23 ديسمبر، 2024 2:23 م

بلبل عراقي وجمال الغيطاني

بلبل عراقي وجمال الغيطاني

المرة الأولى والأخيرة التي رأيتُ فيها الروائي والقاص جمال الغيطاني، هي حين زار البصرة وألقى محاضرة في دور الثقافة الجماهيرية وقدمه للجمهور القاص يوسف يعقوب حداد ،كان ذلك في صيف 1976يومها كنت قد قرأت للغيطاني مجموعتين قصصيتين(أوراق شاب عاش منذ ألف عام) (أرض..أرض) وكتاب أقرب مايكون إلى الإستطلاع الصحفي عن قبائل أفريقية (الزويل)..لاأتذكر نوع المحاضرة بسبب الجالسات خلفي : فتيات ثلاث وثرثارتافه مغرم بأحداهن..وهؤلاء الأربعة سبب تلويث الجلسة بتفاهات صوتية، مما جعل المقدم القاص يدعوهن للجلوس في الكراسي الأمامية !! في شتاء السنة نفسها قرأتُ روايته (الزيني بركات) ويومها كنت مريضا بتطابق مثلثات التأويل السردي مع فترة عبد الناصر، فلم ألتقط سوى أيدلوجية الرواية حسب سوء تأويلي وكان ذلك الخطأ الثالث لي في كيفية القراءة ..في (11/ آذار/ 1983)قرأت (وقائع حارة الزعفراني) قبل ذلك بسنوات كنت قد قرأت المناوشات التي جرت في مجلة الآداب البيروتية بين الغيطاني وصلاح عيسى، حيث أتهم عيسى ،الغيطاني بسرقة قصته القصيرة المنشورة في الآداب في منتصف السبعينات(حضور الأيتام على مائدة اللئام) وتحويلها الى رواية بعنوان (وقائع حارة الزعفراني).. في منتصف التسعينات قرأت كتاب(التجليات) وقرأته ثانية ، بعد إطلاعي على كتاب(إنتاج الدلالة الأدبية) للناقد الدكتور صلاح فضل ،فقد أفرد الناقد فصلا قيّما تناول أشكالية توظيف الجنس ضمن الفضاء الصوفي لنصوص الكتاب ..قبل سنتين قرأت نسخة إلكترونية من (نزول النقطة) ونسخة ورقية من (شطح المدينة)..في هذه الأيام أقتنيتُ نسخة ورقية من(حكايات هائمة) وكان من المقرر، تأجيل قراءة حكايات الغيطاني لبداية الخريف فهو من أجمل فصول البصرة وبشهادة الرحالة بارسنز حين زارها في 1772 لكنني لم أصبر قرأت الكتاب بشغف وأطلت المكوث في عزفه الاسلوبي المنفرد،ولغته الصوفية العطرة وبعد أذان الفجر بثلث ساعة وجدتني أكتب عن (حكايات هائمة ) مقالة غير هذا العمود الصحفي الأسبوعي، إلتقط ُمايخص بلادي اعني حكاية..(بلبل عراقي) .. لنصغي للغيطاني وهو يقول(في بغداد تعرفت إلى محمد القيسي، كان فنانا يهوي التمثيل، شارك في أعمال معروفة وله ذيوع وانتشار، ملم بالتراث الفني خاصة الموسيقى وبالأخص فنون المقام../ 345) وحين يغيب عن بال الغيطاني اسما عراقيا ، فلاتغيب عنه العلامات المؤنسة للعاصمة بغداد ..(غاب عني أسمه ولكن لن يغب عني موقع معرضه ،،أنغام التراث،، الذي يقع حيث يشير إصبع معروف الرصافي من خلال تمثاله) ومن هذا المحل سيقتني الغيطاني أصوات :محمد القبانجي، يوسف عمر، صديقة الملاية، زهور حسين، ياس خضر، ثم يحدثنا عن آواخر أيام الاستاذ محمد القيسي(مع تقدمه في العمر، قصد افتتاح مقهى يحتوي على كل ماهو عتيق ،الماء يقدم في السطل المعدني،ومساء كل خميس يقيم حفلاً لقارىء المقام يوسف عمر/ 346) الذي يهمنى ثريا الحكاية وكيف توقفت ذاكرة الغيطاني عند زمنها النفسي(ومازال في المقهى المطل على دجلة اقفاص للبلبل العراقي..) ثم يقدم للقارىء العربي تعريفا (طائر نادر، بادي المعزة وغزيرالزهو) ذات يوم سيبوح محمد القيسي بسر مجنّح للغيطاني سيقوده إلى قفص فيه زوجين متحابين ، الذكر يزقق انثاه ، والأنثى لاتقرب الزاد إذا ادركه وهن) وحين يفتح القيسي باب القفص(لم يطل الزوجان على الفور،خطوة واحدة إلى
اليمين،أخرى الى الخلف ثم انطلقا، دار الذكر فوق النهر والانثى في الإتجاه المقابل ، شكّلا مايشبه دائرة ، ثم اتجه كل منهما الى مركزها المتوهم في الفراغ ،رقصة ما، اتجها إلى أعلى وعند حد معين تلاقيا، أتحدا، أستمر أرتفاعهما بدون رفرفة ، الرفرفة داخل كل منهما ، خلال السمو إلى فوق يتوالجان ، يسمع تغريدتهما بعد الفراغ كأنه نغم شارد من منظومة ، يعودان معا، رايتُ بعيني دخولهما الى القفص .عينا القيسي مغمضتان كأنه هو المنتشي../347) ومن خلال هذا التراسل المرآوي بين الطيرين والقيسي، هل اغمض القيسي عينيه على حكايته ليفتّح الغيطاني عيوننا عليها؟!ويحوّل رقصة طائرة من البانتوميم الى سرد شهي..!!