23 ديسمبر، 2024 5:55 ص

بمناسة الذكرى/37 للحرب العراقية-الإيرانية ضربة “العراق” الجوية على “إيران”

بمناسة الذكرى/37 للحرب العراقية-الإيرانية ضربة “العراق” الجوية على “إيران”

تمهيد
رغم كوني خلال عام (1980) برتبة “مقدم ركن” في وزارة الدفاع، فإني لم أكن على علم عن إحتمال شن “العراق” هجوماً على “إيران”، فقد كنتُ ضابط ركن لدى مديرية التدريب العسكري التي لا تمتّ بأية علاقة بهذه الأمور التي تختص بها “رئاسة أركان الجيش” ودوائر محددة ترتبط بها، وعلى رأسها “دائرة العمليات” وعدد ضئيل من مديرياتها وليس الجميع، فضلاً عن “مديرية الإستخبارات العامة”.
ولما كنت قد سجّلتُ في يومياتي ساعات الضربة الجوية الأولى على القواعد الجوية الإيرانية حالما علمتُ بها بعد ظهر يوم (الإثنين-22/أيلول-سبتمبر/1980)، فقد وددتُ إطلاع القراء الكرام على وقائعها خدمةً للتأريخ.
وكنتُ أتمنى أن أتمتع بوقت سانح لأعرض هذه المقالة على عدد من أصدقائي الطيارين قبل نشرها، ولكني فضّلتُ الإسراع كي يطلع المتابعون عليها في الذكرى السنوية/37 لإندلاع هذه الحرب… لذلك أتوقّع الكثير من التعليقات والمداخلات ممن هم أدرى مني بحقائق الأحداث وأعرف بكثير حيال ما سأورده بهذه المقالة.

وبدأت الحرب
إنقضت ساعات الدوام النهاريّ وكنا على وشك الخروج من دوائرنا بعد ظهر (الإثنين-22/أيلول/1980) حين هاتَفَني صديق عمري وإبن خالتي “المقدّم الركن سعد عبد الهادي العَسّاف” -ضابط الركن الشخصيّ لمدير الحَرَكات العسكريّة المرتبطة بدائرة العمليات- ليُفاجئني أنّ طائرات القوّة الجويّة هي الآن في أعماق “إيران” تقصف جميع قواعدها الجويّة وبتوقيت مُوَحَّد.
لم أُفاجأ كثيراً بالخبر، فالمواقف المتصاعدة بن الجارتين جعلت مثل هذا الأمر مُتوقَّعاً، فقفزتُ لأكون سَبّاقاً في إخبار مدير شعبتي “العميد طالِب حَمَد العَبدالله” وضباط الركن بالحدث الجَلَل، حتى خرج زميلنا “العقيد أسامة حسن” من غرفته صارخاً بِنَبرة عالِية يعلوها الأسى والإرتباك في المَمَرّ الوَسَطيّ لمبنانا:-
((الحرب يا جماعة… الحرب يا ناس… لا حول ولا قوة إلا بالله… ماذا سنعمل؟؟!! إلى أين سنمضي؟؟!! وما مصير أولادنا؟؟!!)).
وذلك قبل أن ينهره مدير دائرتنا “العميد الركن-الفريق الركن بعدئذ- طارق محمود شكري ببعض العنف غير المألوف في تصرفاته، فيسكته.
توقيت الضربة
كان التوقيت المُحدَّد للضربة الجويّة الأولى بالساعة الثانية من بعد الظُهر مُتَناغِماً مع ذلك الذي حدَّدَتْه القيادتان المصريّة والسوريّة عند إقتحامِهما “حرب تشرين أوّل-أكتوبر/1973″، وذلك تفاؤلاً مع المُباغَتة الهائِلة وغير المَسبوقة في تأريخ الصراع العربي- الإسرائيلي، والتي حقَّقَتْها طائرات الهجوم الأرضي للبلدَين بنجاح مشهود قُبَيْلَ أنْ تُباشِر القوات البرّية المصريّة بعبور “قناة السويس” لِتَسحَق “خطّ الجَنَرال حاييم بارليف” المَنيع الذي أُعْتُبِرَ من أفضل المَوانِع الإصطناعيّة المُحصَّنة في عموم القرن العِشرين، في حين كانت دبّابات الجيش السوريّ ومدرّعاته، وبتوقيت مُنَسَّق، تجتاح بإندفاع هائل “هضبة الجولان” المُحتَلّة منذ “حرب حزيران/1967”.
البيان الأول
في الساعة الثالثة ظهراً قطَعت وسائل الإعلام العراقيّة المرئيّة والمسموعة برامِجَها الإعتياديّة وباشَرَتْ بقراءة البيان الأوّل الصادر من القيادة العامّة للقوّات المُسلّحة -والذي سنَعلَم لاحِقاً أنّ “صدّام حسين” قد سطّر عباراته الحَماسيّة بخطّ يده- مصحوباً بأناشيد وطنيّة وقوميّة تتغنّى بأمجاد العراق وتأريخ العرب وعظام الأجداد من تلك التي لم نستمع إليها من قبلُ، ويبدو أنّها أُعِدَّتْ مُسبَقاً وسُجِّلَت ((سراً)) في ستوديوهات الإذاعة والتلفاز لِتُبَثَّ حصراً بهذه المُناسبة، وقد جَلَبَت الأسماع وسط أبياتِها ورود إسم “صدّام” وتكراره في مُعظمها، وبشكل لم يَعتَد عليه العراقيّون، فمنذ زوال نظام حكم “الفريق الركن عبد الكريم قاسم” عام (1963)، لم يُقحَمْ أيّ من أسماء الرؤساء “عبدالسلام وعبدالرحمن عارف، وأحمد حسن البكر” ولو في أُنشودة واحدة طيلة ما يربو على (17) عاماً إنقضى.
سارَعْنا جميعاً لمُهاتَفَة زوجاتِنا وأولادنا المُرتَجِفين بمُعظمهم خوفاً على أنفسهم وعلينا، باذِلين جهداً لنبث البعض من الطمأنينة في نفوسهم وإرشادهم نحو ما يستوجِب عليهم من إستحضارات الإختِباء في أماكن محدّدة من منازلنا إتّقاء الضربات الجويّة المُقابِلة للطائرات الإيرانيّة، والتي من المُؤكَّد أنّها قادِمة في الساعات القليلة القادمات، موعِزين إليهم برزم حقائِبنا الجاهِزة تحت أيديهم وإرسالها إلى دوائرنا صُحبَةَ سائقي سيّاراتنا العسكريّة، فلا حاجة بنا من بعد الآن إنتظار أمر رسميّ يُشمِلُنا بإنذار أقصى من مستوى ((ج)).
إنتفال “صدام حسين” إلى وزارة الدفاع
وقد علمنا بعدئذ أنّ “المَهيب الركن صدّام حسين” -مُرتَدِياً بدلة قتال عسكريّة للمرة الأولى في حياته- قد تَرَكَ القصر الجمهوريّ بصحبة “الفريق أوّل عدنان خيرالله” ظهر ذلك اليوم إلى “قاعدة الرشيد الجويّة” ليستقبل الطيّارين العائدين من أعماق الأجواء الإيرانيّة بعد أداء مهمّاتهم الأولى، وذلك قبل أنْ ينتقل عصر اليوم ذاته إلى مبنى وزارة الدفاع ليستقرّ بـ((قَبو)) يقع على مَبعَدة بضع عشرات من الأمتار عن مديريّتنا ليتّخذه مقرّاً له، وقد أحاطَ به كبار القادة من أعضاء القيادة العامّة للقوات المسلّحة، حيث حاصَرَ أفراد حمايته الخاصّة المُدَجَّجين بمُختَلَف الأسلحة الشخصية تلك البقعة من الوزارة والذين كان مرافقه الأقدم “المقدّم صباح مرزا محمود” يقودهم بمُعاونة المُلازِمَين “حسين كامل حسن وعَبْد حَميد حمُود” قد فَرَضوا أشبه ما يكون بحظر التقرب بحق كل من لا ينتمي للقيادة العامّة ولأيّ سبب كان ومهما عَلَت رتبته أو منصبه.
ولم تتحقق المباغتة
وبينما عادت الطائرات العراقية بخسائر طفيفة مُستَغرِقةً حوالي ساعتَين في تنفيذ كامل الخطّة الموضوعة للضربَتَين الجويّتَين المتلاحقتين، بعد أنْ أُسقِطَتْ طائرتان فقط من مجموع (200) قاصفة وهجوم أرضي ومُقاتِلة كانت قد شاركَتْ بالقصف، فقد تصوّرنا أن المُباغَتة الجويّة تحقّقت لمحدوديّة عدد المقاتلات المُعتَرِضات الإيرانيّات التي حاولت اللِّحاق بالطائرات العراقية وضآلة الدِفاعات الأرضيّة التي فتحت نيران المُجابهة أزاءها، ولكن أعظم التقديرات خابَتْ في تحطيم القسم الأكبر من القوّة الجويّة الإيرانيّة مثلما دَمَّرَ الطيران الإسرائيليّ العمود الفقريّ للقوات الجويّة المصريّة حَاسِمَاً الحرب لصالح الدولة العبريّة في غُضُون ساعاتها الأولى من صبيحة يوم (5/حزيران/1967)، فقد كان الإيرانيّون في قواعدهم الجويّة القريبة نسبيّاً من الحدود العراقية حَريصِين تماماً على إيواء جميع طائراتهم في ملاجئِها المُحَصَّنة التي حَمَتْها من القصف العراقيّ، لذلك لم تَقَع خسائر مؤثرة في الطائرات الإيرانيّة وهي جاثمة على الأرض ولم يُقْصَمْ ظهرها، وبمعنىً آخر فإنّ التَفَوّق الجويّ العراقيّ لم يتحقّق في سماء البلدَين معاً، وبالمُحَصِّلة الأوّليّة فإنّ الطيران الإيرانيّ سيظلّ فعّالاً وينبغي أنْ يُحسَب له ألف حساب سواءً في أخذ الثأر بضربات مُقابِلة من جهة، وعدم تمتّع قطعات الجيش العراقي بالحرّية اللازمة في تقدّمها ومعاركها البرّية في قادم الأيام، وينطبق الحال نفسه على القوّة البحريّة العراقية.
كيف إحتاط الإيرانيون؟؟
وقد فَسَّرنا أسباب ذلك التَحَوّط الإيرانيّ أثناء مُناقشاتنا الليليّة بعدئذٍ -كأصدقاء- في أكثر من منحىً:-
أوّلها:- أنّ المُخابرات الإيرانية وكذلك إستخبارات قيادتهم الجويّة قد وَصَلَتهُما الأخبار مُسبَقاً فأُحِيطَتْا عِلْماً بالخطّة العراقيّة وموعد تنفيذها، وليس ذلك بالمُستَغرَب مُطلَقاً ما دامت لهم عيون داخل العراق وقوّاته المُسلّحة، بما فيها القوّة الجويّة.
وثانيها:- أنّ مُنتَسبي القوّة الجويّة الإيرانيّة المُدَرَّبون منذ عهد “الشاه” المُتحالِف مع الغرب والمُتاخِم بدولته التي كانت أهمّ البلدان الأعضاء بحلف “سِـنْتو”، قد دَأَبوا حِرصاً على تطبيق هذا النهج في قواعدهم بحيث يُؤوُون طائراتهم في ملاجئها في جميع الحالات، وخصوصاً عند إنقضاء ساعات الدوام الرسميّ بعد الظهر.
فإستنتَجنا أنّ واضعي خطّة العمليّات الجويّة العراقية، والذين حدّدوا الساعة الثالثة من بعد الظهر-حسب توقيت “إيران”- موعداً لبدء الضربة، لم يكونوا مُوفَّقين أبداً، وأنّ الذي وافق على ذلك قد أخَذَتْهُ العاطِفة فَتَيَمَّن بـ”حرب تشرين-أكتوبر/1973″ من دون أنْ يضع نُصب عينيه وعقله نقاط الضعف والقوّة وعوامِل موضوعيّة أخرى فيُقَدِّر الموقف على أساسها قبل أنْ يتّخذ قراراً نِهائيّاً حيال جميع الأمور وبضمنها التوقيتات، لأنّ ((الحرب)) مصير شعب ووطن للّذي يعرف معناها، وليست ألعوبة متخاصمين أو عِراك أشخاص.
الدفاع عن مبنى الوزارة
في تلك الساعات المُحرِجة جَلَبَ أنظارنا عدد من الجنود الحامِلين على أكتافهم سلاحاً يُسمّى ((سِتْريلاّ/سام-7)) وقد قرأتُ عنه بالمجلاّت والدوريّات من دون أنْ أراه عن قرب حتى تلك اللحظة، وهو مُصمَّم ليُطلَقَ منه مقذوفات مُسَيَّرَة برأس راداريّ نحو طائرات تحلّق ولو بأخفض الإرتفاعات وبسرعات عالية، ويصل مداها الأفقيّ إلى (4.5) كيلومتراً، وقد إتّخذوا مواقع مُحَدّدة على السطوح العُليا لمباني الوزارة، فيما كان آخرون يرصدون أجواء “بغداد” بنواظير مُكَبِّرة وبإشراف ضابطَين مُختَصَّين، في حين كنّا منتظرين سماع أخبار إنطلاق التشكيلات البرّية نحو العُمق الإيرانيّ، متوقعين في كلّ لحظة سماع هدير الطائرات الإيرانيّة وهي تقتحم أجواء عاصمتنا، حيث لا بدّ من أنْ نحسب بأنّ مبنى وزارتنا سيكون من أولى أسبقيّات الأهداف المُدرَجة في قوائم القصف الجويّ المُضادّ لأسراب الطيران الإيرانيّ.
وأتى الرد الإيراني
ولكن، لا طائرة إيرانيّة إخترقت سماء “بغداد” طيلة ما تبقّى من نهار يوم (22/أيلول) وليله، ولا قوّة بريّة تقدّمَتْ نحو “إيران” رغم إنقضاء (16) ساعة على غارات “العراق” الجويّة.
وفيما كانت الإستحضارات على أشدّها وسط القواعد والدفاعات الجويّة والبحريّة والأهداف الإستراتيجيّة والمُنشآت النفطيّة في عموم البلاد، فقد كنّا نتهيّأ في تلك الليلة لنستقبل الفجر، والذي ما أنْ سطَعَتْ شمسه يوم (الثلاثاء-23/أيلول) بحدود الساعة السادسة حتى بدأ ((نعيق)) صفّارات الإنذار المُزعِجة التي تحذّر العراقيين من الغارات الجويّة، وسوف لن تتوقّف حتى المساء، إذْ إستهدَفَتْ أولى الضربات “قاعدة الرشيد الجويّة” بالساعة السادسة والنصف بـ(4) طائرات أُسقِطَتْ إحداها بفعل المُقاوِمات الأرضيّة، وجاءت أُخرى على المدينة السكنيّة لعوائل الضباط في “حيّ المُثنّى/ زَيّونَة”، فهاتفتُ زوجتي المرتعدة من هَول إنفجارات القنابل القريبة من منزلنا مصحوبة بإنفلاقات مقذوفات مقاومة الطائرات الأرضية المُنتَشِرة في كلّ أحياء بغداد من دون إستثناء، حيث لم يكن العراقيّون قد عاشوا حرباً بهذه الشاكلة طيلة أعمارهم، وذلك قبل أنْ يشنّ الطيران الإيراني غاراته المتلاحقة حتى المساء من دون إنقطاع يُذكَر.
الإتقاء في مبنى الوزارة
وفي مبنى وزارة الدفاع، وبينما هَرَعَ جميع “الخُبَراء السوفييت” -الذين تستضيفهم الوزارة- إلى الخنادق التي حُفِرَتْ لإتّقاء الضربات الجويّة، فقد كنّا -نحن ضبّاط الوزارة جميعاً- واقِفين بقاماتِنا الفارعة وسط الشوارع وعلى الأرصفة، نَتَرَقَّب الطائرات الإيرانيّة وهي تتسلّق عالياً نحو السماء بعد تفريغ حمولاتها من القنابر والصواريخ على مواقع متفرقة ومتعددة لم نكن مُقتدِرين على تشخيص أماكنها، وذلك قبل أنْ تَتَلَقّف قذائف الدفاعات الأرضيّة عدداً منها لنَراها وقد تحوَّلَتْ نِثاراً في أجواء “بغداد”، حتى صرخ بنا خبير سوفييتيّ برتبة ((مُقدّم طيّار))، وقد فَقَدَ بعض أعصابه:-
((يا رِفاق، هل أنتم مَجانين؟؟؟… عليكم أنْ تعلَموا بأنّ قنبرة واحدة زِنَة “ربع طن” فقط، لو سَقَطَتْ وسط مبانيكم العتيقة هذه وغير المُحَصَّنَة بالمَرّة، فإنّكم ستُدفَنُون بين أنقاضها، ولن يُعثَرَ على شُتات أجسادكم!!!)).
ولكن، وعلى الرغم من ذلك التحذير المَنطقيّ، فإنّ عدداً يسيراً من الضباط فحسب إرتضى على نفسه أنْ يلتجئ إلى إحدى الحُفر، وبالأخصّ بعد أنْ باتوا يُشاهدون “صدّام حسين وعدنان خيرالله” و”الفريق شنشل ومعاونيه ومعظم كبار قادة الجيش والقوات المسلّحة، وهم واقفون في شُرفة ديوان الوزارة ينظرون إلى السماء، وعلى وجوههم إبتسامة عريضة عصر ذلك اليوم، مُكرِّرين ذلك باليوم التالي في ظلّ أحلك الساعات الساخنة لأعنف الغارات الجويّة الإيرانيّة!!!.
الطيران الإيراني وفخّ الدفاع الجوي
كنتُ أكثر تَهَوّراً من زملائي، وتوّاقاً عسى أن أشاهد بأمّ عيني ولو إشتباكاً جويّاً واحِداً -كنتُ أنتظره بفارغ الصبر- قد يقع بين المُقاتِلات العراقيات المُعتَرِضات من طرازَي (ميك-21) و(ميك-23) -سوفييتيّة المَنشأ- مع تلك الإيرانيّات من الطُرُزَ (فانتوم F-4، تايْـكَر F-5، توم كات F-14) -وكلّها أمريكيّة المنشأ- لذلك إعتليتُ السطح لأقف على مقربة من جنود قاذِفات الصواريخ “ستريلاّ” مترقّباً عن كَثَب تلك المَناظر بشكل أفضل مِمَّن ظلّوا في الأسفل.
ولكن، لا طائرة عراقيّة إشتَبكت مع الإيرانيات، فقد وقَعَتْ القوّة الجويّة الإيرانيّة في ((الفَخّ)) الذي هُيِّءَ لها، وسنعلم بعدئذٍ أنّ الخُطّة العراقيّة قَضَتْ أنْ تُجابَه الطائرات الإيرانيّة بالدفاعات الأرضيّة -التي كانت مُعَدَّةً من حيث الأساس لمواجهة “إسرائيل”- وغَدَتْ فاعِلةً، بل وفَتّاكةً بإمتلاكها منظومات مُقتَدِرة تشتَمِل على المقذوفات المُسَيَّرة “فولْكا/سام-2، بِيجُورا/سام-3، كَفادْرات/سام-6، سِتْريلاّ/سام-7 “، فضلاً عن المئات من مدافع مقاومة الطائرات (57ملم) المُوجَّهَة بالرادار في كلّ موقع ذي أهمّية بكلّ قاطع دفاع جوّيّ يُغطّي بالمجموع جميع أنحاء الوطن، وبكثافة هائلة العاصمة “بغداد” وضواحيها المُكتَظّة بمواقع ذات أهمّية إستراتيجيّة بالغة.
ولكن، وعلى الرغم من ذلك فقد ظهر العديد من الثغرات والسلبيّات التي لم يُنتبه إليها إلاّ أثناء التطبيقات الميدانيّة والعمليّات القتاليّة، حيث تَسابَقَ الطيران الإيرانيّ لإستغلالها والنَفاذ منها إلى الأجواء العراقيّة ونحو مواقع مستهدفة، فيما عملت الدفاعات العراقيّة جاهدةً بُغية إحكامها وتلافيها مع إنقضاء الأيام بتحريك عدد من الوحدات إلى مواضع جديدة لم تكن مُهيّأةً مُسبَقاً، ولذلك فقد كانت الخسائر في الطائرات الإيرانيّة وطيّاريها -الذين أثبتوا بحقّ شجاعة نادرة في الأيام وخلال الأسابيع الأولى من الحرب- هائلةً بشكل راوَدَنا-نحن ضباط الوزارة- الشكّ في مصداقيّتها عند قراءتنا للحقائق المُسطَّرة في تقارير العمليّات اليوميّة المُجْمِلة للأحداث الجارية، تُقابِلها خسائر طفيفة لدى الطيران العراقيّ الذي خطَّطَ لِيَشُنَّ معظم غاراته اللاحقة بالعمق الإيرانيّ في وقت إقتحام الطيران الإيراني لأجواء العراق بحيث دَوَّخَ قادتهم في تدبير أمورهم.
فعاليات حزب الدعوة
لكن مُعضِلات عديدة فَرضَت أوزارها في عُقْرِ عدد من القواعد الجوّية العراقيّة، فقد إستطاع عناصر من ((حزب الدعوة)) الإقدام على العديد من العمليّات الظاهرة، ففي حين فجَّروا (7) هليكوبترات في صبيحة اليوم الثاني من الحرب كانت جاثمة على أرض “قاعدة الرشيد الجويّة -أهمّ القواعد القريبة من “بغداد”- وإغتالوا أو حاولوا قتل البعض من الطيّارين، فقد أقدموا على سواها من العمليّات غير المنظورة، والتي تَمَثَّلَتْ في وضع مادّتَيّ ((السُكّر البَلّوريّ أو الرمل الناعم)) في خزانات الطائرات، واللذان يتسبَّبان-بعد دقائق من التشغيل وربّما الإقلاع- في غلق منافذ الوقود المُتَدَفِّق من ((البَخّاخات NOZZLES)) إلى غرفة الإحتراق ليتوقَّف المُحَرِّك عن العمل مُؤدِّياً إلى سقوط الطائرة… وفضلاً عن إحداث عطل محدّد في آليّة ((الكُرسيّ القاذِف)) الذي يمكن أنْ يُنْقِذ الطيّار عند إضطراره ترك طائرته إذا ما تعرَّضَت لخلل فنّي أو إصابة خطيرة. الطيارون الإيرانيون وأساليبهم الرتيبة
وكانت هناك ثمَّة نقاط بَرَزَت في عمليّات القصف الإيرانيّ، فبينما كان طيّارو “العراق” قد تَدرَّبوا جيّداً منذ ما يُقارب (10) سنوات متتاليات على الطيران الواطئ للغاية ذهاباً وإياباً (50-60 متراً فقط فوق سطح الأرض) وأتقَنوه، لِيَتَلافُوا كشف الرادارات المُعادية لهم قبل وصولهم إلى أهدافهم، وأنْ يَفلُتوا بسرعات عالية من الدفاعات الجويّة رجوعاً إلى قواعدهم، فقد كان الطيّارون الإيرانيّون يتَّبِعون أُسلوباً أشبه بما كان عليه إبّان الحرب العالميّة الثانية (1939-1945) أو حرب كوريا (1950-1953)، فقد كانوا يُحلِّقون في أجواء بلادهم ويخترقون الحدود العراقيّة بإرتفاعات عالية، فتكشفهم الرادارات بسهولة وتتوضّح لها وُجْهاتُهم بِيُسر، ولا يُخفِّضون إرتفاعاتهم إلاّ قُبَيْلَ غنقضاضهم على مواقع حُدِّدَتْ لهم وإطلاق ذخائرهم نحوها، ثمّ لا يلبثون حتى يرتفعون عالياً مرّة أُخرى ويُجْرُون مُناورات إستعراضيّة شبيهةً بالألعاب الجويّة الأيروباتيكيّة حيث يكونون أهدافاً سهلة للقذائف الأرضية، في حين كانت المُقاتِلات العراقية تقطع عليهم الطريق وتعترضهم لدى عودتهم لِيُصِيبُوهُم بمقذوفات (جَو-جَو) من طراز “ماترا ماجيك” -فرنسيّة المنشأ ذات مدى (33) كيلومتراً- ومن دون أنْ يستطيعوا الإفلات منها.
عدم إنفلاق قذائف إيرانية
أحداث إستغربناها كثيراً ليس في مطلع الحرب بل بعد أسابيع عديدة من بدئها، حيث أنّ العديد من القنابر والصواريخ الإيرانيّة لم تكن تنفلق بعد سقوطها على أهدافها، حتى تصوّر البعض أنّ أذرع المُخابرات العراقيّة ربّما إخترقت الطيران الإيرانيّ في أحد أهمّ مفاصله، بحيث لا يسحب البعض من ((المجنّدين)) القائمين على تسليح الطائرات مسامير أمان الأعتدة التي يعلّقونها تحت الأجنحة والأبدان.
ولكن سيتَبَيَّن بعدئذٍ -وإستناداً إلى نتائج تحقيقات رسميّة أجراها المختصون الإيرانيّون- أنّ المسؤولين عن مستودعات أعتدة الطائرات ومخازنها قد أهمَلوا نقطة ينبغي أنْ تُحاط بجدير الإهتمام، ففي حين يُفتَرَض أنْ تُخْزَن الأعتدة الجديدة التي تسلّم إلى المستودعات -المُستَورَدة منها أو المُصَنَّعة- في الأسفل ليحلّ القديم محلّها في الأعلى كي يُزَجَّ بالإستخدام قبلها، فإنّ أولئك كانوا يُكَدِّسونها على العكس تماماً وربّما منذ عهد الشاه، فلمّا إندلعت الحرب بَغتَةً لم يأتِ ببال أحدهم أنّ الأعتدة المُكَدَّسة تُصرَف بتلك الكميّات الضخمة بمعدّلات يوميّة من الصُفوف العُليا حتى لمّا أتى الدَور على سُفلاها إنبثقت هذه المُعضِلة، إذْ كان هناك أعتدة فَسدَتْ مُتفجّراتها بمضيّ زمن غير يسير على خزنِها بحيث لا تنفلق بالضرورة عند إلقائها… ولكن المشكلة لم تَدُمْ طويلاً حتى تمكّن الطيران الإيرانيّ من مُلافاتها.