على مدى العقدين الماضيين، حظيت جمهورية مصر العربية بأهتمام واضح، وربما استثنائي، من قبل رؤساء الحكومات العراقية الذين تعاقبوا على ادارة شؤون البلاد خلال العقدين الاخيرين، ومع مرور الوقت كانت مساحة الاهتمام والتواصل تتزايد وترتفع وتيرتها ارتباطا بالكثير من التغيرات والتحولات في العراق ومصر وعموم المنطقة، بحيث باتت القضايا والملفات الثنائية بين بغداد والقاهرة متشابكة ومتداخلة مع مجمل القضايا والملفات الاقليمية، من قبيل القضية الفلسطينية، ومشاريع التطبيع مع الكيان الصهيوني، وسبل مكافحة الارهاب بشتى عناوينه ومسمياته واشكاله وصوره ومظاهره، والهواجس والتحديات الاقتصادية، والازمات الاقليمية في سوريا واليمن وغيرهما، والموقف من الحصار والعقوبات المفروضة على الجمهورية الاسلامية الايرانية، وغيرها.
ولم تخرج الزيارة الاخيرة لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني للقاهرة عن سياق مجمل الزيارات السابقة لاسلافه، سواء مصطفى الكاظمي، او عادل عبد المهدي، او حيدر العبادي، او نوري المالكي، فضلا عن زيارات عديدة لوفود سياسية وامنية واقتصادية رفيعة المستوى، قابلتها زيارات لشخصيات مصرية مماثلة، تكللت بزيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للعراق في اواخر شهر حزيران-يونيو من عام 2021 للمشاركة في القمة الثلاثية العراقية-الاردنية-المصرية، وكانت تلك الزيارة الاولى لرئيس مصري منذ ثلاثين عاما، بعد زيارة الرئيس المصري الراحل حسني مبارك للعراق قبيل غزو صدام حسين لدولة الكويت صيف عام 1990.
وتأريخيا، على امتداد عقود من الزمن، شهدت العلاقات العراقية-المصرية تقلبات كثيرة ومنعطفات كبيرة، لعل ابرزها القطيعة الكاملة في اواخر سبعينيات القرن الماضي، بعد ابرام الرئيس المصري في ذلك الحين محمد انور السادات معاهدة سلام مع الكيان الصهيوني برعاية الولايات المتحدة الاميركية، والتي عرفت بأتفاقية كامب ديفيد، لتعود المياه الى مجاريها واكثر من ذلك، بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، واندلاع الحرب بين الاخيرة والعراق، واغتيال السادات. وكان النظام العراقي حريصا ومهتما الى حد كبير بأعادة علاقاته مع القاهرة في اطار مساعيه المحمومة لحشد المواقف العربية والدولية المساندة له في حربه ضد ايران، ولم تكن المغريات التي قدمها للنظام المصري حينذاك قليلة من الناحية الاقتصادية، اذ انه فتح سوق العمل العراقي على مصراعيه للعمالة المصرية، ليدرّ ذلك على الاقتصاد المصري موارد مالية طائلة كانت القاهرة بأمس الحاجة لها.
ويشير بعض الباحثين الى “ان العلاقات المصرية العراقية كانت حتى حرب الخليج الثانية في عام 1991 تسير سيراً متميزاً على مختلف الأصعدة، ومع بقايا المناوشات بين المشروعين الناصري والبعثي، كما كان العراق في غاية الأهمية بالنسبة للاقتصاد السياسي المصري، إذ كان الوجهة الأولى للعمالة المصرية المتجهة للخارج بحثاً عن الأمل والعمل في ظل سياسات الانفتاح الاقتصادي الساداتي التي قضت على فكرة مسؤولية الدولة عن التوظيف والتشغيل الكامل للقوى العاملة”.
وفعلا لم يدم الحال طويلا، فما ان وضعت الحرب العراقية الايرانية اوزارها، وراحت تتبلور مقدمات غزو الكويت وحرب الخليج الثانية، حتى انقطعت خيوط الوصل بين بغداد والقاهرة مجددا، بسبب معارضة الرئيس المصري مبارك للغزو وانخراطه في التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة الاميركية لاخراج الجيش العراقي من الكويت وتحريرها. وبقيت الامور على هذه الحال الى ان اطيح بنظام صدام في ربيع عام 2003.
ومع ان مصر لم تدعم وتؤيد النظام السياسي الجديد في العراق بالقدر المطلوب، الا انها لم تتخذ مواقف سلبية معادية تجاهه، كما فعلت بعض الدول العربية والاقليمية، ولم تتبن دعم واسناد وتمويل الجماعات والتنظيمات الارهابية المسلحة التي ظهرت بقوة بعد خضوع العراق للاحتلال الاميركي واختلاط الاوراق فيه، وربما تكون قد دفعت ثمنا جراء مواقفها المتوازنة، وذلك بأغتيال سفيرها في بغداد ايهاب الشريف عام 2005 من قبل تنظيم القاعدة الارهابية، علما انه كان اول سفير لدولة عربية هناك بعد سقوط نظام صدام.
ونجحت مصر في المحافظة على مواقفها المتوازنة مع العراق، رغم الكثير من الضغوطات التي تعرضت لها من قبل اطراف عربية واقليمية، وهذا ما اتاح لها ان تكون احدى المثابات المهمة بالنسبة لاصحاب القرار السياسي العراقي في اطار تكريس سياسات الانفتاح على المحيط العربي والفضاء الدولي.
وفي الوقت الذي انتهجت بغداد بعد تجاوزها العديد من المحطات الحرجة والمنعطفات الخطرة، من خلال هزيمتها تنظيم داعش، وتجنب الوقوع في فخ الاقتتال الداخلي، انتهجت مواقف وسياسات معتدلة ومرنة من اجل تعزيز حضورها في مختلف المحافل والاوساط الاقليمية والعالمية، وتطوير وتنمية اوضاعها الاقتصادية، كانت القاهرة تبحث عن شركاء تستطيع معهم او من خلالهم التغلب ولو على جزء من مشاكلها وازماتها الاقتصادية، ولاشك انها رأت في العراق المتجه الى المزيد من الاستقرار الامني والهدوء السياسي والازدهار الاقتصادي شريكا ايجابيا، وفضلا عن ذلك يمكن ان يكون حلقة وصل وميدان تفاهم وحوار مع بعض الفرقاء والخصوم وهي منهم، وبالفعل فأن بغداد ساهمت في ترطيب الاجواء بقدر معين بين طهران والقاهرة، مثلما فعلت ذلك بين طهران والرياض.
وكما يقال، فقد “حاول الطرفان السيرَ في السياق العالمي لسياسات تحرير التجارة في السلع والخدمات محلية المنشأ في كلتيهما، كما حاولا تعزيز التبادل التجاري وشهدا محاولات عدة للتحالف أو لإحياء تحالفات قديمة على أسس اقتصادية، وحاولت مصر لعب دور ما في سياسات مكافحة الإرهاب، بمحاولة توسيع مفهومه وقوائمه، كما حاول العراق مغازلة مصر لتقديم حاجاتها من النفط بدلا عن اشتراطات بعض القوى الإقليمية”.
ولعل لقاءات الطرفين، سواء على الصعيد الثنائي او على الصعيد الجماعي مع اطراف اخرى، خلال الاعوام الاربعة او الخمسة الماضية، ساهمت في بلورة وتنضيج مواقفهما وتوجهاتهما وفق قاعدة المصالح المتبادلة والقواسم المشتركة. فالى جانب القمم والاجتماعات المتعددة بين الطرفين، كانت هناك قمم ومؤتمرات جماعية، في عام 2020 بالعاصمة الاردنية عمّان، وفي عام 2021 في العاصمة العراقية بغداد، وفي عام 2022 في مدينة العقبة الاردنية، مضافا اليها مؤتمر بغداد الاول للتعاون والشراكة، الذي عقد ببغداد في اواخر شهر اب-اغسطس 2021، وكذلك مؤتمر بغداد الثاني الذي عقد في عمّان نهاية العام الماضي.
لاشك ان العراق يمتلك جملة مقومات وعوامل يمكن ان تجعله من القوى الناهضة والفاعلة والمؤثرة في محيطه الاقليمي، فيما لو تم استثمارها وتوظيفها بالشكل الصحيح، ومن بين تلك المقومات والعوامل، الثروات الطبيعية-النفطية والغازية-الهائلة، وموقعه الاستراتيجي المتميز، وعلاقاته المتوازنة مع مختلف الاطراف، وتجربته الناجحة في مواجهة الارهاب والانتصار عليه.
وخلال الاعوام القلائل الماضية، اخذت تتبلور وتتضح بعض مخرجات ومعطيات تلك المقومات والعوامل، واكثر من ذلك، فأن البرنامج الوزاري للحكومة الجديدة التي تشكلت قبل حوالي خمسة شهور برئاسة محمد شياع السوداني بعد مخاضات سياسية عسيرة، تضمن رؤى وتصورات واقعية وعملية لبرامج وخطط اصلاحية واعدة، لاحت مؤشراتها الاولية خلال الشهور الاولى من عمر هذه الحكومة.
واستنادا الى قراءات استشرافية ذات طابع استراتيجي، راحت العديد من دول المنطقة والعالم تتعاطى ايجابيا مع العراق، ومن بينها مصر ومعها الاردن، باعتبار ان هاتين الدولتين تفتقران الى الموارد والثروات الاقتصادية التي تمكنهما من تحقيق الاكتفاء الذاتي دون الاستعانة بالاطراف والقوى الاخرى ذات الامكانيات الاقتصادية الجيدة.
ولان مصر كانت اول السالكين لطريق التطبيع مع الكيان الصهيوني في نهايات سبعينيات القرن الماضي، ولحقتها الاردن التي ابرمت اتفاق وادي عربة مع تل ابيب في عام 1994، فانه من الطبيعي جدا ان تثار مخاوف وهواجس من قبل بعض الجهات الداخلية والخارجية، حول ذلك الاندفاع المصري ومعه الاردني تجاه العراق، تحت مظلة وغطاء المصالح الاقتصادية المشتركة، حتى ليبدو ان مشاريع التكامل الاقتصادي والسياسي، من قبيل الربط الكهربائي، ومدّ انابيب النفط وتصديره، والشام الجديد او الكبير، لاتخرج عن محاولات ومخططات جرّ العراق الى دائرة التطبيع، لاسيما وان الرؤية الاسرائيلية-الاميركية تقوم على حقيقة ان العراق يعد المحور والمرتكز الاساسي للتطبيع، ومن دونه فأن كل ما يحصل ويتحقق لن يكون مجديا ومثمرا بصورة حقيقية. ولعل اتفاقيات ما سمي بـ”السلام الابراهيمي” التي ابرمت بين تل ابيب وابو ظبي والمنامة برعاية واشنطن قبل حوالي عامين ونصف العام، لم تغير الواقع القائم على الارض في فلسطين، وبقي السلام المزعوم مجرد اماني وتطلعات وطموحات مقتصرة على الكواليس والاروقة السياسية والفكرية والثقافية المحدودة.
قد لايشكل انخراط العراق في مشاريع التطبيع اولوية بالنسبة لمصر، بيد انها يمكن ان تكون اداة ووسيلة بهذا الاتجاه، ونفس الشيء يصدق على الاردن. وهذا تلقائيا يعني استهدافا لايران وعموم جبهة المقاومة، كجزء من عملية صراع المحاور الاقليمية والدولية.
وهنا فأن العراق، سواء بوجود الحكومة الحالية او غيرها، الذي قد يجد نفسه مرغما على ان يتعاطى ويتعامل مع اطراف اقليمية ودولية لاتنسجم ولا تتوافق معه في كل المواقف والتوجهات، ناهيك عن كونها تتقاطع وتتصارع وتتناحر فيما بينها، لابد له ان يحدد ثوابته السياسية ومصالحه الوطنية لكي لايكون جسرا او بوابة لتمرير مشاريع ومخططات الاخرين التطبيعية، وحتى لايكون حلبة لتصفية الحسابات بين الخصوم والاعداء، ولا ميدانا للحروب الدموية العبثية، كما حصل طيلة عقود من الزمن.
لايمكن تجاهل اي طرف اقليمي او دولي، لان ذلك خلاف حقائق التاريخ وثوابت الجغرافيا، بيد انه يمكن صياغة المواقف وتحديد الثوابت مع الجميع، سواء المنخرطين بمشاريع التطبيع او المعارضين والرافضين لها.
————————-
*كاتب وصحافي عراقي