عندما استلم الأمير عضد الدولة البويهي الحكم في بغداد ، سنة 367 للهجرة في زمن الخليفة العباسي المطيع لله، نقم على إبراهيم بن هلال الصابي فحبسه. فسئل فيه وعُرِّفوة حسن أدبة وجمال خطة وبديع صياغته ، فقال: إن عمل لنا كتاباً في مآثرنا وتاريخنا أطلقته واجزتة! فشرع في سجنه يسطِّر كتاب (التاجي في أخبار بني بويه) . فدخل عليه السجن أحد أصدقائه وهو يكتب ذاك الكتاب فسأله ماذا يفعل، فقال: (أباطيلُ أنمِّقُها وأكاذيبُ ألفِّقُها). ولا أدري إن كانت تلك شجاعة منه أن يعترف لصاحبه أنه كان ينمق الأباطيل ويلفق الأكاذيب إرضاء لحاكم الدولة ودفاعا عن نفسه لينجو من السجن، أم كانت يقظة ضمير في لحظة صفاء. لكنه على كل الأحوال اعترف بالذنب. ومن سوء حظه أن كلامه وصل إلى عضد الدولة فأمر بقتله برميه تحت أقدام الفيلة. فتوسط له بعض الناس فعفا عنه وأمر بنفيه من البلد.
أسوق هذه المقدمة للتذكير ببعض من زملائنا المستكتبين والكتيبين الذين ما إن تحل أزمة أو خصومة سياسيه في عراقنا المبتلى بالفتن إلا وشحذ قلمه وشمر ذراعه وخاض في بحر المنازعات والتجاذبات الأسود المتلاطم . متناسيا إن ليست هناك من صداقة دائمة أو عداوة دائمة في السياسة بل مصالح دائمة وان الدخول بين أهواء وأمزجة سلاطين العهد الجديد امرا يفتقد إلى الحكمة والكياسة وبعيدا عن الحياد والموضوعية واحترام عقلية المتلقي التي هي من أهم عوامل مقومات العمل الإعلامي المسئول، فالإعلام كمهنة يقوم على أسس الصدق،والنقل بأمانة من مصادر الخبر الصحيحة، وعلينا أن نثبت ونتيقن من كل أمرنقوم ببثه ونشره، لتجنب التعدي على الآخرين بجهالة.لكننا للأسف نجد وسائل إعلامنا تحب هذا وتكره ذاك، تنقلب على البعض، وتــدافع عن البقية، فهو إعلام مزاجي هوائي (حسب تصنيف الفوال أبو علي الشيباني ) يعمل لأجل فئات وتيارات سياسية معينة، تسيره نحو اتجاهات مخطط لها مسبقاً غايتها دق إسفين الفرقة والتشرذم وإثارة النعرة الطائفية والمذهبية .ولا أدل على ذلك من ما تمارسه فضائيات
خفافيش الظلام ا التي تأبى أن ترى نور الحقيقة بعد أن عميت بصائرها وبصيرتها، وهي تقتات على تشويه الحقائق وصب الزيت على النار ونصب مناجيق العداوة والبغضاء، من أجل تسويق نفسها أمام المتحكمين في البلاد عبر شن حملة إعلامية مضللة تطعن في مبادى حرية التعبير وثوابت الديمقراطية عبر حملة افتراءات تثير الكراهية بين العراقيين ووطنهم . واقل ما يقال عن القائمين على أمرها أنهم يعتقدون إن العقل المحلي معطل و ساذج ولا يعي ماخلف السطور وما وراء الأكمة . فضلا عن أن كتابات البعض في كثير من الأحيان تبدوببغاويه ،وتعبيرا عن ردود أفعال وانفعالات عاطفية أكبر من كونه تعبيرا عن”وعي” بأزمة الواقع العراقي .
وهنا يأتي السؤال الذي لا بد من طرحه وهو كيف لنا أن نؤمن بالمستقبل الوردي الذي يحدثوننا عنه وعن إحلال مبادئ الحرية والديمقراطية ، وهم لا يتقبلون رأيا لا يصب في إنائهم؟ وفي هذا ما يكشف عن غياب البعد الأخلاقي والمنطق العقلي لديهم في قراءة الواقع السياسي المحلي. وهي أقرب إلى الهذيان والتحريض الإعلامي منه إلى ممارسة العمل الإعلامي المهني. فهو لا يفتح بابا إلا لمن يحترف الصراخ والسب والشتم ويهاجم كل من يبدي رأيا أو منجا لايتفق مع خطاب نخبهم ، ووسيلة حوارهم وإقناعهم هي السباب والشتيمة، ونبش الماضي السحيق وتزوير حقائقه وبعث الروح فيه من جديد، ورسالتهم هي إثارة الحقد ونشر الكراهية بين المواطنين والتضليل.. وإشعال حرائق الفتنة وبث الرعب بين العراقيين؟. وجرهم نحو الاحتراب الأهلي!. فهل حرية الإعلام والصحافة هي أن تقوم بالتحريض وإطلاق العيارات الطائشة على صدورنا ام نشر اغصان الزيتون وحمائم السلام في ربوعنا .
مقولة الصابي قرأتها منذ أكثر من ثلث قرن من الزمان، لكن ذاكرتي استدعتها وأنا أشاهد التلفاز واقرأ المواقع وأرى الفظائع التي تُرتكب بحق الديمقراطية . ثم يخرج علينا من يسمون أنفسهم صحفيين أو محللين أو متخصصين في العلاقات الدولية ليشوهوا الوقائع ويزيفوا الحقائق ويحرّفوا الأحداث، فيصبح الضحية مجرماً، والسجين الذي عذب عميلاً ! ومن عبر عن وجهة نظر شخصية في إدارة الدولة خائنا وانتهازيا وانتقائيا . فلئن فعل الصابي ما فعل لينجو من السجن فما حجة من يلفق الأكاذيب وينمق الأباطيل وهو حر طليق؟ لكن الصابي اعترف بفعلته فهل يأتي اليوم الذي يعترف فيه هؤلاء بأنهم كانوا يفعلون ذلك لينالوا الأعطيات؟والتقرب الى السلاطين وان لايكونوا ببغاوات تقلد مايقولة الاخرون ،وان مايفعلوة هو الزبد الذي يذهب جفاءا وان ماينفع الناس يمكث في الأرض ويورق شجرة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء .