18 ديسمبر، 2024 6:37 م

بغداد ، دعوها تتنفس فهي السلام من تنوعها

بغداد ، دعوها تتنفس فهي السلام من تنوعها

غالبا ما كانت مدينة بغداد ضحية الصراعات السياسية والغزوات والاضطرابات الاجتماعية . لكن من النوادر في تاريخ هذه المدينة ان يخطئ حاكمها في اصدار فرمان يوجع تركيبتها ويقض مضاجع اهلها الذين طالما تفاخروا ان مدينتهم تسمى ( بغداد السلام ) .
تسريبات ،نتمنى الا تكون صحيحة ،حكت عن مقترح على طاولة الحكومة يدعو الى اعداد مشروع قانون يقضي بمنع العراقي من التملك في بغداد مالم يكن مسجلا في سجلاتها المدنية  لغاية عام 1957 .
المصادر التي نقلت هذه المعلومات ، ذكرت ان المبررات المساقة في ذيل المقترح تنطلق من مسعى هدفه الحد من تزايد سكان العاصمة ، بعد ان عجزت جميع الحكومات منذ عام 1963 في وضع استراتيجية تنموية للعاصمة قادرة على استيعاب التمدد  الحضري والتضخم السكاني المتواصل الى الان .
والانطباع الاولي حيال هذه المسوغات هي انها (بريئة ) ولا تنطوي على نوايا ذات مغازي بعيدة المدى غايتها احداث تغيير ديموغرافي في مدينة السلام .
اما من الانطباع الثاني ، نفهم ان جميع حكام بغداد  ومنذ تاسيس الدولة عام 1921 لم تكن لديهم حكمة حكام بابل الذين اخبرتنا آثارهم قبل 3700 عام بانهم صمموا خرائط توسعة وعبدوا الطرق وفتحوا سواقي امدادات المياه وذلك باطوال ومساحات تزيد على حاجة سكان بابل بعشرات الاضعاف !!
اليوم ، واضح ان السيد محمد شياع السوداني مذهول لاحجام النقوصات والتخلف في البنى التحتية لمدينة بغداد ولسان حاله (( ترى مالذي كان يفعله زملائي السابقين وسابقي السابقين ))؟!!
وإزاء هذا التخلف البنيوي طولا وعرضا ،يطفو الى السطح شعور بالعجز وقليل من اليأس لدى الوزارات الفنية واركان الحكومة المحلية في بغداد  .
وامام هذا الشعور غير المقبول وغير المبرر اذا احتكمنا الى اموال العراق الثري والعقل والخبرة … ،يخشى ان تلجأ فئة معينة في منظومة النظام السياسي الى استغلال هذه الثغرة لطرح مقترحات اغلاق بغداد و يكون ضحيتها التنوع المجتمعي المذهبي والاثني في مدينة السلام ، وهنا ياتي تحذيرنا من غفلة الخطأ الكارثي للحاكم رغم النوايا الفنية والاحصائية والتقنية البريئة .
وبتقديري ان خطأ من هذا النوع ، قد يكون مستوعبا اذا كان العراق ونظامه  في وضعية راسخة وثابتة وفي محيط اقليمي آمن وضامن لاستقرار بلدنا .
ولاحظوا معي ان حالة اللاتوازن السياسي والامني للدولة وللنظام والاقليم ، من شأنها ان تجعل من خطأ كهذا يمس التركيبة المجتمعية في العاصمة بغداد ، تجعله كارثة يصعب استيعابها لعشرات السنين ، وستؤثر عميقا في التراكيب المذهبية والاثنية والثقافية لسكان هذه المدينة التاريخية .
فالطوائف والاديان والثقافات في بغداد تتغذى وتنتعش من بقاء بغداد مفتوحة وحيوية حالها حال البركة المتصلة بنهر جار ، فإذا انسد النهر فسد ماء البركة وهذا له ماله وعليه ماعليه من مداليل ومعاني تترجم على الارض مستقبلا امراضا واوبئة اجتماعية وسياسية وامنية .
وعلى مر التأريخ ، ثلاثة فقط من حكام بغداد اساؤا لتركيبتها المجتمعية :
*الخليفة العباسي المتوكل حينما حول جانب الرصافة الى معسكرات حشد فيها الاف الجنود الترك والاورال والقوقازيين  ليبلغ الفساد الاثني حدا اضطر الخليفة نفسه  للهرب الى سامراء .
*الملك فيصل الاول ، في عام 1928  حينما استقدم قبيلة المحامدة وقبائل بدوية واسكنم في ضواحي العاصمة والذي يعرف اليوم ب ( حزام بغداد ) .
*صدام حسين الذي اصدر سلسلة قوانين (.   1562 لسنة 1982 و180 لسنة1993 و157 لسنة1994 ) منع بموجبها اي عراقي من التملك في بغداد مالم يكن مسجلا في سجلاتها بموجب تعداد السكان لعام 1957 .
وفي عقد التسعينيات ، امعن الطاغية صدام في اغلاق العاصمة الى حد اصداره تعليمات امنية ( تمنع السكن ) وحتى حق العمل  للعراقي القادم من محافظات خارج العاصمة .
والنظام البعثي السابق اصدر هذا القرارات تحت تاثير الهواجس الامنية بعد الانتفاضة الشعبانية ، وكان الهدف  اغلاق بغداد امام سكان الجنوب  وذلك لمنع  تنامي الحاضنة المجتمعية الشيعية في العاصمة  والتي يمكن ان تشكل تهديدا لنظامه .
إذ وبعد الانتفاضة وتحديدا في شهر تشرين الثاني 1991 عقد صدام اجتماعا في كلية الاركان وحضره اهم مسؤولي وقيادات النظام. بالاضافة الى عدد من مستشاري الطاغية ومن بينهم الدكتور علاء الدين نورس وهو كردي من السليمانية ومختص بالتاريخ الاسلامي .وكان الموضوع الوحيد لهذا المؤتمر الخاص هو  البحث عن الاجابة للسؤال ( لماذا اندلعت الانتفاضة ) .؟
في كلمة علاء نورس خلال المؤتمر والمسجلة على اشرطة صوتية ،وردت عبارة  مهمة اتخذها صدام قاعدة اساسية لاجراءاته الامنية الطائفية في العاصمة بغداد لاحقا . إذ قال نورس ،في معرض شرحه لاسباب الانتفاضة الشعبانية (( ان تزايد اعداد الشيعة في العاصمة بغداد  يشكل قفزة عدائية من شأنها تهديد معادلة الحكم المتوارثة منذ عام 1921 )) . !!؟؟!!؟
°° لكي نثبت عدم صحة  هواجس ومخططات المتوكل وفيصل وصدام ونورس ، لنعد الى تأريخ بغداد الازل وكيف انها كانت تنبض بالتنوع وان ايا من الحكام لم يقدر على الاخلال بتركيبة سكان هذه المدينة بالرغم من ان الارجحية العددية والتي كانت في الغالب  لصالح العراقيين البغداديين المسلمين الشيعة .
ويجمع غالبية المؤرخين على ان التنوع. المذهبي المتوازن بدأ يعم بغداد بجانبيها الكرخ والرصافة  وذلك منذ منتصف القرن الثالث الهجري .
واستقر البغداديون الشيعة في جانب الكرخ  وانهم امتهنوا التجارة ، في حين كان البغداديون السنة يمتهنون العسكر ويتمركزون في جانب الرصافة وذلك بحكم وجود قصر الخلافة ومعسكرات الجند والدوواين في الجانب الشرقي من المدينة . ويؤكد المؤرخ محمد شمس الدين المقدسي في مؤلفه ( احسن التقاسيم في معرفة الاقليم ) : .. كان الشيعة هم الغالبيّة الساحقة لسكّان بغداد،  الى جانب الحنابلة وانهم كانوا يعيشون في وئام ،ماخلا فترات استعمل فيها الحكام العباسيين الفتنة الطائفية وتحريض الحنابلة ضد الشيعة ..فكانوا يحرّضون الحنابلة على مهاجمة الشيعة القاطنين في محلّة الكرخ، وكان ذلك يتسبّب في تحمّل الشيعة خسائر كبيرة …
وذُكر  ايضا أنّ الشيعة في بغداد كانوا يُقيمون شعائرهم علناً ويقيمون مراسم العزاء والحزن في المحرّم على الإمام الحسين عليه السّلام، ويحتفلون ايضا بعيد الغدير …
وعن تلك الحقبة وفي عهد الخليفة العباسي محمد الراضي سنة 321 هجرية  تحدثت كتب المؤرخين عن ثورات قام بها البغداديون الشيعة وان في واحدة منها احرقت السلطة في عهد الراضي اكثر من 17 الف بيت وحانوت  للمنتفضين الشيعة وذلك في اشارة  تظهر  اغلبية الشيعة في محلة الكرخ وفي بغداد عامة .
ونقل ياقوت الحمويّ في نهاية القرن السادس  في كتابه معجم البلدان ( .. أنّ ساكني محلّة الكرخ هُم قاطبةً من الشيعة .. )
وخلال القرنين 15 و16 الميلاديين  وتحديداً بين العامين 410 ـــ 610 للهجرة، اورد اسحق نقاش في كتابه ( شيعة العراق ) : خلال (200) سنة، تحوّل أغلب العرب السنة الى شيعة .. ولاسيما قبائل مناطق الفرات الاوسط ..ومن بينها قبائل الخزاعل وزبيد ، وربيعة ..
ووفقاً للإحصائيّات التي نشرتها الدولة البريطانيّة سنة 1919 م، كان تعداد سكان العراق. مليونان و700 الف ، وبلغ مجموع الشيعة منهم  مليوناً واحداً و 492 ألف نسمة،. ومن هذا العدد ،بلغ  عدد الشيعة من غير العرب  114  الفا بينهم 52 الفا من الشيعة ذوي الاصول الايرانية وهم  من اعراق ايرانية متعددة .
اما العراقيين من المذاهب السنية الاربعة فقد بلغ عددهم ( 992 ) ألف نسمة  ويشمل العدد  السنة العرب والكرد والترك  والقوقاز  .
•• الخلاصة : يحدث الان تمييز ضد النازحين في الموصل وتكريت والرمادي وكربلاء ..ولكن اتركوا بغداد تتنفس فهي  تكتسب صفة السلام من التنوع .