يعاني اليسار العربي في العقود الأخيرة، كما اليسار أجمع، وتخصيصًا بعد التسونامي في الحركة الشيوعية والمنظومة الاشتراكية، اشكالات فكرية سياسية وتاريخية متعددة ومتنوعة، ولعل الوضع الذي ال اليه واقع اليسار العربي بمختلف وشتى تياراته، يدعونا الى التفكير والبحث عن وسائل وآفاق جديدة، لاستعادة قوته والحفاظ على استمراريته وديموته في ظل تنامي الفكر الداعشي الاصولي السلفي التكفيري المتطرف في مجتمعاتنا العربية، ولكي يتمكن من القيام بدوره الكفاحي المنوط به في المشهد السياسي العربي، وتزداد أهمية ذلك انطلاقًا من قراءتنا الصحيحة لواقع اليسار، وادراكنا للتراجع والانحسار الشديدين الحاصلين في الثقافة اليسارية والفكر التقدمي العقلاني والعلماني وآليات الحضور، الأمر الذي خلق فراغًا في الأرض العربية، وظهور خيارات فكرية ومواقف سياسية آخرى وتيارات سلفية ظلامية جهادية، باتت تكتسح المجال السياسي وتملأ الأمكنة والفضاءات، التي كان الفكر السياسي اليساري بكل تياراته الماركسية والعمالية والشيوعية والاشتراكية، وتنظيماته السياسية المختلفة، حاضران بقوة في الحياة السياسية والثقافية والفكرية العربية.
ان اعادة الاعتبار للقيم اليسارية في حياتنا السياسية يتطلب بناء بديل تاريخي جديد، قادر على مواجهة التحديات الراهنة، ولن يتم انجاز ذلك الا بمجموعة من التفاعلات الضرورية مع مختلف التحولات المعاصرة التي طرأت على مجتمعاتنا، حيث أن تأسيس وبناء بديل تاريخي لليسار في عالمنا، يستلزم الانخراط في مواجهة تيارات التقليد والرجعية والمحافظة والسلفية والجهادية المتطرفة، ومختلف التراجعات التي عرفها الفكر السياسي العربي والعالمي.
واليسار الجديد الذي نتطلع ونطمح ونرنو اليه مطالب بمراجعة فكرية شاملة للتجربة اليسارية السابقة، والاستفادة من مكاسب الثورات العمالية والطبقية والتحررية، ومن مختلف مكاسب المعرفة والتاريخ، وخلق آليات جديدة في العمل الحزبي التنظيمي، بغية مواجهة كل أشكال الظلم والاستبداد القائمة والمتجددة بألوان” حضارية”.
ولا يمكن لليسار أن ينهض من جديد ويستعيد قوته وجماهيره دون الاستفادة من الماضي، ودون تشخيص دقيق لاعطابه، ودون سعي دائب لاستعادة وزنه ونشاطه وكفاحه وجماهيريته وحضوره في المشهد السياسي، وفي الجبهة الثقافية والفكرية، وبناء المرجعية لاسئلة الحاضر وتحدياته الكبرى، وتجاوز الاشكالات السلبية التي سيطرت عليه، والقضاء على مظاهر الشلل السائدة في الثقافة اليسارية الحاضرة.
هذا هو السبيل الوحيد لنهوض اليسار واستعادة دوره الطليعي الثوري المنوط به، كقوة تغيير ثورية لانجاز التجدد الفكري والاصلاح السياسي، وبناء الدولة المدنية العصرية، دولة المؤسسات، وتحقيق العدالة المنشودة.
فوجود اليسار كان ضرورة في الماضي، ولا يزال وسيظل ضروريًا لمستقبل العالم، رغم دعاة الاستثنائية العربية الذين يضعون المجتمعات العربية خارج التاريخ.