18 ديسمبر، 2024 9:53 م

وأخيرا تنسل العتمة بهدوء الأفعى من احضان الليل وترحل لتترك ورائها الفجر حائرا يبحث عن أجوبة ضاعت وتلاشت بين جدران وأزقة الحي المنكوبة .
أخيرا أطل الصباح … بدأ على وجهه الشحوب .. يبدو انه لم يكن نائما ؟ أو ربما يخشى من الصدمة التي سوف يلقاها عندما يجد جثث القتلى راقدة تنتظره بشوق لتتعمذ عماذها الأخير بنوره وتبتسم وتذوب بهدوء وتتحد بتراب أمها الأرض .

أخيرا بدأت سيارات الطوارئ تجري وتولول في أوردة الحي … تعوي وترفع التكبير وتلتقط الجثث المخطوفة عبثا … الملقاة هنا وهناك على أرصفة الليل العتيق .

أي يوم جديد هذا الذي يستقبلني بباقة ورد مغلفة بشرائط الدخان ومعطرة برائحة اللحم البشري المحروق؟ بل أي مؤامرة مؤلمة بخبثها تنتظرني هذا الصباح وتجعلني أتـنافر مع ظلي حول جدلية ولادة يوم موت أخر ؟

أقرر أن اصنع لي فنجان من القهوة عله يداوي الطنين المستمر في أذني … وأقرر أن أدخن معه سيكارة ويا ليت دخانها يقدر أن يحمل معه الصرخات المكتومة قهرا والتي اقتحمت مسامعي ليلة أمس ويرحل بها إلى بعيد .

ارتشف قهوتي على عجل ارى ان لونها أحمر …لا تعليق مني … فقط ان ارتشفها وانا صامت فالصمت لغتي التي أتقنها بأحتراف وأكاد ان اختنق .

احساس مخيف ينتابني هذا الصباح لا استيطع ان ابوح به لنفسي … فنفسي الأمارة بالسوء قد تحكي بما أشعر به للريح فتنقل الريح سري للأشجار … فتبكي الاشجار وتموت هي الأخرى شهيدة الإحساس لا الرصاص .

الوحا الوحا …العجل العجل …واستعجل الخطى …إلى أين يقودني الشارع والى أين تقودني قدماي وسط الزحام ؟ ربما إلى اللانهاية ؟ اقفز من فوق الجثث المتناثـرة حولي … تقف أحدى الجثث أمامي تبتسم وتلوح لي بسلامة الذهاب الى العمل …أتظاهر بأني لا أرى شيئا … فالذهاب إلى عملي أصبح كطريق الجلجلة هذه الأيام وعليي أن احمل أفكاري كإكليل من شوك على رأسي…وان أحمل صمتي وحزني وبقايا انسانيتي الممزقة على كتفي وأسير لأصلب جسدي في وادي الدموع .

هل حكم علينا ان نعي أهمية الموت اليومي لينعموا على اغتصاب ما تبقى من أجمل لحظات حياتنا ؟

في الشارع … تستوقفني الصحافة … كالعادة يأتون بكاميراتهم التي تلتهم كل شي ويصورون مسرح الجريمة ويغادرون على عجل لتصوير مسرح جريمة أخر… ولكن هذه المرة يسألني احدهم : –

ماهي أهم المشاكل التي تواجهك الآن كونك شاهد حي على سنوات المخاض التي تمر بها المدينة ؟

أثارت كلمة ( حي ) رعشة خوف كهربائية من كوني اعيش وأتنفس فبمجرد أن يعرفوا أني حي سوف يسعون لقتلي واستباح حرماتي وامتلاك ما أملك – هذا إذا كان لدي فعلا ما أملك – !

فأنا لا استطيع النوم ! …لا أجد فرصة افصل فيها رأسي عن جسدي وأضعه جانبا واقطع سلك التفكير عنه ثم أغمض عيناي وأغفى …أصبح النوم بالنسبة لي حلم وغاية لايمكن أدراكها .

أشتاق لفترة هدنة أشحن فيها جسدي بالهدوء ليستطيع المقاومة على ما تخفيه لنا الأيام من سيناريوهات مفجعة أخرى أعدت خصيصا لنا … فحمى السهر فقدت نكهتها لدي وسريري أعلن براءته مني …غرفتي هجرتني على غفلة مني ورحلت عندما كنت أبحث عن دواء سحري يجعلني أسافر إلى بلاد النوم علني التقي بذكرى جميلة فقدتها في ثنايا حلم ضائع .

أوقفوا عملياتكم القتالية مع الفراغ …أوقفوا هذا الجنون فأنا موجوع … ووجعي عميق يمتد إلى جذور الأرض .

ما أقبحهم من رعاع وهم يتلذذون بعسل النوم بينما نتجرع نحن مرارة ولسعات كوابيسهم القاتلة وما أغبانا إذ صدقناهم يقيمون الليل بالدعاء لأجلنا ونسينا بأنهم استودعوا أمالنا وأحلامنا أمانة في أرحام عاهراتهم المستترات بلباس الجهاد في سبيل الله والوطن .

ألا ترى أن الكل راحل الى هناك … أتراه الى حتفه ؟ … أو ربما إحساسهم بالجفاف وعدم الاهتمام هو السبب … فمأساتنا بدأت عندما أضعنا معنى الحب وحينما توقف القلب عن النبض .

لا ضمان في العودة الى البيت في مدينتي …لا ضمان لرؤية جسدي يأكل ويشرب وينطلق من جديد فالأنسان في مدينتي أصبح مجرد هدف متحرك ينبغي أقتناصه وقتله بأحدث الطرق المبتكرة .

وحتى متى يستمر بنا الحال على ماهو عليه ؟ ما من مجيب …الكل يركض باتجاه مختلف وراض تماما عن توقف دوران عقارب الساعة… وأنا وحدي أصرخ بصمتي … ما أبشعه من آلم ذاك الذي يعتصر معدتك ويتغلغل إلى قلبك ثم يصعد ليغتال حنجرتك ولا تقدر أن تعبر عنه إلا بابتسامة وغصة خانقة .

هل من تفسير منطقي على هذا الواقع المر المكتوب لنا أبدا ؟

يجيبني صوت الصحفي : – الحرب لن تنتهي هنا …. لأن السلام تجارة غير مربحة … أسف لأني أيقظتك !

مرت لحظة سكون وتحد , أحس بأن الأحداث بدأت تغلي وتدور من حولي … تدور … وانا في المركز

كل شي يدور ويختفي …تختفي الجثث … يختفي الموت … يختفي الصباح … يختفي الشارع والزحام وتختفي الصحافة … ويختفي وجه الصحفي ….لاشيء

أصبح الظلام يغطي كل شي حولي … الا أنا

فأنا بقعة ضوء ساطعة لوثت وجه الظلام .