18 ديسمبر، 2024 8:01 م

بلا رتوش.. حركة حسن سريع.. وقطار الموت

بلا رتوش.. حركة حسن سريع.. وقطار الموت

بلا رتوش.. حركة حسن سريع.. وقطار الموت:
قطار الموت:

ـ رأى المسؤولون البعثيون بعد حركة (حسن سريع في 3 تموز 1963) إن وجود أكثر من (400) من الضباط والقادة الشيوعيين معتقلون في سجن رقم (1) بمعسكر الرشيد مصدر قلق لهم.. لذا قرر البعث نقل هؤلاء المعتقلون الى سجن (نقرة سلمان) الصحراوي.

 

ـ من جهته تبنى عبد السلام عارف واحمد حسن البكر وعبد الغني الراوي.. فكرة إعدام هؤلاء المعتقلين جميعاً.. لقيً هذا الطلب مقاومة من قبل البعض.. خاصة سكرتير مجلس قيادة الثورة (أنور عبد القادر الحديثي).

ـ تمكن طالب شبيب وحازم جواد وأنور الحديثي من إقناع احمد حسن البكر للعدول عن فكرة الإعدام بالجملة!!.

ـ وهكذا طلب البكر من عبد الغني الراوي أن يذهب الى (نقرة سلمان).. وهناك يجري تنفيذ الإعدام بـ (30) من الضباط الشيوعيين.. رفض عبد الغني السفر.. وقال: العدد قليل.. مطالباً بإعدام 150 على الأقل.

ـ وكل ما قيل في مذكرات بعض القياديين البعثيين… عن رفض هذه الفكرة نسج من الخيال.. فالكل من دون استثناء.. قرروا ابادة الشيوعيين.. حتى الطفل منهم.. وكلهم شاركوا بتعذيب الشيوعيين حتى الموت.. وتفننوا في ذلك التعذيب.

ـ اما الردح بعد سنين.. يبقى ردحاً.. لتبييض ماضيهم.. وليس عملاً ثورياً!!

ـ فالكل اتخذوا طريقة أخرى لقتلهم.. فقد وضع الشيوعيون المعتقلون في سجن رقم واحد في قطار كانت عرباته مخصصة أصلاً لنقل البضائع.. وصبوا أرضيتها ب القير.. وأوصدت أبواب عربات القطار عليهم بإحكام من الخارج.. وانطلق بهم في الساعة الحادية عشرة صباح السابع تموز / يوليو / 1963 ومع ارتفاع شمس تموز الحارقة.. كان يمكن للركاب ـ حسب التقديرات العلمية ـ أن يموتوا بعد ساعتين من انطلاق القطار.. حيث تتحول كل عربة الى تنور متنقل أو فرن مغلق على لحوم بشرية.

ـ كان السجناء مكبلون.. بعضهم بـ (كلبجات).. وآخرون بسلاسل حديدية.. وتوزع الحراس على الممرات بملابس مدنية أو فلاحيه إمعاناً في التمويه.. ومهمتهم منع أية محاولة لكسر الأبواب.. وتهريب أو هرب السجناء.

ـ بعد ساعة من تحرك القطار بدأ المعتقلون يعانون من الغثيان.. وهبوط ضغط الدم بسبب نقص الأوكسجين داخل العربات.

ـ ولولا وجود عدد من الأطباء الضباط بين السجناء لما صمد السجناء أحياءً فترة أطول.. إذ أعطوهم النصائح بأهمية (مص) أصابعهم وأجزاء الجسد الأخرى لاستعادة بعض الأملاح المفقودة وغيرها من النصائح.

 

ـ وتتدخل الحظ وتوقف القطار في محطة المحاويل.. فأثناء التوقف اتصل شخص بالسائق (عبد عباس ألمفرجي) قائلاً له: (خالي حمولتك ليست بضاعة.. بل سجناء سياسيين إنهم ضباط عبد الكريم قاسم).

ـ لما علم السائق انه يقود تابوتاً بهيئة قطار مصفح.. استبدت به الشهامة.. وكان لدى السائق ذاكرة ودية لعهد قاسم.. فانطلق فوراً بأقصى سرعة ممكنة فوصل بالقطار قبل موعده بساعتين.

ـ لم يُعرف لحد الآن كيف علمً نفر من أبناء سدة الهندية والديوانية بسير القطار.. فاتصلوا بمعارفهم في مدينة السماوة لاستقبال القطار ومساعدة السجناء.

ـ وعندما فتحت أبوابه في السماوة تكشفت العربات عن حشرجات صادرة عن هياكل بشرية زاحفة للخارج.. في حين غاب آخرون عن الوعي.. ومات عدد من المعتقلين.. يقال بين عشرة الى شخص واحد.

 

ـ مرة أخرى لعب الأطباء السجناء دوراً مهماً في إنقاذ حياة السجناء.. إذ قفزوا الى الأمام وأرشدوا المستقبلين الذين أحضروا مياهاً مثلجة وحليباً.. فمنعوا السجناء من الشرب وطلبوا من الناس بجلب ماء دافئ وملح.

ـ جرى كل ذلك وسط حشود من الناس تتعالى بينهم.. ولولة وبكاء النساء.. وعندما حاول رجال الشرطة والحراس الاعتراض.. تحدث معهم بعض الضباط السجناء فأخجلوهم وابتعدوا.

ـ وقد أسمى السجين الشيوعي: (حمدي أيوب) نجدة أهالي السماوة بـ (انتفاضة السماوة الصامتة).

ـ لقد علم أحد وجهاء السماوة.. وهو يسكن بغداد واسمه (السيد طالب) بخبر القطار.. فاتصل من بغداد بأهالي مدينة السماوة واستنفرهم.. فاحضروا من الزاد ما يكفي عشرات المرات للعدد المنقول في القطار.

ـ فيما استأجر (السيد طالب) شاحنة لوري وحمّلها بمواد غذائية مختلفة.. وسيّرها مع سيارات نقل السجناء من السماوة الى نقرة السلمان هدية منه.

 

حركة حسن سريع الثورية:

ـ من خلال التعرف على طبيعة هذه الحركة اتضح انها حددت عدة مواعيد لتنفيذها منذ الشهر الخامس (أيار / مايو / 1963).. وبالاعتماد على بعض الجنود المتواجدين في معسكر الرشيد وسجن “رقم واحد” العسكري وغيرها.

ـ لأسباب عديدة بحسب ما دار في داخل المعسكرات من تأخير ونقل وغير ذلك.. تأجلت الانتفاضة الى يوم 3/ 7/ 1963.

ـ بدأ كل من حسن سريع ومحمد نجيب وقاسم محمد وآخرون تأسيس شبكة اتصالات واسعة وتجنيد أعداد من المتعاطفين من عسكريين ومدنيين معهم.

ـ كانت الخطة تبدأ من معسكر الرشيد – كتيبة الدبابات الاولى – وقاعدة بغداد الجوية.. والمطار العسكري لتهيئة الطائرات حتى يستطيع الضباط الطيارون بعد تحريرهم من السجن العسكري “رقم واحد” استخدامها وضرب الاهداف المحددة لهم.

 

ـ بعد إخماد الحركة اجتمع مجلس قيادة الثورة وللوهلة الاولى طالب عبد السلام عارف بإعدام كافة الضباط والمدنيين المعتقلين في السجن العسكري “رقم واحد”.

 

ـ يقول القيادي البعثي هاني الفكيكي ان مجلس قيادة الثورة كان مصراً على اعدام 450 ضابطا من الضباط الشيوعيين ومناصري قاسم.. وكان في مقدمة الداعين للإعدام عبد السلام عارف والبكر. (رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء).

ـ وبحسب ما يدعي هاني الفكيكي في مذكراته “اوكار الهزيمة” 1993.. بان هناك خلافاً بين العسكريين المندفعين لإعدام السجناء وبين القيادة المدنية الرافضة للإعدام.

 

ـ في نفس السياق تم اقناع عبد السلام عارف وزمرته بنقل الضباط والآخرين الى سجن نقرة السلمان.. وان يتم هناك اعدام عدد محدود منهم.

ـ ويدعي الفكيكي وحازم جواد وآخرون ان مجلس قيادة الثورة بقيادة عارف والبكر كانوا مصرين على ارسال السجناء بقطار حمل.

ـ ويدعي القيادي البعثي حازم جواد ان عبد الغني الراوي اقتحم اجتماع مجلس الثورة وقدم لهم ورقة يدعي فيها ان علماء الدين السنة والشيعة أجازوا قتل الشيوعيين.. وفي حينها هتف عبد السلام عارف: (ماذا تريدون اكثر من هذا التأييد؟؟؟؟).

ـ يدعي الفكيكي ان مجلس قيادة الثورة وافق على ترحيل السجناء الى نقرة السلمان بقطار الحمل على أن يسافر معهم كل من: عبد الغني الراوي والبكر للإشراف على تنفيذ حكم الاعدام بعدد من الضباط.. وبعد ان انسحب البكر من الفكرة لحقه عارف.

ـ تم تغيير الاقتراح الى اعدام 150 من الضباط.. وبعدها 30 ضابطا فقط.. ويدعي الفكيكي ان عبد الغني الراوي رفض تنفيذ الامر بإعدام 30 منهم لقلة العدد.

 

ـ كان عدد ركاب قطار الموت 520 ضابطا وعسكريا.. وفي مساء 3 تموز /يوليو / 1963بدأت عملية تجميع الضباط بحسب قوائم معدة مسبقاً.

ـ كان يشرف على العملية كل من: عبد السلام محمد عارف.. وطاهر يحيى.. ورشيد مصلح.. وآخرون.

ـ كانت هناك قائمة بأسماء عدد من الضباط معدة مسبقا تمت قراءتها.. بعد برهة من الزمن صعد السجناء الى العربات.

ـ في رسالة من السيد مظهر عبد عباس.. وهو نجل سائق القطار يقول فيها: حدثني والدي السيد عبد عباس المفرجي قائلاً: بلغتُ بقيادة القطار قبل ساعات فقط من انطلاق الرحلة.. دون معرفة ما في القطار من حمولة.

ـ تم ترحيل القطار من دون تزويد حراسه بمفاتيح اقفال العربات.. كذلك خلو المحطة من العمال المدنيين.

ـ بين الساعة الثالثة والرابعة من صباح 4 تموز / يوليو/ 1963 تحرك القطار.

ـ حددت السرعة التي يجب ان يسير بها القطار.. بحيث تستغرق اكثر من 10 ساعات للوصول الى السماوة.

 

ـ كان نية القتلة القضاء على السجناء داخل العربات لا محال.. وفقا لتعليمات السير بالوقت المحدد للسائق.. وهذا الوقت سيكون الكفيل لكي يتسلل الموت المحتم الى السجناء قبل استكمال الرحلة الى السماوة.. لان حرارة تموز سوف تدمر كل شيء داخل العربات التي ستصبح (تنور متحرك) اضافة الى الابخرة التي تتصاعد من السقف المبطن به العربات.

 

ـ بعد ساعتين من انطلاق القطار.. اشتدت أشعة الشمس.. وبدأ يسخن كل شيء على ارضية العربات.. وحينها بدأنا نشعر بان حرارة الشمس تحيط بنا من كل جانب.. ومن أجل طرد الخوف من المجهول بدأ البعض منا يردد بعض الاغاني الثورية والاناشيد الشعبية اضافة الى الاحاديث والتساؤلات الكثيرة والمختلفة.

ـ بحسب تقدير الاطباء من السجناء فانه لا يوجد لدينا فرصة اكثر من ساعتين فقط من اشتداد حرارة الشمس التي سوف يمتصها الحديد.. كذلك ارضيات العربات المطلية بالزفت.. فتتحول كل عربة الى تنور او فرن مغلق على لحوم بشرية موضوعة على نار هادئة.

ـ ارتفعت درجات الحرارة حتى وصلت الى 50 درجة مئوية داخل العربات.. واشتدت علينا الآلام وارتخاء العضلات.. وبدأت حالتنا تسوء وتزداد سوءاً.

ـ وبسبب التعرق وانخفاض نسبة الماء والأملاح في اجسامنا أدت الى الشعور بحالات الاختناق والغثيان وهبوط الضغط والاغماء والتقيؤ.

ـ بدأنا نشعر بالألم الشديد.. وعدم القدرة على الوقوف بسبب حرارة العربات.. وسقط الكثيرون منا على ارضية العربة نصف مغمى عليهم.. لم يبق امامنا سوى اجسادنا واجساد الآخرين.

 

ـ كنا كمحاولة لإشعار الناس بالخارج بوجودنا استعملنا الطرق بقوة على جدران العربات والصراخ.

ـ لكن كل هذا لم ينفع بسبب ضجيج وصليل الحديد الذي يصدره سير القطار.. وحتى الفتحات البسيطة – الشقوق – في جدران العربات التي كنا نتناوب على التنفس منها لم تجد نفعاً.

 

حديد أم بشر؟

ـ بشكل مطلق كان السائق وحراسه يظنون إن حمولتهم هي حديد او مواد حديدية.. لكن في لحظة واثناء توقف القطار في محطة في منتصف الطريق الى السماوة للاستراحة.. يقول سائق القطار: “اثناء توقفي صعد شخص في الثلاثين من عمره وقال: خالي تعرف ان حمولتك ليست حديداً.. بل بشر هم افضل أبناء الشعب”.

ـ فاهتز السائق المفرجي مذهولا لمعرفته بعدم قدرة انسان على تحمل حرارة شمس تموز داخل العربات الحديدية حتى مدينة السماوة.. اي للمسافة الباقية وهي (160) كم.. فضلاً عن محطات متعددة للتوقف.

 

ـ هنا كلف مساعده للتأكد من ادعاء ذلك الشخص المجهول.. وبعد قليل عاد مساعده مصفراً.. وهو يصيح: “الحك إلحچي طلع صدك”.

 

ـ حينذاك شعر السائق بالرعب.. وفكر بسرعة حتى لا يتحمل وزر تابوت جماعي.. حينها أدرك لماذا كانت كل تلك الوجوه المهمة في وداع القطار في المحطة العالمية؟

ـ أخذ يراقب الحراس المدنيين المرافقين للقطار متأملا وجوههم.. ومستعيداً تصرفاتهم.. الذين كانت مهمتهم منع اية محاولة قد تأتي من الخارج لكسر الاقفال.

ـ تأججت نخوة السائق المفرجي وشهامته العراقية.. فقرر ان يقوم بواجبه مهما كان الثمن والعقوبة.. حتى لا يكون شريكا في الجريمة.. ويتحمل مسؤولية موت بشر ابرياء.

 

ـ حزم أمره وأسرع في انجاز الشؤون الفنية الضرورية لمواصلة الرحلة.. وانطلق بالقطار قبل الموعد المحدد وبسرعة قصوى حتى يصل الى السماوة متجاوزاً اكثر المحطات الباقية.

ـ يقول المفرجي: واصلنا السير وعبرنا المحطات الاخرى.. حيث كنا نقابل في كل محطة الناس محتشدين على جانبي سكة الحديد حتى وصلنا السماوة.

ـ هنا لا بد من الذكر ان أبناء المحاويل.. أو أية محطة اخرى يمر بها هذا القطار المشؤوم يحتشدون حاملين (أسطل) الماء.. ففي الديوانية رش عدد من المنتظرين الماء على العربات.

ـ يقول المفرجي اقتربت مني امرأة.. وقبلت يدي في غفلة مني.. وقالت: “ارجوك أوصلهم بسرعة”.

ـ الجدير بالذكر هو كيف وصل.. وانتشر خبر القطار لكل هؤلاء الناس وبهذه السرعة والتحشيد؟؟.

 

المحطة الأخيرة.. السماوة:

ـ وصل خبر القطار الى أهالي السماوة عن طريق أحد وجهاء المدينة.. وهو والد لأحد السجناء الضباط.. حيث طبخت النساء وخبزت الخبازات.. وأحضروا الطعام ما يكفي لأكثر من عدد السجناء.. وجهز سيارة حمل تحمل المواد الغذائية والماء مع رتل السيارات المتجه الى سجن نقرة السلمان.

ـ وصل القطار الى محطة السماوة قبل الموعد الذي حددته مصلحة السكك الحديد بأربع ساعات تقريباً.. بسبب اختصار السائق الشهم للكثير من الاجراءات والروتين.. كذلك لعدم التوقف في الكثير من المحطات.. حيث كان يلاحظ العديد من الناس في المحطات التي كان يمر بها وكأنهم على علم بما تحمل العربات الحديدية المغلقة.

ـ عندما فتحت العربات.. واندفع من كانت لديه الطاقة للحركة نحو حنفية الماء على رصيف المحطة.

ـ وهنا وقف الطبيب رافد صبحي أديب محذراً من شرب الماء لكي لا يؤدي الى فقدان الاملاح وهبوط الضغط وبالتالي الى الوفاة.

ـ وهرع الناس الى جلب الملح وتجمع بقية الاطباء من السجناء الى معالجة الماء بالملح وتقديم العون واعطاء كل واحد منا كمية من الملح.

مفارقات:

ـ هناك العديد من المفارقات التي برزت نتيجة التوتر والانهيار العصبي والنفسي للسجناء.. من أبرزها: الرد العنيف والمبرر للمرحوم قيس محمد صالح على الضابط المسؤول عن القطار وغيرها من الامور التي برزت حينها.

 

ـ تم ترحيل السجناء الى سجن نقرة السلمان في نفس اليوم.. رغم بؤس حالتهم الصحية والنفسية والارهاق الجسدي.

ـ جرى نقلنا بسيارات في رحلة صحراوية طويلة نحو سجن نقرة السلمان.

ـ ان أزمة السجناء استغرقت اكثر من (30) ساعة.. تحمل خلالها ضغطاً متواصلاً ومصاعب كثيرة ولازم الموت اكثر من مرة.