23 ديسمبر، 2024 11:50 ص

بمناسبة يوم الشهيد فيصل الحجّاج: مثال الأخلاق الإنسانية..

بمناسبة يوم الشهيد فيصل الحجّاج: مثال الأخلاق الإنسانية..

ناصح  الصفار صديق قديم من زمان  البصرة  قبل نصف قرن. فاجأني بمكالمة تلفونية  في خريف 2015  أعقبها بساعة واحدة  ،متفضلاً، بخطوة زيارتي في بيتي بمدينة لاهاي، أثناء جولته لبعض البلدان الاوربية لأغراض تجارية.   أحاديث كثيرة جرت بيننا حول البصرة ومآلها المؤسف في الوقت الحاضر. تحدثنا ،بألفةٍ بعد رفع الكلفة، عن كثير من أمور السياسة والنضال ،عن كل ما هو حقيقي وزائف في موجات سياسيين جدد يديرون محافظة البصرة بالوقت الراهن ، حاملين كمّاشة كبيرة تنهب ثروات وأموال وخيرات مدينة مدمنة على السلم والحب و العطاء.  تنوّعت حكاياتنا وذكرياتنا بما يتعلق والزمن العراقي الحالي المليء بالقلق والصعوبات وبالوجوه الادارية والسياسية المخيفة ،  يشكلون اخطبوطاً ذا عينين من نار .  كما تذكرنا بهدوءٍ وفرحٍ أماكن ودروب وعناصر  مدينة مترامية الاطراف، متوّجة بعبق فوّاح بتاريخها الممتد كأنهارها الكثيرة، المتفرعة من شط العرب، كنخيلها الملتف بالوحدة على ضفافها من (كّردلان) حتى (كوت الحجاج) . واصلنا خلال بضع ساعات تذكار اسماء خالدة: مكسيم غوركي وديستيفسكي ويوسف سلمان  وسلام عادل وشاكر محمود. كما أقبلت أمامنا  تذكارات اضرابات عمال الميناء  وعمال شركة نفط البصرة وطلبتها ،ثم احسستُ أن شيئاً ما راحَ يتحول في دمائنا إلى الحديث عن  فيصل الحجاج.

توقفنا كثيراً عند الحديث عن فيصل الحجاج فهو  قريبه العائلي العزيز على ذكرياته ، وهو من ناحيتي صديق عزيز ورفيق في صف مشترك من صفوف مدرسة الحزب الشيوعي.  أخبرني ناصح الصفار، في هذا اللقاء،  أنه لا يريد التدخل في شئون كتاباتي وأهدافها لكنه يتمنى عليّ أن امتلك فرصة الكتابة عن فيصل الحجاج ، الذي أُرتديَ عليه الحداد في البصرة وبغداد والقاهرة مرة واحدة  عام 1963 من دون أن ينال سرداً واقعياً عن حياته وذكرياته وبعض صفحات نضاله.. أصبح اللقاء محفزاً لي لكتابة هذا المقال التذكاري عن مناضل شهيد من المناضلين الطلابيين المتميزين بسيرة ذاتية خاصة. كان فيصل الحجاج صاحب مشروعات انسانية اكتشفتها منذ اللقاء الأول معه نهاية  عام 1954 أو بداية عام 1955  ، لكن مشاريعه لم تبلغ غايتها ،مع الأسف.

ذات يوم، اخبرني فيصل ذو الوجه المشع، الذي ما غاب عنه نور ولا ابتسام،  وبعينين شجاعتين ، أنه  بحلم بحلمين ، الأول فضّي بزواجه من فتاة يحبها . الثاني حلم ذهبي  بأمل  أن يكون طبيباً شيوعياً  لخدمة الخير العام في مدينة البصرة وخدمة الخير الخاص لقرية بائسة من قرى البصرة اسمها (كوت الحجاج) يرافق واقعها اليومي ،صيفاً وشتاءً، داء مميت اسمه الملاريا. كان  يحلم ان يكافح هذا الداء المتوحش بقدرة علمية يبنيها في مستشفى خاص يكرّم بها اهالي البصرة كلهم.  يتمنى بناء المستشفى في قرية كوت الحجاج، التي جاء منها نسبه ولقبه ومكان مولده وهي لا تبعد عن مدينة العشار سوى كيلومترين ،ولا تبعد عن مدينة البصرة القديمة غير كيلومترين ، لكن أفكار الحرية والديمقراطية  تحيط بها من كل مكان . هواؤها عليل ونخلها طويل ووجه كل فتاة فيها جميل وأناسها طيبون، ليس بينهم من يمارس الغش أو الغدر،  بل كان شبابهم مثل فيصل الحجاج وأخيه الأكبر المحامي نصيف الحجاج يناضلون من أجل الحرية والديمقراطية ونسائهم مثل مهجة الحجاج وايمان الحجاج توّاقات إلى حق المرأة العراقية في التحوّل من فاعلية البيت الضيق إلى فاعلية المجتمع المتطور.

 مشروع  فيصل بدأ معه منذ دراسته في المدرسة المتوسطة . كان يقول كلامه بشجاعة وأمل وتفاؤل  وبنزعة مؤكدة تشير إلى قدرته الانسانية الوثابة.  ربما كان واعياً في عمره ذاك لشناعة مرض الملاريا  و امراض اخرى كانت منتشرة بالبصرة كالتيفوئيد والسل الذي اصيب به  احد ابناء عمومته داخل سجن بعقوبة حين كان يقضي محكوميته بتهمة الشيوعية . ظلّت  الآمال محفوظة في قلب فيصل الحجاج ،سنة بعد سنة، مختلطة في ذهنه المنفتح على المبادئ الإنسانية  والافكار التقدمية ،  يواصل دراسته في المدرسة المتوسطة والثانوية والجامعية ، متابعاً حياته المزدوجة ، العائلية على احسن وجه والحزبية على افضل ما فيها من نضال.

ما يثير الغرابة في قصتي مع فيصل  أنني تعرفت إلى والده  جاسم الحجاج قبل أن اتعرّف على ابنه الاصغر فيصل وقبل ان اتعرف على أبنه الاكبر المحامي الشيوعي نصيف الحجاج . كنت اعمل محاسباً ومدققاً للحسابات في عدد من المتاجر في (سوق التجار) بمنطقة العشار ومكاتبها.. املك خبرة حسابية واسعة موثوقة  . كنت  جاهزاً للعمل في المكاتب والمتاجر والمعامل  وخبرتي مطلوبة من قبل العديد من التجار.  كل تاجر ، سمع بي ،  يسعى لتوظيفي في متجره ، لكن من طبعي وتجربتي في بداية الخمسينات ولانغماري في العمل الحزبي السري  جعلتني اعمل في التدقيق الحسابي بالمتاجر  لساعة او ساعتين اسبوعيا،  بقصد توفير الوقت اللازم لعملي ونشاطي الحزبي اليومي.

 استدعاني جاسم الحجاج إلى مكتبه المقابل لمقهى التجار في العشار، حيث كنت اجلس فيها أثناء فترات استراحتي من العمل لدى خان  تجاري كبير  يبعد مترين او ثلاثة من مكتبه التجاري. امتدحني بعبارات أبوية قائلاً أنه يسمع كلاماً طيباً عني من (الحاج رضا حسين)  صاحب الخان وشريكه حيث اعمل ماسكاً لحساباتهما إذ كان الخان من أهم مستوردي وباعة القطن الهندي. كذلك يسمع كلاماً أدق وأفضل من موظفي مكتب الحاج عبد الله الذكير حيث أعمل مدققاً لحساباته . كان  جاسم الحجاج  ناشطاً في تلك الفترة بالتوسط في بيع وشراء الشاي والسكر، بل هو أنشط من كل المكاتب التجارية الاخرى حيث تمر الصفقات الكبيرة في البصرة من بين يديه.  شكا لي، صباح ذات يوم،  أن حساباته مرتبكة ومشوشة جداً اضاعت له الكثير من المال بسبب ضعف كفاءة (كاتب الحسابات)  المسئول عن سجلاته التجارية. طلب مني تدقيقها   بشرط انجازه خلال شهر واحد مقابل مبلغ قدره (25 ) ديناراً. عرفت من اللقاء الأول انه عصبي المزاج يتحدث بنوعٍ كبير من النرفزة حتى انني سمعته يؤنب فرّاش مكتبه تأنيباً عصبياً متوتراً لأنه وجد (ذبانة) داخل استكان الشاي امامه..!.

كنت أشاهد ، أحياناً، من بعيد ، ابنه الهادئ  الأنيق  نصيف الحجاج يتردد على المكتب لبعض الوقت . كما كنت اسمع من بعض التجار كلاماً مستحضراً عن عمد لأسماعي أن الابن نصيف الحجاج محب للشيوعية والاب جاسم الحجاج كاره  لها. لم اكن قد تعرفت الى الابن إلاّ بعد حين حيث وجدته سامقاً ، وسيماً، متألقاً  في الحديث عن هواء الشيوعية حقاً وهو في بداية تنسمه له .رغم أننا لم نكن، في ذلك الوقت،  نعرف عن الشيوعية شيئا غير النضال اليومي دفاعاً عن فقراء الناس والمظلومين في المجتمع. كان فيصل الحجاج يجيء بكل حديث من أحاديثه بصور من الشعر العربي الثوري،  القديم او الحديث . كان شبابه مثالياً واقعياً. يحاول ،دائماً، ان يكسب رضا اصدقائه ومعارفه .ملتزم بمواعيده ويحترم مشاعر الآخرين.

وجدته مرهف الحس ،رقيق الشعور. يستوحي روح السخرية والنكتة بأعداء الوطن والحرية من قدرته الطيبة على إضحاك الآخرين ومكافحة العبوس والكآبة لدى اصحابه وأصدقائه. أظن ان جميع النكات، التي كانت موضع اسماع شباب البصرة ،آنذاك، عن أحد ابشع واقسى عملاء مديرية الامن بالبصرة رئيس العرفاء  المدعو (ملا يعقوب) هي من تأليف فيصل الحجاج.

من المصادفات الغريبة أن اليوم الذي انهيت فيه تدقيق حسابات سجل التاجر جاسم الحجاج تعرفتُ إلى أبنه فيصل. اتممت تسليم السجل خلال يومين بدلاً من شهر. كان في غاية الاستغراب وهو يمسك بتقريري الحسابي الدقيق. اعطاني الرجل مبلغ 30 ديناراً بدلاً من المتفق عليه 25 ديناراً لأنني اكتشفت اخطاء حسابية لصالحه بحدود 290 ديناراً كانت بذمة تجار آخرين ولأنني وفرت له 28 يوماً من الوقت ..! . أصر على  أن يعطيني راتباً مغرياً أذا عملت معه في مكتبه بصورة دائمة .  لم يكن الرجل الطيب يعلم بأنني على  موعد حزبي مع مسئولي التنظيمي (رجاء عبد الرزاق) حال خروجي من مكتبه في تلك اللحظة.

ذهبتُ مع رجاء إلى منطقة (المشراق) حيث اجتماع خلية حزبية جديدة ضمت عناصر نشيطة منهم شاكر محمود البصري وهشام البعّاج وفيصل الحجاج ونزار رفيق وطه ياسين . كان الاجتماع في بيت الكادح،  ياسين ابو طه . غرفة واحدة من لِبن واخرى صريفة ، لا مطبخ ولا حمّام أصولي. خفق قلبي بفرحٍ شديدٍ حين علمتُ ان أحد أعضاء الخلية ( فيصل الحجاج) هو أبن (جاسم الحجاج) ونحن في اجتماع تحت ضوء القمر و تحت وابل هجوم من البق علق بأنيابه على وجوهنا. أمامنا نص من جدول عمل الخلية، التي صرت منظمها بإعلان من مسئول اللجنة الطلابية الحزبية (رجاء عبد الرزاق) .

عمّر الاجتماع اكثر من ساعتين.   غادرنا المكان تحت العتمة  متجهين – أنا وفيصل وهشام – لاستكمال سهرتنا في بيت البعّاج بمنطقة السيف القريب من بيت الحجاج. كانت سهرة جميلة لم تغمط فيها أم هشام أي حق من حقوقنا في الشرب والأكل والمزّات. كانت كريمة ،كعادتها، ساحرة بكلمات الترحيب المرتجل بفيصل الحجاج (ابن أم نصيف) المخلوقة المحبوبة من جميع معارفها و قد رسمت بكلماتها المختصرة المتكررة صورة جميلة عنها. 

أول شيء تعلمته، في أوائل فتوتي،  من ثقافة الحزب الشيوعي العراقي ومن شخصيات ، قيادية وغير قيادية،  التقيت بهم أو عملت معهم هو الانسجام التام مع امهات الرفاق والتعبير لهن عن الاحترام التام، كي استطيع استلام رسائلهن  وكلماتهن الشفيفة، المعبرة عن خوفهن العميق على ابنائهن من الشرطة السرية المتوحشة وجوههم بالقتامة التامة. كان خوف امهاتنا كأسنان ضارية في وقت الاجتماعات الحزبية وفي وقت السهرات الترفيهية .

من المسرة النضالية ،من خوف الأمهات، تعلمتُ التقاط مئات الملاحظات اليومية جعلتني صحفياً نبيهاً واملكتني رصيداً ضخماً من الخبرة الانسانية .طيلة فترة وجودي في الحزب الشيوعي كنت أحرص على ان اكون (شيوعياً جيداً) في عيون الآخرين طبقا لما تعلمته من رفاقي القادة ومن القاعديين ،أيضاً.  تعلمتُ من مجموعة  الشيوعيين، الذين عملتُ معهم او تحت قيادتهم  أن التثقيف الذاتي هو طريق مأمون لمن يحب التعليم والثقافة والأدب ، هو وحده  قد يصل بي الى نتائج احلم بها . علّمني سلام عادل خلال فترة قصيرة من علاقتي به أن انصرف إلى واقع الحياة اليومية كي أتعرّف على ما تزخر به من حالات الفقر والبؤس والجوع والبطالة..  تعلمتُ من  العامل المفصول ناصر عبود  الذي اصبح قيادياً في الحزب الشيوعي أن اقتل الرومانسية في داخلي وأن ابني على انقاضها النظرة الواقعية الاشتراكية في القصة والمسرحية. كما تعلمتُ من الرياضي عبد الله رشيد أن اتحلّى بروح رياضية في تقبل النقد وملاحظات الاصدقاء.. تعلمتُ من انور طه البصري أن اكون صحبة الضحك والابتسامة دائماً.. تعلمتُ من سامي أحمد العامري أن القلق عدو لا يرحم المناضلين.  تعلمتُ من حمزة سلمان أن انظر إلى الإنسان العراقي بوجه متألق مشرق  بالثقة .. تعلمتُ من باقر إبراهيم أن لا شيء مستحيل امام الشباب في التقدم إلى أمام . تعلمتُ من صالح دكلة الحديث بصوتٍ هادئ عن قضايا مهما كانت تضج في الشوارع والمدارس والمعامل والمقاهي. تعلمتُ من فيصل الحجاج مثالية الاخلاقية الشيوعية: الصدق ،الذوق ،النهوض الدائم ،الصبر وعدم التأجيل، الفعل المتواصل، الامانة، الغفران لمن يخطأ في العمل، البحث عن اسباب الحياة .   كما تعلمتُ من الجميع كيف يمكن أن يكون موقف المرء حاسماً  وكيف  أن عضو الحزب النشيط  لا يكون انعزالياً .أن يتأمل جميع ما حوله، ليس فقط من أشياء وأماكن وكتب ومناظر طبيعية، بل جميع ما حوله من كائنات . كنت محظوظاً بتعلم هذه الدروس على شكل كلمات جميلة اعتدت أن أكون مجاملاً بها فكسبتُ الكثير من الأصدقاء، كما خلصتني من مواقف مواجهة العلاقة مع الناس المتصلبين بمواقفهم أو متشددين بنظراتهم أو من الذين لا يتوقفون عن الضحك والمرح. من هنا، من هذه الصفات، نجحتُ في كسب صداقة فيصل الحجاج منذ اليوم الأول لتعارفنا ،حتى صرنا صديقين طيعين، أحدنا إلى الآخر في ما نقرأ من كتب ومقالات بصورة مشتركة أو متعاقبة أو نناقش  ،معاً، أموراً سياسية واجتماعية وغيرها . لم اشعر اننا قضينا ساعات حزينة أبداً، فقد كان فيصل الحجاج مرحاً محباً للنكتة قولاً وسماعاً.  كما وجد نفسه حراً تماماً في احاديثه المتميزة بالصراحة التامة حتى عن أدق  قضاياه الشخصية .. لم يستبعد في  أحاديثه معي حتى عن حبه،  عن فتاة يحبها حباً شديداً لكنها لا تبادله الحب. ربما أرادني أن أكون شاهداً على معاناته الشخصية غير المؤثرة على نشاطه الحزبي وغير المثيرة لأي حزن لديه، مما جعلني  راعياً لطمأنينة قلبه بأنه سيحوز فتاة أجمل في مستقبل مديد يتحمس فيه أن يظل شيوعياً لا خطر عليه من حب فتاة تضغط عليه شرطاً لمحبتها أن يترك الشيوعية، التي يحمل والد الفتاة ( الحبيبة) كرهاً شديداً للأفكار الشيوعية والديمقراطية والتقدمية رغم أنه محام لامع في البصرة .  

نقطة البدء في الحديث عن معرفتي الأولى بالشاب الشيوعي فيصل الحجاج كانت عن طريق (السماع) فقد  كان من مجموعة شباب او جماعة من القراء النشيطين لكتّاب عالميين وعرب مؤثرين يترددون على (المكتبة الأهلية) لصاحبها فيصل حمود في البصرة و(مكتبة صبري) في العشار للاطلاع على الجديد فيهما. ثم يمارسون الحرية الفكرية في جلسات بمقهى (السيف) في البصرة وفي مقهى (شط العرب) بكورنيش العشار، وهم يمثلون اجناساً أدبية متنوعة. كان كل واحد منهم يبحث عن صلته  بأديب عربي أو اجنبي.  كان منهم عدنان المبارك الذي  اكتشف في افكاره اشعاعاً من محمود امين العالم ومن أدب الحداثة في غرب العالم وشرقه.  هشام باقر البعّاج اكتشف إعجابه بمنهج الاقتصاد الماركسي.  فيصل الحجاج كان مغرماً بقصائد الشاعر المصري أحمد شوقي. اكتشفتُ لاحقاً أنه يحفظ عن ظهر قلب مسرحية (قيس وليلى) وكان يردد دائما بيتاً من الشعر ينتصر فيه للحرية حين يردد: (وللحرية الحمراء بابٌ  بكلِ يدٍ مضرجةٍ يدقُّ)  . هكذا كان جميع رواد المقهى يتناقشون ،كل يوم، بعد انتهاء الدوام في مدارسهم .  كان بعض الجالسين الاخرين من هذه الجماعة لا شأن له بشيء من الخصائص والشؤون الادبية منهم نزار رفيق ،  يسخر من نفسه باعتباره  من (جماعة كليلة ودمنة) ومنهم عصام البعّاج ،الذي كان يعتقد أن قيمة الحياة لا تتجسد إلاّ في ملذاتها وفي وظيفة مدير بالدولة. كان حلمه الكبير أن يصير مدير بلدية البصرة. أما  فيصل السعد يعدّ نفسه ليكون ثمرة ناضجة في الشعر الحديث. خالد الخشان كان يتحاشى أن يعلن أنه يريد أن يكون شاعراً شيوعياً يشار إليه بالبنان كما يشار إلى ناظم حكمت. جلسات ولقاءات كثيرة غير منهجية في مقاهي البصرة والعشار  لكن ليس فيها لا مماحكات سياسية ولا ادبية ولا لفظية . كان أغلب رواد (مقهى السيف) وهي مقهى من الحجم الكبير تضم كراسيها عدداً كبيراً من الرواد، سواء من مجموعة الأدباء أو الناس العاديين من محبي شرب شاي المقاهي أو شم روائح دخان النارجيلة فيها. كانوا جميعاً ينظرون بعيني طفل، إلى نشاطات الفتى اليافع (هادي الصكًر) الذي اعتاد على هدهدة بعض رسوماته على أرضية الشارع العريض المقابل للمقهى. يستخدم الطباشير والفحم للرسم بالأبيض والأسود على قير الشارع النظيف ، حتى صارت حكايته مألوفة عن نوع هذا الرسم ..! كانوا يعرفون أن الرسام – أي رسام –  يرسم تخطيطاته، عادة،  بالقلم الأسود على الورق أو بالألوان الزيتية أو المائية على القماش، كما أن هناك فنانين يتركون اثار فنهم بجداريات . قفز بحماسة  أحدهم ذات يوم  قائلاً فيه:  إن هادي الصكَر  يبتدع فناً جديداً نستطيع أن نطلق عليه   (فن الارضيات)  . من تلك الأرضية  تدرّب هادي الصكَر ثم واصل جهده الفني في سجن نقرة السلمان  ليحتل بعد حين مكانة سامية جليلة في الرسم العراقي.

منطقة المقهى، في محلة السيف،  تتميز بسعة الشارع الذي تقع عليه . قريبة من جامع البصرة الكبير، مقابلها مطبعة الأديب وبجانبها المكتبة الاهلية لصاحبها (فيصل حمود) قومي الاتجاه لكنه يريد أن تكون مكتبته للجميع ، فيها الكتاب التقدمي ،أيضاً، بنسخة أو نسختين يضعها تحت الطاولة حرصاً على نفسه وعلى مكتبته من عيون اجهزة الامن . أول من يشتري (الكتب الخاصة) من المكتبة الأهلية هو فيصل الحجاج. أما قاسم رؤوف فقد كان يمارس الفن الفوتوغرافي بالاستديو الخاص به قريباً من المقهى .

يوماً بعد يوم صار عِلمٌ عند مجموعة المثقفين من رواد المقهى في منطقة السيف أن عيون الأمن تراقب الداخل إليها والخارج منها. ثم اعتقلوا أنور البصري حال خروجه منها ذات ليلة. كما اعتقل في نهار اخر كريم نوري وهو متجه إليها . صارت اجهزة الأمن تهرع في كل عيد الى اعتقال مجموعة الشيوعيين المعروفين من العمال والطلاب. عيد العمال يعني اعتقال البعض وعيد الجيش وفي عيد الفطر وعيد الاضحى وعيد جلوس الملك فيصل الثاني على العرش. كما يُزج الشيوعيون بالمعتقلات  في حال قيام زيارة البصرة من قبل الملك او الوصي او قيام اضراب عمالي في الميناء والنفط ومصلحة نقل الركاب . سرت انباء واسعة في سوق التجار عن اعتقال جاسم المطير بهذه المناسبات كما حوكم انور البصري بسنة سجن مثلما حوكم هشام البعّاج وشاكر محمود وعشرات غيرهم.  اخبار الاعتقالات والسجون تصل الى مسامع جاسم الحجاج فتزعجه لأنه لا يستبعد أن يكون أبنه فيصل أحد الضحايا ذات يوم. لم يستقر له مقام على كرسي في مكتبه التجاري ولا في بيته التراثي  باحثاً عن حقيقة فيصل: هل هو ملاك ،كما يبدو، أو أنه يخفي تحت بصمته شيئاً من الشيوعية.  لكن موجة الاعتقال غمرته أيضاً فتسلق الحزن الشديد الى وجه والده حيث انكشف الشيء الكامن في بيت  فولكلوري جميل بلغ الشناشيل داخل البيت وخارجه أعلى اشكال الجمال ، حيث كنا نلج فيه   خفيةً، ليس من البوليس، بل حتى من صاحب البيت جاسم الحجاج  نفسه المفعم بالغمام من الشيوعية والتقدمية اللتين كان يظنهما سبباً باعتقال ابنه المحامي نصيف الحجاج، أيضاً، مما اغرقه بأشد حالات الاضطراب والكآبة ، وانتقل الخوف من قلب أبي فيصل إلى أمه .  

لم يرق للأب ان يترك أبنه الاصغر  يقع بأيدي الأمن  متجاوزاً قواه ،كلها، في نهاية السنة الدراسية بنجاح فيصل الحجاج متخرجاً متفوقاً من الصف الخامس العلمي، ومتخرجاً من موقف شرطة البصرة بكفالة ، ليتخذ، هذا الأب من دون مناقشة أبنه ، قراراً صعباً بإرساله لدراسة الطب بالقاهرة  على حسابه الخاص. كان يظن أن فيصل ربما يتمرد على القرار ، لكنه لم يتوقع موافقته بسرعة. لا فرق عند فيصل الحجاج أن يكمل دراسته بالقاهرة أو في بغداد،   إذ  كان مقتنعا ان الشيوعية موجودة بكل بلد وهو لن يفارقها سواء كان هنا أو هناك ، كما قال لي يوم سفره.

كان وداعي ،ذات يوم، فيه مشقة كبيرة .كنت أحاول انتزاع ملامح الحزن من وجهي  بالصمت والصوت الخفيف.. دعوت له بالتوفيق  والنجاح والتفوق الباهر .

كنت حزيناً في اعماقي لمغادرة صديق عزيز، لكن المصادفات السعيدة لم تتوقف عني . جمعتنا احدى المصادفات ، أنا ونصيف الحجاج،  باستئجار بيتين (توأم) متلاصقين كانا في مرحلتيهما النهائية من البناء. حل في بيته قبلي بأسبوعين. استطاع نصيف الحجاج  أن ينقل تلفونه من بيته السابق بسرعة مما وفر لي جهودي طيلة عامين لم أحصل فيهما على حقي التلفوني. صارت لقاءاتنا يومية متواصلة كما كنا نقضي وقتاً سعيداً مفيداً مع أصدقاء آخرين يزورونه في بيته أو يزوروني في بيتي. كما كنت أسمع وأتابع أخبار فيصل حالما تدخل إلى بيت نصيف برسالة أو بمكالمة تلفونية.

كنت في تلك الفترة  عضوا في اللجنة المحلية للحزب الشيوعي  وكان (سلطان ملا علي) مسئول اللجنة المحلية.. اصبحنا نعيش متقاربين في محلة واحدة (الخليلية) إذ لم يكن بيته يبعد عني أكثر من مائة متر. كما اصبح من السهل عليّ ارسال  اخباري واخبار البصرة وتحياتي وتحيات آخرين إلى فيصل الحجاج  من خلال رسائل متبادلة بين نصيف وفيصل .. صار نصيف صديقاً عزيزاً بديلاً لصديقي فيصل . لم تنقطع صداقتنا لحظة واحدة طيلة هذا الزمان الطويل . نهضنا معاً بوقت واحد يوم 14 تموز  حين فركنا عيوننا فجر ذلك اليوم العظيم ، للقيام بواجب مشترك بعد ان استيقظ حلم مشترك بسقوط نظام العسف والظلم  . 

حال قيام ثورة 14 تموز عام  1958 كانت قد حلّت زينة ذهبية في كوت الحجاج وفي دار جاسم الحجاج بمحلة السيف وفي دار نصيف الحجاج وفي داري ايضا حلّ بين يدي ديوان الشاعر المتنبي هدية من فيصل الحجاج الى جانب هدية اخرى هي كتاب جورج اورويل(رواية 1984) حيث كانت قد نشرت بالعربية في القاهرة عام 1957 لكنها سحبت من الاسواق بعد ايام قليلة من توزيعها.. قال أنه اشتراهما خصيصاً لي من إحدى مكتبات منطقة السيدة زينب بالقاهرة قائلاً لي برسالة قصيرة : (لكي أجعلك بفرحة عظيمة حال اللقاء بك بعد عودتي الى بغداد).   اهتزت قلوب المحبين بعودة فيصل الحجاج من القاهرة متنازلا بقراره  عن اكمال دراسته فيها واستكمالها في كلية الطب بجامعة بغداد . كان جميع أبناء وبنات آل الحجاج منهم عائلة نوري الحجاج والمحامي مرتضى الحجاج وغيرهم مسرورين بجميع مظاهر الاحتفالات بعودة فيصل الى مدينته كشاب  رصين حاملا حزمة النضال الابيض على كتفيه من جديد لتحقيق حلمه بلوحة بنفسجية مكتوب عليها عيادة الدكتور فيصل الحجاج ومن ثم مستشفى الدكتور فيصل الحجاج لمكافحة الامراض الصدرية.

لم يغلق دفتر حبه المنفرد الاول فقد وجده ملقى على خبر ان محبوبته قد تزوجت في الربيع السابق لمجيئه..  لم يكتئب لكنني وجدته ينظر نظرة تواطؤ إلى بيت ابيها اي الى اثار وجودها السابق في قلبه.

ذهبنا معاً إلى بغداد، اكثر من مرة، على قطار الدرجة الأولى كي يحقق انتصار تسجيله طالباً في كلية الطب ببغداد . بعدها غرقنا في آخر نفس من الراحة ونحن نفتش ذات يوم قائض عن بيت لسكنه أثناء الدراسة . وجدنا بيتاً في الاعظمية قريباً من المقبرة الملكية مقابلاً لدار الشاعر كاظم جواد وزوجته الشاعرة الفلسطينية  سلافة حجاوي . حين مررتُ عليه ذات احدى زيارتي وجدته قد وافق على أن يسكن معه بصراوي آخر من اهل الزبير هو الطالب في كلية التجارة توفيق .كان هذا الطالب محباً بشكل غريب للرئيس المصري جمال عبد الناصر. تناقشنا كثيراً في جلساتنا وسهراتنا حول الثورتين المصرية والعراقية .كان فيصل يأمل أن يكسب هذا الصديق إلى صف النضال من أجل ديمقراطية ثورة 14 تموز  لكنه تحوّل بسرعة الى حزب البعث ،مما جعل فيصل  يفكر بالانتقال إلى السكن في بيت استـأجره بمنطقة الوزيرية، الذي ذهبت اليه مرة واحدة كان فيها الرفيق صفاء الحافظ موجوداً.

لم يعد الوقت يمنحنا فرص اللقاءات المتواصلة أو المنتظمة فقد سكنتْ روح الدراسة الطبية وروح النضال الطلابي في حياة فيصل بينما وجدتُ نفسي بقرار حزبي متفرغاً للعمل الحزبي السري راكباً على فرس ينقلني من مدينة الى مدينة ومن قرية الى قرية في البصرة والناصرية .. ما أن اضع قدمي على أرض حتى اجد نفسي بسرعة خاطفة على غيرها. كان كل واحد منا يكرّس ساعات يومه من أجل تحصين الدفاع عن الثورة المهددة بالغدر والاغتيال.  لذلك تقطعت بي سبل العلاقة مع جميع اصدقائي السابقين ومنهم فيصل الحجاج .

حدث الغدر يوم 8 شباط عام 1963 متخفياً وراء اسم ثورة رمضان ونزلت صواعق القهر على الشعب العراقي وتداعت شظاياها على كل بيت يسكن فيه شيوعي او شيوعية بعد أن قتل الحرس القومي آلاف المناضلين في الشوارع وفي ساحات النوادي الرياضية استجابة لبيان الحكومة الانقلابية الفاشية رقم (13) . ثم امتلات السجون والمعتقلات بدماء المعذبين والشهداء حتى اصفرت وجوه الفاشست من لون جرائمهم البشعة . حظ فيصل الحجاج كان سيئا حين تمتم أحدهم عن اختبائه في بيت شقيقته (مهجة الحجاج) في منطقة الكرادة ببغداد. داهموا البيت و اعتقلوا فيصل  وارسل فوراً إلى قصر النهاية ، قصر العذاب والموت ، واصبح اسمه اعجوبة مضافة من أعاجيب الشيوعيين في الصمود والشهادة .

كانت الهِبة المجانية لهذا الخبر قد نقلها لي صديقه وزميله في بيت الاعظمية المشترك (توفيق بريكان) الذي كان احد عناصر الحرس القومي في بغداد ثم جاء منقولا الى البصرة في تموز 63 ليكون مسئولا  في البصرة . انهى كلامه الاول في لقائه الاول معي داخل زنزانتي الانفرادية  بخبر رحيل فيصل الحجاج. شعرت بألم شديد صعقت به بالرغم من انه لم يخبرني بأي تفصيل  لكنه امتدحه بالقول: (خسرتُ صديقاً عظيماً) .  احسستُ حرارة الالم الصادق بين اضلاعه . فهمتُ من خلال كلامه أن نوعاً من بشر العراق أصبح حيواناً وحشياً في قصر النهاية.

ظل هذا البعثي لأيام عديدة يحاول أن يقدم لي بعض حبوب الاسبرين أحياناً وبعض المأكولات في أحيان أخرى .حاول  أن يقنع الجلاد زهاء حسين  بتخفيض  ساعات تعذيبي لكنه سرعان ما اكتشف أن أصحابه لا يفهمون أي لغة انسانية بالرغم من اشتداد صراعهم في أواخر تشرين الثاني  مع الرئيس عبد السلام عارف وكتلته في الجيش حسبما كان يخبرني توفيق نفسه  ببعض اخبار هذا الصراع.  قبل يوم من سقوط الحرس القومي جاء إلى زنزانتي الانفرادية ليخبرني أنه سيعبر الحدود الى الكويت هاربا من (الجحيم)  قبل ساعة الفجر مؤكداً لي أنه ما زال يحتفظ بساعة  يدوية  أهداها له فيصل الحجاج . ثم قال بإعجاب: سمعت عن صلابته قبل صباح اسود قتل فيه.

 دخلت إلى سجن نقرة السلمان ، بعد سقوط الحرس القومي ، فوجدت نفسي من جديد جاراً للرفيق نصيف الحجاج  في القاووش رقم 4.  كما كنا في (مائدة  غذاء  واحدة مشتركة) . لكن الشيء الوحيد الذي فقدناه هو اخبار فيصل.. عدنا نتذكره ،كل يوم، تقريباً.  نتطلع إلى كلِ قادمٍ جديدٍ  الى السجن من  قصر النهاية لنسأل عن مصير فيصل. كان يحيا ويموت مرات عديدة في عيوننا ،  لكن استمرارية غيابه كانت حتمية.. بعض الايماءات تنير أملنا بأنه حيّ والبعض الآخر يطفئ كل أمل .

في سجن نقرة السلمان عرفتُ من الراحل الصديق (هاشم الحكيم) بعض التفاصيل عن قصر النهاية وعن جرائم التعذيب فيه. كان يلعن دين ومذهب وسلوك الحرس القومي، الذي نبت في قلوبهم جذر القتل والجريمة. ثم أخبرني قائلاً:  حين اقتادوا فيصل الحجاج من غرفة التعذيب مع 10 شيوعيين آخرين كان هدفهم الفصل  بينهم وبين الحياة، خلال دقائق، بإطلاق الرصاص على جماجمهم في إحدى المقابر السرية.

استطاعوا أن ينهوا حياة شاب نشيط، مع هذه المجموعة من الشهداء. قتلوا شخصاً أعرف أنه كان ينثر نجوم الأمل في حياته أن يبني مستشفى في كوت الحجاج .كان صوته طيلة سنوات عمره القصيرة يتحدى كل ظلم.. كانت كل أيام حياته خيراً بلا شر.. كان يحمل حباً بلا حقد.. كان مؤمناً أن نضال الشيوعي يظل حاجة انسانية كبرى حتى بعد رحيله إلى الخلود.

لم يحقق فيصل الحجاج أحلامه بمساعدة البؤساء والفقراء، لكنه فارق الحياة مستشعرا بكرامة الشيوعيين وعزّة المناضلين  وهو يحمل لقب (الشهيد الشيوعي )..

لقبْ  لا يليق إلاّ  بمن يمارس مهنة الكرامة والعزة في حياته.