كأنك امام مخطط مرسوم معد سلفا لأن لا يبقى في العراق شيئا يربطه بماضيه ، او يبقي لامتداده التأريخي خيطا يدلل على ما كان عليه هذا البلد المتلى بمن سلطته امريكا لان يعبث فيه ويقطع اوصاله الحضارية والبيئية ، ومنذ السقوط والمناطق الخضراء تتأكل ، وبغداد تنكفئ على أعمار عشوائي لا تنسيق فيه ولا رائحة للحضارة تنم عليه، فبفعل نهم المسؤولين الجدد ، فبفعل ضعف وتبعية مدراء البلدية في بغداد تحولت العاصمة الى بلدة تكثر فيها العشوائيات وتزداد فيها التعديات على الشوارع والمناطق السياحية والاثرية ، وتقل فيها المناطق الخضراء بعد أن زحف عليها الاستيلاء تدريجيا من قبل أولئك المتنفذين ، وتم بالمقابل الاستيلاء على المناطق والمساحات الفارغة والتي كانت ستبنى عليها المدارس او رياض الاطفال ، او كانت عائدة لمصالح حكومية ، وذات نفع عام ، او تم الزحف على اسييجة المنشأت الحكومية ، وبيعت على شكل اراض سكنية ، او تم التعدي على المساحات المتروكة لاغراض الضغط العالي للكهرباء لتحول الى اسواق او ورش تصليح او محطات غسل السيارات ، وتعديات اخرى لا حصر لها حتى اصبحت مدينة بغداد عاصمة العراق ترزح تحت رحمة كل من هب ودب ، وصارت صورة مشوهة بلا الوان ولا توحي الى الناظر انها مدينة تعيش في القرن الحادي والعشرين ، ولا نود هنا ان نبخس الامانة جهدها ، ولكن بعض مديرياتها العامة لا تفعل الا جني الرسوم وجمع الاتاوات بل وتجاوزا للقانون بعض الضرائب ،
ان من عاش في بغداد منذ الأربعينات يحس بوطأة التغيير المعاكس لمنطق الحضارة ، فلم يكن يسمح مثلا للبنجرجي ان يعمل في الأحياء السكنية او الشوارع التجارية ، ولم تكن لتجد حداد في ثنايا المحلات او حتى الأزقة ، ولم نعتد أن نجد رصيف مستغلا لغير أغراض المشاة ، وكان الناس هم من يتعاون مع البلديات وكانت النساء تنظف الازقة ، وكانت الازبال تجمع من قبل سيارات البلدية دون رسوم حتى وان لم تكن رسوما مقرة اداريا. انني بهذا اردت ان اذكر لبسبب واحد إلا وهو لماذا كل هذا الإهمال لهذه المدينة ،
أننا لا نلقي اللوم على السلطات فقط ، فالمواطن لم يعد ذلك المواطن الذي يحب مدينته ويحرص عليها ، كان المواطن اليوم يشعر انها لا تمت إليه بأي صلة وإلا لماذا كل هذا التعدي على مرافقها العامة، وخاصة المناطق الخضراء التي كانت موضع جمال المدينة وسبب في تلطيف اجوائها . المسؤول مقصر والمواطن هو الآخر مقصر ولا تجد شعبا في العالم يتطابق فيه المسؤول مع المواطن في موضوع غاية في السوء إلا وهو العبث بكل إصرار بما هو مناسب للذوق وحسن الاختيار….