وقفت أتأملها وقد إمتلأ وجهها غضونا وتجاعيد وأحدودب ظهرها بفعل مرارة السنين، غرقت وأنا انظر في عينها في بحر لا متناهي من الدموع، مع ذلك كله فما زلت أراها الأجمل ولا أرى من يضاهيها جمالا، وأناقة فهي الغادة بين قريناتها، لم يعتد أحد سابقا رؤيتها بالسواد، أما الان فكل ملابسها سود محمرة، هي الحرة الأصيلة ذات الحسب والنسب التي ظلمها أهلها وزوجوها إلى ملك من العبيد، فأسكنها بعد القصور كوخا، لا نوافذ له ولا أبواب وسط غابة من الذئاب الجائعة.
إعتادت كل يوم مراقبة هذه الوحوش تدخل كوخها البائس، وتلتقف أحد أبنائها الجياع لتأكله أمام ناظريها، فتندب وتصرخ وتبكي دما ولا مجيب، فتجمع رفاته وتدفنه بيديها مع أخوته الذين سبقوه في باحة الكوخ.
بعلها مخمور بلا خمر، لا هم له في الدنيا إلا ظلمها وسرقة ثرواتها، يضحك لبكائها ويتلذذ بذلها وحزنها على أولادها، قلما يرى أهل بيته الكسوة والطعام.
لا أستطيع تخيل حالها فقد قيل أن الرجل يشيب بمجرد وفاة أمه، فما بال الأم التي تلد وترضع وتربي وتزق أولادها الحنان زقا، ليذبحوا بدم بارد أمامها بلا رحمة ؟ أكاد اجزم أنها تتمنى أن تسبق رفاتها أبنائها تحت الثرى.
أصبحت كسعفة نخل في مهب الريح، لم أتحمل ما أراه، تمنيت لو كانت لي المقدرة على مقابلة ولي أمرها، لخاطبته صارخا: يا هذا ألا تعلم من هي؟ ألا تعلم كم من الشعراء تغنى بمفاتنها وخصالها؟ وكم من الملوك والأمراء طلب وصالها؟ أنها بغداد يا ظالم ، بغداد العلم والمعرفة، بغداد الحضارة، بغداد الكاظمين، عاصمة العالم المنكوبة، التي لم يعد يرى منها الآن سوى الدم والدخان