18 ديسمبر، 2024 6:58 م

بغداد تحت مرمى الصواريخ الإيرانية .. ذكريات شخصية (1-4)

بغداد تحت مرمى الصواريخ الإيرانية .. ذكريات شخصية (1-4)

كان العام 1985, أحد الأعوام المفصلية في تاريخ حربنا الدفاعية العادلة مع العدوالإيراني الفارسي, ففي شهر آذار منه, قُصفت بغداد بالصواريخ للمرة الأولى منذ بدء الصراع. وسقط الصاروخ الأول على بناية مصرف الرافدين في شارع الرشيد, وهي واحدة من أجمل البنايات في بغداد وأعلاها, صمّمها الـمـعـمـاري الإنـكـلـيـزي (فـيـلـيـب هـيـرسـت),وأُنجزت في مـنـتـصـف خـمـسـيـنـات الـقـرن الـمـاضي.
ذهبت الفرضيات الأولى, على إنها عملية تفجير من داخل المبنى, ولكن بعد أيام قليلة, انجلت الحقيقة, عندما سقط صاروخ آخر على أرض خالية عند أحد مداخل منطقة القصر الجمهوري, يُسمّى؛(بوابة القدس), بالقرب من مبنى(الزقورة), ويبعد عن مبنى القصر الجمهوري حوالي نصف كيلو متر, وهذا أقرب صاروخ استهدف القصر الجمهوري, إضافة لصاروخ آخر سقط ليس بعيدا عنه, على بيوت سكنية في كرادة مريم؛(حي التشريع). أما بقية الصواريخ فقد سقطت في أماكن بعيدة, وقسم كبير منها وقع في بساتين الدورة, ولكن بعضها استهدف أحياءاً سكنية في أماكن متفرقة, وحصلت هناك تضحيات بشرية محدودة, وكانت الخسائر مادية في معظمها, وليست كبيرة. عكس ما كان يروّج له إعلام الكذب والدجل في طهران, والذي يتصّور, من يسمع إفكهم ومبالغاتهم, حينذاك, إنهم دمّروا نصف بغداد !!.
كنت حينذاك, ضابطاً في الحرس الجمهوري الخاص المكلّف بأمن بغداد. وكنّا عند سماع دوي انفجار الصاروخ, نتحرك فوراً إلى موقع السقوط, لرفع موقف الى مراجعنا العسكرية, بدلالة الدخان والأتربة والحرائق أحيانا, التي ترافق انفجاره عادة. وأحياناً, نستعين بمعلومات دوريات شرطة النجدة المنتشرة في بغداد.
القصف الصاروخي الإيراني, يقع في الغالب في الهزيع الأخير من الليل, لأن الصاروخ يتطلب وقتاً للتحضير قبل إطلاقه, فالإيرانيون يستغلّون أوقات الليل لذلك, تحسباً من رصد تلك العملية من قبل صقور الجو العراقيين الأبطال, الذين جعلوا من بلاد فارس ملعباً لهم, وصاروا يتمتعون بتفوق جوي ساحق, بعد أن أحالوا سلاح الجو الإيراني على(التقاعد المبكر)!!, وصار خارج الخدمة تقريبا.
كان صوت انفجار الصواريخ مرعباً وخاصة في الليل, ويزداد الصوت علوّاً وتنتشر شظاياها لرقعة أوسع, إذا كان سقوطها على أرض صلبة, أما إذا سقطت على أرض رخوة, فإن تأثيرها يكون ضعيفا, ويخلّف حفرة عميقة في الأرض, ويعقب الإنفجار مباشرة, عصف قوي يمتد لمئات الأمتار, وقد يتسبب بتكسير الزجاج وخلع الأبواب. ومما لاحظته هو عدم دقة تلك الصواريخ جميعا, فلم يُصِب أيُّ منها الأماكن التي كانوا يعلنون استهدافها, كالقصرالجمهوري, ووزارة الدفاع, ومعسكر الرشيد, إذ كانت نسبة الخطأ تصل إلى 5-8 كم, أحيانا!!.
سأستعرض مايلي معلومات عن بعض تلك الصواريخ التي أصابت بغداد, وفق معلوماتي الخاصة, كشاهد من الميدان:
1.سقط صاروخ على ملعب الكشافة قبيل شروق الشمس بقليل, وأصاب المدرج الشرقي المقابل للمقصورة, ودمّره جزئياً. كنت أول الواصلين للمكان, ووجدت حارس الملعب مرتعباً, وذكر لي؛ إنه كان نائماً على سرير حديدي في مضمار الملعب المكشوف من جهة المقصورة, ولا يفصله عن موقع سقوط الصاروخ سوى بضع عشرات من الأمتار, وإنه استيقظ فزعاً على صوت الانفجار والحجارة التي انهالت عليه كالمطر, ولكن رحمة الله أدركته, ونجا من موت محقق, ولم يُصب بأيِّ أذى.
2. سقط صاروخ ثانٍ على بيوت سكنية في شارع الرشيد عند منطقة السنك, حوالي الساعة العاشرة مساءاً, وتسبب بحريق وأضرار مادية.
3. سقط صاروخ آخر بعد منتصف الليل, على عمارة سكنية قرب ساحة الطلائع وعلى مقربة من جسر باب المعظم, وأوقع عدداً من الضحايا, ودُمّرت العمارة جزئياً, وأذكر إن إحدى النساء قد علقت بأشلاء شقتها المدمرة وهي تستغيث, وقد تمكنت مفارز الدفاع المدني من انتشالها ونقلها للمستشفى, وكانت إصابتها بسيطة.
4. وسقط صاروخ على مساكن للمواطنين, عند رأس جسر الجمهورية الشمالي من جهة الكرخ ,على حي قديم يقابل السفارة الإيرانية, تمت إزالته لاحقاً وأُنشأ متنزه مكانه, وقد سقط عدد من الشهداء والجرحى, إذ كان سقوطه ضُحىً, على عكس المعتاد.
5. وسقط صاروخ في ساحة فارغة خلف كلية الهندسة في باب المعظم, محدثاً حفرة عميقة, ولكن لم يتسبب بأي أضرار أو خسائر. ولولا لطف الله سبحانه وتعالى, لحصلت مجزرة بسببه, إذ إن المنطقة المحيطة بها مزدحمة بالبشر, وتضم عدداً كبيراً من المدارس والدوائر والكليات والأسواق, وسقط في وقت الذروة, وفي منتصف النهار تقريبا.
لم يكن العراق حينذاك, قد امتلك الصواريخ التي تطال طهران, لذلك كان الرد العراقي المقابل على القصف العدواني الإيراني لبغداد, يتم من خلال قصف جوي مركّز على وكر الدجل والنفاق, باستخدام طائرات الميغ 25 متعددة الأغراض, وهي طائرة متفوقة من حيث السرعة والارتفاع والحمولة والمدى, وذات مواصفات فنية متطورة. وكان القصف يحدث في الغالب ليلا, لإحداث نوع من التأثير النفسي. وأذكر إن وكالات الأنباء الأجنبية كانت تنقل تقارير لمراسليها في طهران, تُظهِركيف كان تأثير القصف العراقي مدمِّرا, وكان الآلاف من الإيرانيين يصطفّون بسياراتهم في طوابير طويلة, ما أن يرخي الليل سدوله, باتجاه الجبال المحيطة بطهران, هرباً من القصف الليلي العراقي, ليعودوا صباحا إلى منازلهم داخل المدينة, وقد علا وجوههم الإرهاق, وبانت عليها الكآبة.
ونتذكر تلك اللقطة المخزية لـ(خامنئي), رئيس جمهوريتهم(الّا إسلامية), عندما تقع غارة جوية عراقية على(عاصمته)!! التي لم تعصمه, تزامناً مع (صلاة الجمعة) في جامعة طهران, فيفرُّ الدجال الصغير مذعوراً لا يلوي على شيء, تاركاً منبر الصلاة !!. لقد كانت أياما مفعمة بالعزّة والاقتدار, رغم صعوباتها, يوم كانت هناك دولة شامخة, اسمها؛(العراق), يحترمها الصديق, ويهابها العدو. وشتان ما بين اليوم والأمس.
في المقال القادم, إن شاء الله, سأتطرق للدولة العربية التي زوّدت إيران بالصواريخ, مع شهادات موّثقة لمسؤولين كبار ووزراء ومستشارين, كانوا على صلة بهذا الموضوع المهم.