23 ديسمبر، 2024 2:37 م

بغدادَ الأزل، بين اليأسِ والأمل!

بغدادَ الأزل، بين اليأسِ والأمل!

بين آسيا الوسطى والمغرب، إختار الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور موقعاً لمدينته الجديدة يكون وسطاً، حتى إذا إستهلت شرقاً أو غرباً يكون ريعها في بغداد المدورة التي قامت على دجلة العوراء قبل مائتين وإثنين وخمسين عاماً وألف. ولو نظرنا اليوم إلى حال العراقي حين ينظر إلى الصنوين المتناحرين، دجلة والفرات، فإنه لا يرى غير عاشقين كبيرين، عاشا على الود حيناً، والخصام حينا. ما أن يلتقيا حين يفترقا على الألم. يسير دجلة، يمشي، وينحني، فيرسم صورته على الأرض وكأنها لوحة من لوحات الفنان سعدي الكعبي. رؤوس، وحلقات، وخطوط تجريدية مائلة تتلوى تحت سماء شاسعة مفتوحة منذ الأزل. كانت الفرات قد نالت القداسة منذ زمن بعيد، فلها كربلاءها المعطرة بالدماء الزكية، لكن التاريخ نادراً ما يعيد نفسه ببلاهة. هنا قامت قداسة أخرى على دجلة في مقام الشيخ عمر الحديث. السنة لي، والشيعة لكم، نلتقي لنفترق. أوليست هذه ما يسمونه اليوم بجيوبولتيكا المدن؟
تختلف بغداد في بنائها عن باقي المدن. إنها مدينة خالية من الأعمدة، لا مرمر ولاصخور. هي السهل الرسوبي عينه. نأخذ الطين من دجلة، نشويه فيكون الآجر الذي نبني به مدينتنا الجديدة. وماذا لوثارت دجلة، فجاءت مياهها علينا؟ نعيد الكرة، فالجديد أسهل ألف مرة من إعادة الميت الذي طارت به المياه. بغداد- بعل داد، مدينة الحداثة منذ الأزل، الضفائر السوداء الطويلة، الغواني، والموائد العامرة التي تعج بالدسائس ومؤامرات الليل. إنها مدينة كل شاعر طريد، أغرب من بودلير، وأعتى من رامبو.
ولو عدنا إلى بغداد اليوم لوجدنا ألف حكاية وحكاية مشابهة من الماضي البعيد والقريب في هذا الكتاب الفذ. هو حكاية مدينة، من الألف العباسي إلى الياء الأمريكي. مدينة السلام، ومدينة الدم والعذاب. أخذت قدرها التاريخي من الصديقين اللدودين. مات هرون الرشيد أولاً، فعمت الفوضى بغداد الجديدة. إنها الحرب الأهلية الأولى في تاريخ المدينة، أربع سنين من الدمار، وما أدراك ما الحرب الأهلية، وأولها إستحياء النساء. ثم جاء المغول وغاب كل عباسيّ عن التاريخ بعد أن غاب الألوف من البغداديين. ثم لا تنسى الفيضانات، والطواعين، والمذابح التي جاء بها الأتراك العثمانيون قبل أقل من مائتي عام، وهذه يرويها لنا الكتاب وكأن كل صفحة فيه تنقب في الآثار البعيدة التي يتركها الآباء للأبناء. هناك أمر قد لا نعرفه من قبل، وهو تلك الفترة التي حكم فيها المماليك حوالى مائتي سنة، لكن كيف لم يخبرونا في كتاب التاريخ الذي درسناه في المتوسطة ذلك؟ لماذا أخفوا عنا الحقيقة، وإمتدحوا القوقازي سليمان القانوني؟ هنا ايضاً قامت الوكالة البريطانية عام 1798 على نهر دجلة، ثم بدأ عصر جديد يعج بالمصالح والجواسيس.
ثم ها نحن قد وصلنا إلى الغزو الأمريكي الحديث، فنرى المؤلف يعرض ببراعة مستقلة الكثير من الصور والأخبار التي تتحدث عن نفسها، ولا لنا غير أن نقول بأن الحصار الإقتصادي هو البديل الحديث عن كل الحروب الماضية، وهو السبة الغربية الحديثة. الجوع يقابله غنى الرؤوساء المزيفين. بيوت متهاوية، تقابلها قصور لا تسكنها اليوم غير الغربان.
عصر جديد، وأمل جديد للبغداديين الذين إن بحثوا عن حبيبهم لقالوا: بذّات، ليس من عادته الوفاء.
كتاب نادر، غاية في الروعة.
Justin Marozzi, Baghdad: City of Peace, City of Blood. London: Allen Lane, 2014