لا نستطيع أن ننكر بأن جميع الحكومات التي توالت على حكم العراق منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 ولغاية سقوط النظام السابق وأحتلاله من قبل الأمريكان بأنهم قد أسهموا ببناء العراق كل حسب مقدرتها ومدة حكمها والظروف السياسية والأقليمية والدولية التي كانت سائدة أنذاك ، والأهم في كل ذلك هو مدى أنتماء قادة تلك الحكومات وشعورهم وحسهم الوطني أتجاه وطنهم وشعبهم ، فبنوا الجسور وأقاموا السدود والمنشآت الصناعية والبنى التحتية والخدمية وفتحوا الشوارع وبنوا المدارس وأسسوا الجامعات والكليات وأنشاؤوا المستشفيات والمستوصفات والمصانع والمعامل وغيرها الكثير ونستطيع أن نجمل ذلك بالقول بأنهم بنوا وشيدوا وعمروا وكانوا أمتدادا لبعضهم البعض في البناء والأعمار رغم الخلافات الفكرية والعقائدية والحزبية والسياسية بينهم! ، ألّا أن جميعهم ومع الأسف أغفلوا جانبا مهما وهو كيفية بناء الأنسان مع كل هذا البناء الكبير والعظيم!. أن أهم ركيزة في بناء الأنسان وتقوية أرتباطه بوطنه هو توفير العيش الرغيد له بأعطائه ومنحه حقوقه كاملة وغير منقوصة ، من مسكن وملبس ومأكل ومشرب وتوفير الخدمات والضمانات الصحية والأجتماعية والتعليمية مجانا أو حتى بأجور رمزية وتوفير الأجواء الآمنة والمطمئنة لهم . أن توفر كل هذه الأمور والمتطلبات هي التي تقوي أرتباط الفرد بوطنه وتشعره بالأنتماء الحقيقي والصادق بأرضه ووطنه ، وبعكسه يبقى ارتباط المواطن بوطنه شكليا وظاهريا ويتسم بالضعف وعلى قدر ما مكتوب بوثائقه الرسمية ( الجنسية وشهادة الجنسية أو أية وثيقة اخرى) ! . فلطالما عانى المواطن العراقي في ظل كل الحكومات التي توالت على حكم العراق منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 من الشعور بالغبن والأضطهاد ، بسبب تقصير الحكومات لتلبية أبسط مطالبه وحقوقه الأنسانية المشروعة ، وكم شعرنا وما زلنا نشعر بالغربة ونحن نعيش بوطننا بسبب فقرنا وجوعنا وحاجتنا وخوفنا! ، وكما قيل (الخوف في الوطن غربة والأمان في الغربة وطن ، والفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن ) . صحيح أننا نفرح جميعا عندما يحقق العراق فوزا رياضيا أو يتفوق أحد أبناءه علميا أو فنيا أو أدبيا وفي أي مجال في المحافل الدولية والعالمية وفي المؤتمرات ، فتدمع عيوننا وتهتف حناجرنا عندما يأتي ذكر العراق أو يرفع العلم العراقي بسبب ذلك الفوز والتفوق ، ولكن ذلك لا يعني الأنتماء الحقيقي والصادق للوطنن!! ، فهذه الحالة تحكمها ومن وجهة نظري ، لحظة الشعور الفطري بالأنتماء والولادة والعيش في المكان والأرض التي نطلق عليها الوطن !. أن العقود الأربعة الأخيرة التي مرت على العراق ، وتحديدا السنوات التي تلت سقوط النظام السابق والأحتلال الأمريكي الغاشم للعراق ، هي من أكثر الفترات قسوة على العراقيين ، فقد أشعرتهم تماما بالغربة وهم في وطنهم! ، بسبب ما آلت أليه حياتهم وعيشهم وكل مفردات حياتهم اليومية من سوء وتردي ، وألا بماذا نفسر وجود أكثر من 4 مليون لاجيء عراقي موزعين في أكثر من 35 دولة من دول العالم! . ومن الطبيعي أن ظروف القهر والخوف والجوع والحاجة والأضطهاد ، دفعت الكثيرين الى عالم الجريمة! بكل صورها وأشكالها ، بعد أن أصابهم اليأس من أن الحكومة يمكن أن تعطيهم حقوقهم وأن تضمن لهم العيش بكرامة وأنسانية ، فصار لديهم يقين تام بأن الحقوق تؤخذ بالقوة ولا تعطى! ، فكان الغزو الأمريكي بالنسبة لهؤلاء هو ساعة الصفر وساعة الأنتقام بنفس الوقت! ، وفرصة أخذ حقوقهم المسلوبة بأية طريقة! ، فكان مشهد الفرهود الذي تعرضت له كل دوائر الدولة ومؤوسساتها من نهب وسرقة ودمار وحرق ، والذي لا أجد فيه أية غرابة ! بل جاء كنتاج طبيعي لحالة اليأس والبؤس والجوع والحاجة والكبت والحرمان التي عاشها المواطن العراقي . ومن المناسب أن نذكر هنا أن فرهود عام 2003 الذي رافق الغزو الأمريكي للعراق ، كان الفرهود الثاني! الذي شهده العراق بعد فرهود عام 1948 من القرن الماضي أو ما يسمى بفرهود اليهود! ، ولربما سينتظر العراق فرهود ثالث أكبر وأقسى وأشد أنتقام ، عندما تحين الفرصة لذلك! ، بسبب الظروف العصيبة والمدمرة التي مرت وتمر على العراق والتي عاشها العراقيين على يد الطبقة السياسية التي قادت العراق من بعد الأحتلال الأمريكي الغاشم وحولته الى بلد فاشل! بسبب أستشراء حالة الفساد في كل مفاصل الدولة العراقية بل في مفاصل حياة العراقيين حتى صار العراق يتصدر المراتب الأولى والمتقدمة بين أكثر الدول فسادا وفشلا في العالم!. فمن وجهة نظري أرى ان ما حدث بعد سقوط النظام السابق ، وما يجري الآن من استشراء حالة الفساد في عموم العراق هو نتاج طبيعي لأنعدام ولضعف البناء الأنساني ( الذي أشرنا أليه بداية مقالنا) والوطني للأنسان العراقي ، فكريا وثقافيا وأجتماعيا وحتى دينيا ، على مر كل تلك السنوات التي مرت عليه ، منذ تأسيس الدولة العراقية أن كان ذلك الأنسان مسؤولا في الدولة او مواطنا عاديا ، وما الأزمة السياسية الأخيرة التي يعيشها العراق بعدم نجاح الأحزاب السياسية بتشكيل الحكومة رغم مرور أكثر من 6 أشهر على أجراء الأنتخابات ( ولربما ستطول المدة أكثر!) هو خير دليل على ماذكرناه ، فسياسيينا ليست لديهم ثقافة قبول الخسارة في الأنتخابات وليس لديهم ثقافة قبول الطرف الآخر في العمل السياسي على الرغم من أن الكثير منهم عاشوا أيام معارضتهم للنظام السابق في دول تعتبر رائدة في مجال الديمقراطية وخاصة في السياسة ، ألا أنهم لم يتعلموا ويتأثروا بذلك! ، فجيناتهم العربية الموغلة بالجهل والتفرد لا زالت تسيطر عليهم ! ، وتفرض عليهم حب السلطة والتمسك بها وأقصاء الآخر بأية طريقة كانت بالقتل أو بالتشرد ، (وتبقى آفة حكوماتنا هي حب الرئاسة والسلطة والجاه ) كما قال الفيلسوف أبن خلدون ( آفة العرب الرئاسة!). أخيرا نقول : أذا كان المسؤول في الدولة والذي تقع عليه مسؤولية بناء الوطن والمواطن من خلال موقعه يحتاج الى أعادة بناءه الأنساني والفكري والأخلاقي والتربوي بعد أن جفت في عروقه دماء ونبض الوطنية وشرف الأنتماء الحقيقي للوطن فلا لوم يقع عند ذلك على المواطن البسيط الذي ينظر الى المسؤول بأنه هو القدوة في كل شيء.