المترجمة”سحر احمد” الحاصلة على درجة الماجستير في اللغة الانكليزية/ كلية الآداب – جامعة البصرة.سبق لها و أن قدمت “كتاب التساؤلات” لبابلو نيرودا / دار أزمنة-عمان 2006 ، و”مائة قصيدة حب” لنيرودا أيضاً، عن الدار نفسها عام 2009 . و”رحلة إلى سالتو” حكايات/ لـ”ثيرثه مايا” البصرة 2011، وترجمةً لبحث الناقدة الانكليزية (تيري دي يانغ) المعنون “قراءة جديدة.. لأنشودة المطر” البصرة-2012. وهو قسم مستل عن دراسة مطولة في شعر بدر شاكر السياب لـ(تيري) التي ذكرت بأن: قصيدة “أنشودة المطر” علامة بارزة في الشعر العراقي- العربي الحديث، وفي التطور الشعري للشاعر السياب، إذ جمعت قصيدة (أنشودة المطر) بين حنين السياب إلى وطنه، العراق، حينما كان مهاجراً إلى الكويت، جراء مطاردة الشرطة السرية الملكية له، كونه شيوعياً حينها. وقد تمكن السياب في قصيدته تلك من الربط شعرياً بين حنينه المتواصل لوطنه، وتطلع الشعب العراقي إلى مستقبل أفضل”(ص23) . الشاعر” بدر شاكر السياب” استطاع بما امتلكه من قدرات شعرية غنية أن يعبر عن ذاته القلقة المعذبة وأن يحول بعض تجاربه الحياتية الشخصية والسياسية، المُخفقة، إلى نصوص شعرية متألقة، وأن يضع قريته (جِيكَور)” النائمة.. في ظلام السنين”وحكاياتها الخرافية وما تنطوي عليه من”ميثلوجيا” محلية وخصوصية جنوبية، وشخصياتها الفلاحية ورعاتها، ونهرها الصغير (بويب) في قلب العالم المعاصر والحداثة الشعرية العراقية- العربية, كما تجاوز السياب ،منذ منتصف خمسينيات القرن الفائت، ذلك إلى نبض الأحداث التي كان يمور بها العالم العربي وشعوبه. مؤخراً قدمت السيدة “سحر احمد” ترجمتها لـ”البحرُ والأجراس”* قصائد/ لـ”بابلو نيرودا”.لم تكتب المترجمة مقدمة للكتاب، لكنها تفضلت وخصتني بما يلي حول “البحر والأجراس”: بعد وفاة نيرودا عام 1973 وجد بعض المقربين جداً منه حوالي(7-8 )مجاميع شعرية على طاولته وكانت جميعها جاهزة للطبع، فعمدوا على نشرها بالتتابع بلغتها الأم ، ومنها ” البحر والأجراس”، وترجم إلى اللغة الإنكليزية عام 1988 ثم تم إعادة طبعه عام2002 وان ترجمتها اعتمدت الطبعة الأخيرة منه ، وستسعى مستقبلاً لتقديم باقي تلك المجموعات الشعرية. يذكر “فرانشسكو فيلاسكو”، أقرب أصدقاء “نيرودا” وكان ملازماً له خلال مرضه وفي لحظاته الأخيرة : “حينما اشتدت وطأة المرض على نيرودا، كنا نقضي الساعات الطوال نتحدث بجوار البحر وفي أحد الأيام، سألني فجأة سؤلاً غريباً. كان فحواه : فرانشسكو، هل تؤمن بالتناسخ!؟. دهشت لان السؤال لم يحضر بيننا من قبل طوال سنوات علاقتنا!. أجبته: لا ادري..ما رأيك أنتَ؟. أجاب نيرودا بوهن: حسن، ربما.. لكن إن كان لابد، فبودي أن أكون طيراً، ربما نسراً!”. يواصل “فرانشسكو”: بعد موت نيرودا بأشهر، كنت عائداً إلى بيتي ،حينما اتصلت مدبرة منزل نيرودا، لتخبرني بوجود طير في البيت!؟. كان البيت مقفلاً منذ أشهر. وعندما ذهبنا، أنا وزوجتي، للمنزل، وهناك رأينا فرخ نسرٍ يجثم بين الأثاث المتروك، وينظر إلينا بحدة” !؟. تهدي” سحر أحمد” ترجمتها إلى القاص والروائي والصحفي والمراسل الحربي “جمال حسين علي”، المقيم خارج العراق، متمنية أن يصدح صوته ” في عالم أكثر طيبةً، وأكثر عدلاً..!”. ولد “نفتالي رييس” عام 1904 لكنه قرر أن يختار اسمه الشعري (الثاني) ما أن تعلقت روحه بقول الشعر واطلاعه على أشعار الشاعر التشيكي (جان نيرودا) الذي يختلف معه كلياً في توجهاته الشعرية والحياتية والفكرية، لكنه يحترم ويعتز كثيراً بشاعريته ، وكما ذكر عنه التشيكي “يوليس فوتشيك” الكاتب والقاص والمسرحي والصحفي ورئيس تحرير صحيفتــي (رودي برافو) و(تفوريا)، والمناضل ضد الفاشية والظلم الاجتماعي، في وصيته ليلة إعدامه: “أوصي بمحبتي لجان نيرودا.. وأرجـو المؤرخ الأدبــي الــذي سيأتي، في المستقبل، أن ينصف شاعريته الفذة والكبيرة..انه أعظم شعرائنا ممن ظلوا يستشرفون المستقبل أبعد منا”. اصدر نيرودا خلال حياته أكثر من( 35)عملاً شعرياً في مقدمتها عمله الملحمي ” النشيد العام” وثمة تراجم له باللغة العربية حمل بعضها اسم “النشيد العظيم” و”النشيد الشامل”.بعض النقاد العالميين يعدونه بمثابة “أوديسا القرن العشرين” بما احتواه من توجهات شعرية، استمدها من الواقع، الشيلي، وتاريخ شعوب العالم ، ليرتقي ، نيرودا بهما، عبر إمكاناته الشعرية العظيمة إلى ما يهم الإنسان في كل مكان وزمان. ” نيرودا ملهج ألسنة الناطقين بالاسبانية، ومهوى أفئدة المُعَذبين المُضْطَهدين في العالم ، تعلق بهم وتعلقوا به، وكاشفهم بلغة الشعر الإنساني العظيم عن بغضه لاستغلالهم ، وتوقه لتحريرهم مما يعانون من فجائع و بؤس يومي وإذلال وإهمال تاريخي..قصائده تجمع بين حلاوة الشكل وطراوته وصدق المضمون”- سعد صائب. ذهب نيرودا في شعره وكتبات مذكراته إلى الواقع المعيش والكشف عن حقيقته من خلال اعتناقه الفكر الاشتراكي العلمي، دون تعصبٍ، بل إيماناً بهدفه في الذود عن حياة الإنسان وكرامته وحريته وسيادة العدل والمساواة الإنسانية في الحياة ، مؤمناً بشدة وقوة لم يتنازل عنهما قط في دعوة ومنهج “كارل ماركس” ، وكرس حياته كلها لهذه المبادئ التي كانت بين يديه شعرياً أداة بارعة وملهمة وطيعة وخلقت له جاذبية محلية وعالمية ، كونه وعبر منهج (كارل ماركس) التاريخي تحصن بسعة أفق لا جدال فيه، نائياً عن سلالات وأحفاد ماركسية دوغماتية منغلقة ، ونيرودا عمل فعلياً وشعرياً إلى السعي على إزالة الفوارق الطبقية بين البشر، بغض النظر عن المكان والزمان والدين والجنس والعرق، وفي الحياة ذاتها و الأرض التي يحيون عليها، لأنهم يعيشون و يصنعون تاريخهم عليها. حصل نيرودا على جائزة ” نوبل للآداب” عام 1971 بعد مواطنته الشاعرة التشيلية الكبيرة “غبرييلا ميسترال”. منذ الخمسينيات شغف القارئ والمثقف في العالم العربي ، نتيجة القوة والفعالية السياسية والتوجهات الثقافية التقدمية لليسار العربي ، الماركسي تحديداً، بشعراء عالميين كبار منهم ” أراكون وايلوار وناظم حكمت وبابلو نيرودا وبريخت ووالت ويتمان ومايكوفسكي.. وغيرهم”. كان هذا في الشعر وكذلك في القصة والرواية والمسرحية نتيجة تقديم تراجم عدة ،لا تحصى، لهم ولغيرهم في اللغة العربية. وهذا كان في فورة نهوض حركة تحرر الشعوب العربية ، سلاحاً فعالاً ،حينه، لكسب أجيال من القراء ومن المثقفين الشباب وانحيازهم لهذا الجانب ، وفي أولى مهماته وتوجهاته التحرر والعدالة الاجتماعية والسلام بين الأمم. لكن ما هو جدير بالملاحظة أن هؤلاء على كل إمكاناتهم الهائلة الشعرية والثقافية والروائية قُدموا فقط من وجهة نظر اجتماعية ونضالية- سياسة بالدرجة الأولى، دون النظر إلى ما أنتجوه من أشكال فنية ومتميزة، في الشعر والقصة والمسرحية والرواية. في مذكراته “بابلو نيرودا.. اشهد أنّني قد عشت” التي ترجمها عن الاسبانية الدكتور محمود صبح/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت- ط1 – حزيران1975 ،نكتشف وجهاً آخر غير الذي وصلنا عن (نيرودا)، ثمة عاشق حقيقي لكل ما في الحياة، صداقات، أفراح، أحزان،مغامرات الطلبة الشباب وما يرافقها من تحد وبوهيمية وعوز دائم ، خصومات،أساطير وحقائق.نضال عنيد متواصل مع الجمهوريين الأسبان:”كانت العصابات تتكاثر في ليل مدريد الأعشى،والشيوعيون هم القوة الوحيدة المنظمة التي خلقت جيشاً لمجابهة الألمان والايطاليين والمغاربة ورجال الكتائب. لكن الشعر لم يمت ، إن للشعر لأرواح القطة السبع ، قد يزعجونه ، قد يجرجرونه،ويجرحونه، و ينفونه،قد يفرغون فيه أربع طلقات، لكن الشعر يخرج من هذه الحوادث العرضية بوجه نقي وبابتسامة من أرز(…) ثمة (اسبانيا في القلب)،والكيفية التي صدر بها . إذ نصب “مانويل التولاغره” مطبعة وعَلمَ الجنود في حمأة المعركة بالجبهة الشرقية، كيفية الطبع، أظن أن كتباً قليلة جداً في تاريخ الكتب الغريب، كانت لها مثل ما كان لهذا الديوان من مخاض عجيب ومن مصيرٍ غريب. وأضاف بان “أسبانيا في القلب” كتاب عصيّ على الفهم. لكن له طموح إلى الوضوح وهو مغموس في زحمة تلك الآلام الكبيرة المتعددة.ميغيل ايرنانديث تحولّ من راعي عنز إلى مناضل فعلي، كان ينشد أشعاره وهو في الزيّ العسكري في الخط الأول من المعركة النارية-المذكرات.فيدريكو لوركا واغتياله في غرناطة. “الناجي من الموت رفائيل البرتي، إلف ميتة أعدت له..لكنه ذلك الذي جبل قلبه من نار الأعناب وهدير الموج، وهو الذي ينشد القصائد في الثكنات وفي الجبهات، لقد اخترع الحرب الشعرية ضد الحرب الفعلية ، خلقَ الأغاني التي راشت ورفرت تحت قصف المدافع ، ثم راحت تحلق في كل سماء وفوق كل ارض.” – المذكرات. والخروج من اسبانيا للبحث عن شهداء أو منفيين منكسرين. وحياة الدبلوماسي التي يرى أنها لا تليق به، ففضل عليها، حياة المنفي وعوزه الدائم ، والاحتفاظ حتى الممات ببطاقة عضوية الحزب الشيوعي الشيلي.عمال المناجم والفقراء من المزارعين، والمنبوذين والذين على الهامش دائماً، أحبوا وأجلسوا نيرودا في المقعد النيابي ، بصفته صوتهم المدوي وحارس مصالحهم الأمين، كل ما عرفه وعاشه وقابله نيرودا من حياة بهيجة وخصومات فكرية، وفاقة وأسفار متواصلة. يعبر نيرودا بصدق تام ،عن نبالة وإنسانية، خصمه من أصحاب التوجهات اليمينية وغلاتها ، وكان برلمانياً مثله وبعد نزع الحصانة البرلمانية عن”نيرودا”،وصوتَ الإقطاعي نفسهُ بحماسٍ عليها ، لا بل هو من تبناها، ومع علمه بأنه من أشد المطلوبين وبقوة في شيلي، لكنه حينما اكتشف أن نيرودا يختبئ وبمساعدة بعض الفلاحين ، في إقطاعياته الشخصية الشاسعة ،غض النظر عن تواجده فيها ، وتم تهريبه منها عبر البحر، خارج شيلي. ثمة نساء عدة عاش معهن وندم على فراق بعضهن ، وأخريات عرفهن في شتى البلدان ، والأهم منهن كلهن:
“ماتيلدا
هي الوحيدة
التي تستجيب لهذا الاسم
من شيلان،
وحتى لو أمطرت
أرعدت أو ثارت،
النهارُ بشَعره الأزرق
أو الليل الناعم،
هي
التي تمضي وتمضي،
حاضرةً لجسدي،
لفُسحَةِ جسدي،
فاتحةً كلَّ النوافذ على البحر
حتى تطيرَ الكلمةُ المكتوبة،
حتى يُملأ الأثاثُ
بعلاماتٍ صامتة
بنار خضراء”.(ص 15 -16)
يؤكد نيرودا خلال مرضه، وفي (البحر والأجراس) للناس ولأصدقائه وللعالم في كل مكان:
“صورُ الموتِ الكثيرة التي تُحدّدُ وجهي
تُنْبئُ بعدم موتي،
لا أقدر على الموت.
**
أصدقائي،
أنا لا ارحل،
أنا من أكيك،
من كروم بارال السود،
من مياه تيموكو
من الأرض النحيلة
باقٍ وأبقى”.(ص10 -52 )
ويعاين نيرودا ، بعين ذلك النسر الذي تمنى أن يكونه ، لكنه، الجريح والمهضوم خلال محنة،شيلي، وطنه،و مقتل صديقه الحميم الرئيس المنتخب شرعياً ،”سلفادور اللندي”:
“اجل يا رفيق، إنها ساعةُ الحديقة
وساعة المعركة، كلُ يومٍ
ينبعُ من الزهور أو الدم :
عصرنا أجبرنا على
أن نروي الياسمين مكبلين
أو ننزف حتى الموت في شارع مظلم