عندي مائة سبب وسبب جعلني أكره السياقة ، ولا داعي لسردها فهي معلومة للجميع ، وأصبح أهون الشرّين ، أن استأجر (سايبة) ، فأترك ثقل الطريق على كاهل سائق التاكسي المسكين ، وبالمقابل عليّ مجاراته ومجاملته في تذمّره وشكواه التي لا تنتهي، وأرى أنه مُحقا في جميعِها.
أضطررت يوم أمس ، أن أقود سيارتي (المنفيست) ، من ساحة ميسلون ، الى گراج (بغداد الجديدة) ، مسافة لا تتعدى الكيلومترالواحد ، استغرقت مني ثلاثة ارباع الساعة ، حاولت الخروج من الملل القاتل ، فوجدتني أضحك بمرارة ساخرا من أختراع السيارة ، فالسير مشيا لا يتطلب سوى ربع الساعة ، السيارة كالديمقراطية المستورَدة في بلدي ، لم تفدنا في شيء الا لتكريس التخلّف !.
في طريقي الى تقاطع سينما البيضاء المرحومة ، كانت هنالك جيوش من المتسولين ، يطرقون باب الله عند طوابير السيارات المبتلية بالسيطرات ، كانوا يلجأون الى أكثر الطرق المبتكرة أحراجا ، فهمنا اللعبة ، فغلق جميع السائقين زجاج سياراتهم ، ليس الا خط دفاعي أول من (هجمات) مساكين ﺁخر زمن ، تفاجئت بصبي ، يرشّ المنظّف على زجاج سيارتي ويمسحها ، رفضت مسحها لا لشيء ، سوى أني لم أتسلّح بخردة (فكّة) في جيبي ، تصرّف كالعادة كالأطرش ، كررت عبارتي مرات ، وعندما يئس ، انسحب انسحابا تكتيكيا ، وقد غطى انسحابه بسحابة من عبارة لم أسمعها جيدا حقا ، سوى انها دلّت على قلة الأدب ، فكظمت غيظي ، فمن أين يأتي هؤلاء بالأدب وقد سكنوا الشارع ؟.
نساء منقّبات ، منهن مَن افترشن الأرض ، عارضات لتقارير طبية ، أو عاهة ، أو بصحبة طفل رضيع في هذا البرد القارص ، قد دخل عالم (البزنس) قبل الأوان ، وجدتُ منهن مَن وضعن المكياج وحتى (التاتو) ! ، تتقدم من نافذتك بغنج لتقول لك (مساعدة رُحْمَ الله والديك) !، فتمتمتُ مع نفسي عبارة فناننا المرحوم جعفر السّعدي (عجيب أمور ، غريب قضية) !.
انتعشت مهنة (بيع الشاي) ، و(الكلينس) ، وانواع النساتل ، والعاب الاطفال ، وكارتات الموبايل بأنواعها ،والسكائر ، وخِرقْ تنظيف زجاج السيارات ، لا يقل اسلوبهم أحراجا عن المتسوّلين ، فالبائع هنا هوالذي يلاحق الشاري ، وليس العكس ، ولهم من الفراسة وسرعة البديهية ما يُحسدون عليه ، كان الله في عون السائق ان كان معه أطفال ، لقد شاهدت أحدى هذه السيارات وقد تحلّق حولها أربعة من البائعين ، مرددين كليشة (الله يخلّي جهالك) ، هكذا اُجبرَ على دس يده في جيبه ، يعرفون كيف يطرقون الحديد وهو ساخن ، وفي المناطق اللينة .
وصلت للسيطرة وكأني خرجتُ توا من ساحة حرب ، ولا أدري لماذا تكون أسوأ مناطق الشارع عند السيطرات ، حيث الحفر والمطبات ، لا أدري لماذا أعجب شكلي جندي السيطرة ، فأشار لي بالدخول الى منطقة التفتيش الملحقة بالسيطرة .
سألني الجندي الأخر : (منين جاي ووين رايح) ؟ ،تفاجأت بسؤاله لأنه سخيف ، كيف سيعرف من أني لا أكذب ؟ ، حاولت المزاح معه من أني أتيت من الفلّوجة لأرى ردّة فعله ، لكني تداركت الموقف قائلا : من ساحة ميسلون ، فمن المزاح ما قتل .
قال : (عمي ، أوراق السيارة) ، فأبرزت له وصل السيارة المتهالك من كثرة تداوله في السيطرات ، فقال (وين السنوية ؟ هذا الوصل قديم ) ، فقلتُ له : جماعتكم ضيّعوا أضبارة السيارة ، وأنا أبحث عنها منذ أربعة شهور ! ، وقدمت عدة شكاوى في الأنترنيت ، وشكوى مكتوبة في شؤون المرور العامة ، وحتى الى عميد المرور عمار في موقع (كتابات) ، ولا واحد منهم اتصل بيّه !.
ذهب شرطي السيطرة للتداول مع جماعته ،وقلبي يؤلمني وأنا أرى الوصل الثمين ، تتقاذفه الأكف غير الخبيرة بأهمال ، عاد لي حاملا الوصل قائلا (روح) ، وحمدت الله ان الوصل بالكاد قطعة واحدة.
عبرت تقاطع سينما البيضاء لأدخل في زحام أخر سببه سيطرة أخرى بأتجاه كراج بغداد الجديدة !، الجندي هذه المرة كان يتصفّح (موبايله) ، دون أن يرفع رأسه ، تفاجأتُ بحفرة سقطت فيها سيارتي محدثة صوتا كالمطرقة والسندان ، مصيدة عمرها اكثر من عام لا ينجو منها أحد .تتحدّى كل الكذابين ممن يدعون الحرص والاعمار .
لَفتَ انتباهي عامل التنظيف الشاب ، مرتديا بدلة العمل ، أُعجبتُ بعدد المهام التي يؤديها في ﺁن واحد ، فهو يكنس حافّة الرصيف بيد ويعبئ (الكَرَكْ) بيد أخرى بالأزبال ليضعها في الحاوية التي يسحبها خلفه ، كان متأنيا ، صامتا ، لم يرفع رأسه ، وفي وجهه مرارة واضحة ، كان لا يترك بقعة إلا نظفها تماما ، وتسائلتُ في نفسي ، هل عاد علينا برلماننا مجتمعا بفائدة مثل عامل التنظيف هذا ؟ فمنهم مَنْ رفع عقيرته منتقدا تقاعد الرئاسات الثلاث ، وإذا به يوقّعُ سرّا على إقراره ، ضاربا عرض الحائط أحتجاجات الجماهير والمرجعيات وحتى المحكمة الأتحادية ! ، أين راتب عامل التنظيف من رواتبهم !؟
في هذا الطريق القصير ، رصدتُ ملا يقل عن خمسين متسولا ، تنتعش مهنهم عند السيطرات حين تتوقف أو تتباطأ السيارات ، وبعملية حسابية مع تعدد السيطرات في البلد ، الن يربوا عددهم عن المليون ؟ ، شكرا لك أيتها الحكومة ، هذا إنجاز ﺁخر بلا شك !.