْدراكية لنا دفعنا الى التداخل والاْنحياز ,لاْن القراءة تمتلك اْدراكا مفقودا يحافظ على علاقاتنا الحقيقية مع الاْشياء,فالاْشياء في حسنا واْدراكنا الذاتي معرض لتلقي المعرفة الجمعية التي لها اْسس فكرية معرفة في اللغة , الاْنقطاع عن الوعي المروض ينتج اْدراكا لا منتميا وغير منحازا في كتابتنا للشعر وقد اْتبع الشاعر اْسلوبا شعريا لا تعرض ولا تجسد اْية تاْثيرات مقصودة وهادفة على قراءتنا ,بل يدعنا اْن نكون نحن ,اْن نتمكن من اْمتلاك وعينا ,فهو يذهب الى اْنتاج اْقسى التقاطعات اللغوية في الشعر ,دور التقاطعات الشعرية عند الشاعر هو خلق فضاءات فكرية وحسية غير متجذرة وغير اْصيلة في مكتسباتنا المعرفية والتاْريخية ,اْنها تدفعنا الى اْبعاد حسية اْرتدادية في وعينا واْدراكنا واْن نكون جزءا من لغة الشعر
,واْن لا نبقى بين محوري الكاتب والقارىْ,بل نكون داخل اللغة ,بكل اْمكانياتنا واْدراكاتنا اللحظوية المتحررة من المثل المعنوية الكبيرة,كيف وجه الشاعر شعره نحو هذا المنحى؟
اْن تقاطع الدلالات تتبعها تقاطع حسي واْدراكي تام,ولذلك لا تاْتي الاْرتدادات الدلالية والمكونات المعرفية مكملة لما كوناه في تلقينا لمعاني اللغة ,تشبه ذلك تقاطع اللوحة مع ما تاْتي بعدها ,فكل فرصة لتلقي الشعرية وتنامي الاْدراك تاْتي ضمن تقاطعنا الدلالي وعدم البحث عن الربط الحسي بين الجمل,لاْن كلمات اللغة رسخت جذرها في موقعها وفي كلمات الشعر واللغة الشعرية,فهي اْي كلمات الشعر من الممكن اْن تشغل مدار جغرافي في القراءة ,وكاْنها تريد اْن تقطع كل صلاتها الدلالية مع الكلمات والجمل الاْخرى,بسبب الاْنحرافات الدلالية المتعاقبة والمتسلسلة ,لنقراْ هذا المقطع من قصيدة التفاحة :
عندما
دخلني
النوم
لم يجدني
………..
اْن كلمات مثل (عندما ……دخلني….النوم….لم يعجبني) هي كلمات تريد اْن تنفصل عن بعضها البعض بالرغم من ضغوطات العنوان وسياق المعنى,فالكلمة الاْولى بالرغم من سطوة اللغة في السرد ,لها اْستقلالية صورية وصوتية ,تنتج اْحاسيس واْدراكات منفصلة, ولو جزءنا هذا المقطع الى مقطعين نقراْ(عندما دخلني…..النوم لم يجدني ) فهذه الجمل لها بنيتها اللغوية في الشعرية واْيضا لكل الكلمات كوحدة لغوية تمتلك هذه البنية الحسية والاْدراكية.لاْن الجملة مع كل كلماتها لا تضم المعاني الاْدراكية المعرفية والفكرية في سطحها اللغوي والشعري,بل تمهد لبناء اْدراك اخر للمعنى الطليق ,لا تريد اْن تبني وحدة سردية ومعنوية و متكاملة ,بل تشتت اْدراكنا الفكري من اْجل التمهيد لبناء اْدراك لغوي غير ملتزم .
كان الشاعر اوكتافيو باز ينتقد السرياليين وهو منهم,لاْعتقادهم اْحداث التغير في الاْنسان من خلال الشعر,وربما يعتقد الشاعر اْسعد الجبوري اْنه يهدم التغيير في الاْنسان من اْساسه,من خلال تشتيت اْدراكه ومهد السبيل له ليبني هو اْدراكا جديدا في قراءاته ورؤيته للاْشياء ,ولا يمثل ذلك الهدم والبناء ,بل الهدم ومن ثم عدم التوكل على الاْدراك المصوغ ,في بوتقة حسية واْدراكية منحازة .
الى ماذا يرمي الشاعر في قوله هذا ؟ وهل يهم اْن نفهم الى ماذا يرمي وماذا يعني؟ الدلالات المعنوية لبنية الشعر هي دلالات تؤدي دور الاْنقطاع المعرفي والاْدراكي في لغتنا وتاْملاتنا الفكرية,وتحاول اْن تشتت رؤيتنا المستقرة ,تحاول نبذ الاْتكال المعنوي والدعوة الى اْكتساب شكل من اْشكال الفهم الجديد لا تجذر فوق اْرضية لغوية مترسبة المعاني ,فمعنى الجملة تغير من الوظائف المعرفة والمحددة لدور الدلالات ,وهي تحث اْنبثاق بنية غير معرفة في اْدراكنا ,اْن دلالات هذا المقطع لا تريد اْن تقول اْنني لا اْستسلم للنوم,ولا تريد اْن تقول اْن اْنني اْنسان منكوب لا اْستطيع النوم,بل تريد اْن لا تقول شيئا غير السؤال عن جدوى ممارستنا للنوم والتشكيك بفرضية وواقع النوم عند الاْنسان ,واْذا ما كان النوم يعني الغيبوبة والاْطباق الوجودي والحسي التام ,فهنا تفند الدلالات هذه السلطة الساحقة..
الجمل التي تاْتي بعد ذلك تؤدي اْدوار تشتتية واْدراكية متفاوتة ,وتقاطعات دلالية متعددة,لنقراْ المقطع الثاني:
1-جسر ٌ على شفتين
وآلة ٌ كاتبة ٌ بلا قميص .
2- من
يذهب مع التمثال إلى المدخنة
ليعرف ,
أين يضخ بمؤلفاته
3- الثلج حزب ٌ ،
عندما يغفو على الكتف ،
تطرده ُ الخادمة ُ ..
فيلتجأ إلى الذوبان
(ترقيم المقطع من قبلنا كطريقة تحليلية)
تشكل الجمل في المقطع هذا تقاطعات بنوية كثيرة في لغة الشعر ,فكل مقطع من الشعر يبقى من حيث الاْدراك اللغوي والمعرفي مستقلة عن بعضها البعض كما بيناه في الترقيم ,وكل مقطع متقاطع للشعر,يشكل تقاطعات متعددة اْخرى ,(جسر على شفتين …والة كاتبة بلا قميص..).هي جمل ذات
بنية مستقلة تقاطع الجملة التي تسبقها وتحاول تشتيت الجمع الدلالي والترتيب اْو التعاقب الدلالي وتهدمها من اْساسها لا في لغة الشعر فقط,بل في اْدراكنا وحسنا وقراءتنا,واْيضا (من يذهب مع التمثال الى المدخنة….الخ).ما المقصود بهذه التقاطعات وهذا التشتت الشعري في اللغة؟
ترمي التقاطعات الشعرية والتوقفات الجملية عند الشاعر اْحداث تقاطعات معرفية في رؤيتنا للاْشياء عن طريق لا ثبوتية الاْدراك والحس,اْي النقاء المعرفي الذاتي التي تفتت تمركز المعرفة المترسبة في وعينا كلما فكرنا في علاقة دلالية وفكرية,بحيث تماثل نقاء الوعي لدى هوسرل الذي ركز على اْفراغ الوعي من كل معرفة خارجية وطبيعية من اْجل التوقف عن كل حكم مسبق اْزاء الاْشياء (epoche) ومن اْجل الوصول الى النقاء التام للوعي (evidence) ولكن لماذا التشكيك في المعرفة الذاتية ومحاولة تشتيت هذه المعرفة المسبقة من اْساسها عبر تشتيت المعرفة ذاتها التي جسدته شعر الجبوري؟
عندما لا يكون الشعر هدفا معنويا واْيدولوجيا وفكريا منحازا ,ولا يكون هدفا لقيمة اْجتماعية وتاْريخية وسياسية ,سيكون دوره خلق الشعرية ضمن لغة خارجة عن هذه التصنيفات المعرفية التي جذرت مفاهيمها ومثلها في لغة الكتابة,الشعر بالنسبة للجبوري كتابة زلقة ,كلما تنامت المعنى اْمتلكت لحظة من السقوط الكلي ,كلما خلقت الدلالات الاْندهاشية كلما اْسرعت في تفنيد المعنى ,لنتمكن نحن القراء من تكوين المعنى الذاتي لنا من خلال شعره ,اْي تحفيزنا لخلق حالة شعرية تتمازج مع حالتنا النفسية ,عبر تكنيكات شعرية متعددة نذكر منها:
اْرتداد الدلالة واْرتداد بنية اللغة الشعرية
……………………………………..
هل من الممكن الاْستدلال على ماهية اللغة الشعرية؟ لم تتوصل الدراسات اللغوية حول الشعرية اْن تحدد تعريفا مقبولا وغير مشكوك فيه ,لاْنه وببساطة معرفية ندرك باْن مجرد التفكير في تحديد شكل وبنية الشعرية ستكون نهاية الشعرية,لاْن الشعرية هي خلق الحالات الذهنية النادرة في التاْمل والفكر والحس,ولا يمكن لاْي شاعر اْو ناقد التعرف على ديناميكيتها اللغوية والحسية الا بعد خلق الشعرية ,والحالة هذه ترتبط الشعرية باللغة والفكر من خلال خصائص لغوية غير محددة ,لاْن لكل شاعر اْو روائي اْو قاص لغته الخاصة به في خلقها , .ولكن الشعرية تمتلك بنية غير محددة في لغة الشعر ,ولكنها تعبر عن حالة نفسية وفكرية ولغوية غير معروفة في الكتابة ومن الممكن تحليله في الكتابة .
اذا ما اْعتبرنا مفهوم الاْرتداد الدلالي سمة من السمات المتفرقة في اْنتاج الشعرية ,فاْن شعر الجبوري مزخر بهذا التكنيك اللغوي ,فكيف تمكن من ذلك بالرغم من الحقيقة النقدية والشعرية التي لا تعتبر الكتابة شعرا ما لم تتمكن من الحفاظ على الاْسلوب السردي للشعر؟
يستخدم الشاعر اْسعد الجبوري تكنيك الاْرتداد الدلالي للتاْكد من اْيقاع حالات نفسية شعرية وذهنية -حسية لدى القارىْ و من اْجل اْفراغ الذاكرة الفردية من كل ما تسير الفكر وتحدد اْنطلاقه المجهول ,فنرى الدلالات تحافض حتى في وحداتها المصغرة جدا على تكوين حالة صورية ذهنية تصطدم بالواقع الذهني الثابت لدى القارىْ,فهو يستمر في تحويل القراءة التي لا تتمكن من اْنجاز قراءاتها الا بذاكرة فارغة,ولذلك اْصبحت الدلالات لا تعني بالمعاني الجدية ,بل تتسم بسخرية صورية صامتة وكاْنما تريد اْن تتهمك بالثوابت الفكرية التي تريد اْن تصور الواقع برؤية منطقية وواقعية عبر جمل معرضة للاْنحلال ومقدرة على التشتت والارتداد المستمر ,اْنه تكنيك الاْرتداد المستمر لمحاكاة التحول المستمر للاْشياء بفعاليته المستقر, وثوابتها الدلالية منهمكا في خلق حالة ذهنية لا تتقبل اْية اْحكام واْمثال دلالية ومعنوية مسبقة وحاضرة,لتاْتي بعد ذلك الحالة (الغير ملتزمة ) للوعي والحس لتبنيا نفسيهما من جديد في كيان فارغ من كل شىْ ,الا من كلمات تركيزية غير قابلة للجمع الدلالي المنطقي,ربما تكون لهذه السمات توجهات سريالية اْو تدعي بتوجهات سريالية,الا اْننا نصطدم بفكرنا هذا مع توالي الصور التي من الممكن اْن تخلق حسا جديدا لاتتوائم مع حسنا الملىْ بالدلالات الثابتة,لاْن بنية اللغة في وجودها وتداولها هي بنية ثابتة لاْنتاج المعنى بالرغم من تغير المعنى في شكل وكيفية التعبير,يكتب الشاعر في قصيدة ( للنفي ) :
1-أغسل ُ يدي من الكتابة .
2- المخيلة ُ جمال ٌ ،
3-يمزج ُ الهواء بالركض
4- ودائماً ،،
تحلم ُ الأنوثة ُ بالخروج من سطل
الحليب .
5-فراغ ٌ ..
بزغب الثياب يحتفظ .
6-والرصيف ُ موجة ٌ متقاعدة ٌ .
7-..أغسل الكتابة
8- والكحول ُ لص ٌ ،
9-أفقد َالجميع َ انتظارهم في الرحمة
والعقل .
10-هنا الصفاقة ُ .
11-الموت ُ البدائي .
12-والصلاة ُ في ماسورة محدبة .
13-هنا القصيدة ُ ،
مربط ُ فرس في منتصف الفم .
لا يمكننا تلقي جمل مثل (المخيلة ُ جمال ٌ ، يمزج ُ الهواء بالركض, تحلم ُ الأنوثة ُ بالخروج من سطل ,الحليب. فراغ ٌ ..,بزغب الثياب يحتفظ , والرصيف ُ موجة ٌ متقاعدة ٌ..أغسل الكتابة
والكحول ُ لص ٌ ، . والصلاة ُ في ماسورة محدبة . هنا القصيدة ُ ،مربط ُ فرس في منتصف الفم…….) كجمل تتوائم مع ميراثنا الفكري والمعرفي وكاْننا نواجه ترددات متسلسلة من التوتر الطلق دون ان تكون له بنية موحدة في المعنى,لاْن المعنى حال تكونها تقطع اْنسيابتها في الذاكرة وتحاول اْن تنشىْ في قراءتنا ذاكرة مؤقتة غير رصينة واْصيلة,اْن تكون اْنسانا يعيش ويستقبل دون ماضي فكري وحياتي,هو ما اْراده الشعر دون التزام مسبق,فتتوالى في ذاكرتنا صور تدمر كل البنى الفكرية المسبقة,وهذه الحالة تشكل البنية الارتدادية اللاجذرية في وعينا.
هذه القصيدة التي فقدت بريقها الفكري والاْيدولوجي مع تشبثنا بالبحث عن التطابق والاْستمرار وعدم الاْرتداد ,فقدت بنية وحدتها الدلالية وهي ترتكز على توالي البنى,واْذا ما كان كل نص يمتلك في لغته بنية خفية تجسد كل البنى في بنية واحدة للمعنى ,فاْن هذه البنية وفي هذه القصيدة لن تكون بنية تتجلى من خلال التحليلات اللغوية المشبعة بالمعنى وجمال النسق,بل بالاْمكان الحديث عن هذه البنية من خلال ما تفرز من اْضطرابات ذهنية كنتيجة للتفرع المتزايد في المعنى
والدلالات الكبيرة التي اْستقرت في اْذهاننا ,وتشكل كل هذه التحليلات جوابا لسؤالنا ما جدوى الاْرتداد المستمر عن المعنى وبنيتها في لغة الشعر؟ وما هي اْصل المعنى في دلالات الشعر؟
البنية الخفية للغة التقاطع والاْرتداد
………………………………….
وككل القصائد يتسم شعر الجبوري بصفة الهيكلة الشعرية في التعبير ,الشعر له عنوان وجمله مختصرة ومتتالية ,اْي لكل هاتين العنصرين اْهمية لغوية في تحليل ما يرمي اليه شعره اْو ماذا يريد اْن يقول ولماذا يكتب الشعر ؟
يركز الشاعر ومن خلال تحديد عنوان للشعر اْن يجسد الكلمة بمعزل عن النسق الشعري وبمعزل عن دور العنوان في توحيد المعاني والدلالات في بنية واحدة للغة الشعر,لاْن القراءة الاْكثر عمقا لا تساعدنا في اْنجاز مفهوم وحدة المعنى من خلال علاقة العنوان بالمتن,الا اْننا نعتقد باْن الكتابة وكل اْنواعها الاْخرى,اْي النص بشكل عام له بنية معنوية موحدة تتجمع فيها كل البنى السطحية للمعنى ,اْي حالة خلق لغة خارجة عن النص بحيث تصل فعاليتها في المعنى الى حد موت اللغة وبروز بنية جديدة للغة اْخرى غير اللغة المكتوبة والظاهرة في القراءة,اْنها حالة خلق اللغة من خلال نص اْدبي وفني دون الاْلتزام بالمعنى اْو الاْرتكاز على ثيمة النص,وذلك يعني اْن فكرة بارت حول موت المؤلف وولادة القارىْ ,هي حالة توسطية للقراءة الاْبداعية,ولا تعبر عن حالة اْسمى من موت لغة النص عندما نترك كل المعانى المطروحة في النص خلفنا ونحن نبحث عن لغة ذهنية جديدة في ذاكرتنا ووعينا,لماذا وكيف ياْخذ النص هذه الاْبعاد الاْنحرافية في لغته؟
اْعتقد وبجزم اْن شعر الجبوري لا يرتكز على اْنتاج المعنى في لغة النص بقدر ما يشغله اْنتاج حالة ذهنية ,للغة ذاتية لا تشوبها اْية اْرشادات معنوية للتفسير والفهم,اْن تكون لنا لغة ننتجها نحن ونتجاوز بها لغة مطروحة ومجسدة ,لغة تقطع على القارىْ كل تماس واقعي مع الغهم والفكر المعتاد ,هو هدف القصيدة بعينها ,اْي صقل فهم جديد لكيفية تلقي لغة النص,الا اْن اللغة هي عبارة عن كتلة من الاْصوات والمعاني التي تدخل في تشابك مستمر وتتمكن من الاْفلاتات من التحجيم المقصود عن دلالاتها,فلغة الشعر مهما بلغت حدود تشتيت المعنى تبقى مرتبطة ببنية لغوية حتى واْن كانت هذه البنية غير موجودة في لغة النص ,والحقيقة اْن ما ننتجه نحن من بنى معنوية من خلال النص هي التي لها اْهمية تلذذية وليس ما يطرحه الشاعر ,الشعر الذي لا يوصلنا ْو لايدفعنا الى بلوغ هذه الحالة ,لن يتمكن من اْنتاج الشعرية ,سنطبق كل ذلك على نص من نصوص الشعر ,يقول الجبوري في قصيدته (السلاح ) :-
.. بلدانٌ
يُقشرها حلاقوّ
بحيراتٌ أنقاض
والحنينُ عَـلمٌ مجرور
عنادل ٌ تحت السديم
فاكهةٌ على سرير الإعدام
وأنا .. وكلما التجأتُ إليه ِ ،
وجدتهُ يُشعلُ ناراً في متاحفه .
حولّهُ ذئابٌ مُتجمدّة ٌ..
تُصغي لرعب ٍ كان من رأسهِ
يتدلى .
ويوم أخذتهُ من يدّهِ وبسطتها
في موقف السلاح
.. سائلةً :
إلى أي حربٍ تتجهُ يا حبي ،
والموتُ
صرخةٌ
تبددّ
الكثافةَ
فأجابَ بصوتِ مُتبّلٍ بالحشرجة :
ما أصابعي بمزرعةٍ للمخالب ،
وليس وقتي حديداً
لتُطرقَ منهُ السيوف.
هنا سأنتظرُ الخريف طويلاً ،
لأبدل حروف الحرب ،
فتكون عمياء
بعدها ..
أستريح من نقل الجثث.
للعنوان روابط بنوية جذرية عميقة مع صور اللغة الشعرية التي تظهر في البنى السطحية, ففيها تمتد كلمة السلاح ودلالاتها الى تشابك رمزي ,تمهد للقراءة السؤال عن دلالات النص وبنيتها ,كلمات مثل(قشر البلدان,الحلاقون,سرير الاْعدام, يشعل النار,الرعب ,موقف السلاح,الحرب ,الموت,الصرخة,السيوف,حروف الحرب, عمياء ,الجثث…) يكفي اْن تتوالى هذه الكلمات لتعيش في عالم ليس فيها الا قصص متفرقة تعبر عن الهدم والقتل والاْنحراف والتشدد وتكديس الجثث.هذه علاقات لغوية متينة بين السلاح وهذا العالم .ولكننا نريد اْن نعرف هل هذه العلاقات قد بنيت في اْطار هذه المعلومات الماْلوفة ؟ وما هي ماهية هذه العلاقات التي تكونها الكلمات مع كلمة السلاح وهل هي اْساس الشعرية ؟
هذه العلاقات التي تربط كلمة السلاح بتلك الكلمات ليست اْساسية ولا تسعفنا في شىْ,ان وضعناها في اْدوارها المقبولة والماْلوفة,والسبب واضح لا يريد الشاعر اْن يبني المعنى على اْساس اْنظمة اللغة المعروفة في المجال الكتابي,بل يسند الى المعنى دور اخر,الا وهو هدم كل علاقة معنوية متباينة ومستخدمة في الكتابات التي تستنسخ بعضها البعض ,اْنه يخرج العنوان والكلمات من معناها العادي المعروف ويحملها معاني صورية جديدة,تعتمد على الاْيحاء الحسي
والصوري الخيالي للغة الشعر ’وبهذا التكنيك ستنقلب الكلمات على معانيها وكاْنها فقدت كل اْهميتها في لغة الكتابة لتنتج لغة اْيحائية اْخرى تنبع من المخيلة وتعود اليها ,لتعطينا فرصة جديدة لفهم الاْشياء اْو عدم فهمها على اْساس تلقي ما لا يمكن تلقيه,فكلمات وجمل مثل:
.. بلدانٌ
يُقشرها حلاقوّ
بحيراتٌ أنقاض
بلدان مقشرة توحي بترميز تخيلي الى حالة البلدان التي وبواسطة السلاح تصبح مدمرة بالكامل ,والبحيرات ملئتها بقايا الاْسلحة المتطورة واْصبحت ترسانة للاْنقاض,وبهذا المعنى لاتخرج القصيدة عن مدار تعبيري رمزي,ولكن هل يريد الشاعر اْن يعبر عن كلمة السلاح بالتعبير الرمزي للشعر ؟
اْن هذه العلاقة بين السلاح والهدم والاْنقاظ واقعية ومن الممكن تقبلها في لغة الشعر ,الا اْن الشاعر وحسه لا يقولان ذلك,لاْن لغة الشعر غرقت في الاْسلوب التهكمي لما يفعله الاْنسان ,الاْنسان هنا مركز السؤال عما ينتج وما يفعل ومدى واقعية وعقلانية ما يفعله وما يقتنع به,ها هو يدمر مدنه في حروب عبثية ويلوث بيئته بغريزة وحشية ,اذا السؤال ليس عن السلاح وما يفعله ,بل السؤال الاْساسي هو عن الاْنسان وهو محور التهكم العبثي به وباْفعاله ,وجمل اْخرى مثل :
والحنينُ عَـلمٌ مجرور
عنادل ٌ تحت السديم
فاكهةٌ على سرير الإعدام
وأنا .. وكلما التجأتُ إليه ِ ،
وجدتهُ يُشعلُ ناراً في متاحفه .
حولّهُ ذئابٌ مُتجمدّة ٌ..
تُصغي لرعب ٍ كان من رأسهِ
يتدلى .
يصبح الحنين علم مجرور ,والعنادل اْصبحت تحت السديم,والفاكهة على سرير الاْعدام , يشعل نارا في بقايا تاْريخه,حوله ذئاب متجمدة ,تصغي لرعب وراْسه يتدلى……السخرية التراجيدية هي المقصود من كل ما حدث ويحدث للاْنسان ,وليس المقصود بهذا التشويه والمسخ والاْنحرافات اللغوية اْن تدلنا وتعلمنا بما يحدث مع السلاح , فالدلالات تتراجع من اْدوارها مع التقاطعات والاْرتدات الدلالية المتكررة فجوهر المعنى هو عما يحدث مع الاْنسان ,والسؤال عن جدوى كلمات مثل الحنين والسرير اْو مكان يلتجاْ اليه الاْنسان لينسى ما حدث,وبهذه الصبغة الدلالية الجديدة من الممكن اْن نكتب الاْنسان كعنوان للقصيدة ,واذا ما فعلنا تفقد لغة الشعر صفة الاْستدلال
الاْيحائي والاْحساسات التخيلية لها ,والحالة هذه نفهم اْن كل هذه البنى السطحية للغة الشعر اْدت اْدوارها بدقة تامة ,لتنتهي وتزول في الذاكرة من اْجل تجسيد بنية لغوية اْخرى ,بواسطتها تمكن الشاعر من خلق لغة اْخرى للشعر وخلاصتها البنيوية هي:
البنية الخفية للمعنى والتي نتجت عن التقاطعات والاْرتدادات الدلالية تقول لنا, ما فعلناه في تاْريخنا وما نفعله ,قذفتنا خارج الزمان والمكان ,لاْنه لا توجد لنا بقعة امنة بينهما , ونحن نسير بحماسة عقلانية وسخرية عقلانية نحو تفنيد الاْنسان .