23 ديسمبر، 2024 10:04 ص

بعض من تأريخ نفاثات الإقلاع والهبوط العمودي

بعض من تأريخ نفاثات الإقلاع والهبوط العمودي

تمهيد
ليس مُبتغاي من هذه الدراسة عن الطائرات سوى تصحيح ما منشور لدى العديد من المواقع من معلومات مُربِكة عند تصفّح مقتطفات عن الطائرات، من حيث الخلط بين الصور المتشابهة بعضها ومبالغات عدد من أصحاب المقالات لأسباب شتّى، وأن عدداَ منهم ليسوا ضليعين بعلوم الطيران وتأريخه فيقترفون أخطاءً لا تُغتَفَر لدى تعريبهم مصطلحات أو معلومات من المصادر والمراجع، ومحدودية متابعتهم لأخبار الطيران والطائرات… لذلك إعتمدتُ على المجلّد الرصين والموسوم “أحدث الطائرات العسكرية” (MODERN MILITARY AIRCRAFT) الصادر من مؤسسة (CHARTWELL) ذائعة الصيت مرجِعاً لإستخراج قدرات الطائرات ومواصفاتها والبعض من محطات أحداثها.
بدايات الإقلاع والهبوط العمودي
عام (1944) أولج الآلمان أولى مقاتلاتهم النفاثة بالمعارك الجوية في آخر سنة من الحرب العالمية الثانية التي وضعت أوزارها عام (1945) وقتما أسر الحلفاء المنتصرون عشرات العلماء الآلمان النازيين القريبين من زعيمهم “آدولف هتلر” ومتعاونين مع نظامه، ولكنهم إستثنوهم من تُهَم النازية (((بأوامر خاصة من الرئيس “هاري ترومان” ورئيس هيأة الأركان العامة “الجنرال جورج مارشال”، وكذلك عمل الزعيم السوفييتي “جوزيف ستالين” من بعدهما))) وإعتبروهم ثروة علمية وإحترموهم وكرّموهم وأناطوا إليهم مناصب عالية وحسّاسة للإفادة من أدمغتهم الجبارة وخبراتهم المتراكمة وتجاربهم الأخّاذة في مجالات الطائرات والصواريخ لتطوير ما لديهم، وبذلك نأى الحلفاء بإنقضاء الأعوام عن الطائرات المزوّدة بمحركات الإحتراق الداخلي المعتمِدة على الإسطوانات (PISTONS) والمراوح ذات الرِيَش (PROPELLERS) وعَدّوها شيئاً من الماضي، وذلك بعد أن برهنت الطائرات المزوّدة بمحركات نفاثة إمكاناتها بحروب الخمسينيات في “كوريا، السُوَيس”، وقد إصطفت إلى جانبها السمتيات (الهليكوبترات) بأدوارها البارزة في مجالات نقل القادة والإستطلاع والرصد والإسعاف ونقل القوات الخاصة قبل أن يتمّ تسليحها وتضحى مقتدرة على تقديم الإسناد الجوي القريب للقطعات الأرضية.
وعندئذٍ طمح الطيارون والخبراء بالإستغناء عن المطارات الواسعة والقواعد الشاسعة والمدارج الطويلة والتكاليف الباهظة، حتى تَفَتّقَت العقول لإمتلاك طائرة مقاتلة/هجوم أرضي نفاثة وقادرة على الإقلاع عمودياً من بقعة صغيرة والهبوط فيها بالأسلوب ذاته.
فشل أولى التجارب
في أوائل الخمسينيات بدأ التخطيط لإنتاج هذا النوع الجديد، ولكن نماذجها الأساس لم تَرْقَ لمستويات الطموح لأيّ من القوات الجوية أو الطيران البحري أو طيران الجيش، والأمثلة عديدة لتجارب الولايات المتحدة ثم آلمانيا الغربية قبل فرنسا، وجميعها أخفقت لأسباب تقنية أو تحطّمت في طلعاتها الأوّلية أو لم تَكفِ المبالغ المرصودة لمواصلة البحوث وتحسين التصاميم.
وإبتغاء عدم الإطالة على المتابع العزيز فسأقتصر هذه الدراسة على التجارب الناجحة فحسب.
السبق البريطاني
كانت “بريطانيا” ما زالت محتفظة بالبعض من مميّزاتها العظمى، وقتما صمّمت بأواخر الخمسينيات مقاتلة/هجوم أرضي أقلعت عمودياً -أسوة بالهليكوبترات- وتحوّلت لطيران أفقي سريع كأية طائرة نفاثة قبل تهبط وسط بقعة صغيرة، وقد أُصطُلِحَت عليها بعبارة (Vertical- Short Take Off & Landing) ومختصرها الدارج (S.T.O.L/V)، ففي يوم (21/10/1960) حلّق نموذجها الأوّلي “جامب جيت JUMP JET” التي أنتجتها شركة “هوكر سيديلي HAWKER SIDDELEY” قبل عرض نماذج عديدة منها يوم (1/2/1964) أمام قادة القوة الجوية الملَكيّة الذين أسرعوا لإبرام عقود لشراء (132) من هذه الطائرة التي إستبدلوا إسمها إلى (هاريَر-HARRIER) فتكامل زجّها بالخدمة لدى القوة الجوية عام (1969).
تريّثت البحرية البريطانية كثيراً حتى إتفقت مع الشركة المنتجة عام (1975) على إجراء تحويرات لتطوير الـ”هاريَر” إلى “سي هارير” لتكون ذات مقدرة للعمل على حاملات الطائرات وفي أجواء البحار والمحيطات، ولربما كان قادتها يسرعون لو كانوا قد قدّروا الأداء الممتاز لمقاتلتهم المحمولة هذه على حاملة طائراتهم في “حرب فوكلاند” مع “الآرجنتين” في صيف عام (1982).
جلوس الولايات المتحدة على الحاضر
لم يَخُضْ الأمريكيون خططاً وتصاميم مسبقة ولم يصرفوا المليارات ويضيّعوا وقتاً على نماذج قد تخفق بأية مرحلة، فقد سارع قادة مشاة بحريتهم (مارينز) لإقتناء الجاهز من حليفتهم “بريطانيا”، وقتما إستحصلوا إمتيازاً خاصاً لصناعة الـ”هاريَر” -طبق الأصل- لديهم تحت مسمّى “AV-8″ قبل أن يضيفوا عليها من خبراتهم ويطوّروها لأجواء البحار والمحيطات لينتجوا منها (110) طائرات لمهمات الإسناد الجوي القريب من على ظهر سفن الصولة البرمائية (حاملات هليكوبترات المارينز) منذ عام (1971).
ولكن الـ”هاريَر” البريطانية ومثيلتها الـ”AV-8″ الأمريكية لم تلقَيا رواجاً واسعاً في سوق السلاح المُربِح، ولم يقتَنِ منها حتى صانعوها سوى بضعة أسراب خُصِّصَت للعمل على حاملات الطائرات وسفن الصولة البرمائية (حاملات الهليكوبترات) التابعة لمشاة البحرية/المارينز إلى جانب عدد من الدول الست -غير العظمى- الممتلكة لحاملات طائرات، وذلك لبهاظة أثمانها وسرعتها الأدنى من الصوت والتي لا تؤهّلها لتكون مقاتلة إعتراضية تحقّق “التفوّق الجوي” الذي يُعتَبَر من أهم متطلّبات الحروب الحديثة، ولذلك إنصبَّ إهتمام الدول المنتِجة للطائرات على تطوير نفاثاتها الأسرع من الصوت سواء كانت مقاتلات مُعتَرِضة أو هجوم أرضي أو قاصفات أو إستطلاع.
لحاق السوفييت بالركب
في خضمّ سباق التسلّح المحتدم منذ النصف الثاني من الأربعينيات وصراع المخابرات الدائر وراء الكواليس بين المعسكرين الشرقي والغربي لإستحصال أسرار تكنولوجيات الأسلحة والمعدات، فاجأ السوفييت العالم عام (1963) بمقاتلة/هجوم أرضي نفاثة تقلع وتحلّق أفقياً بسرعة مقبولة ثم تهبط عمودياً، وسُمِّوها (ياك-36) التي أنتجتها مصانع “ياكوفليف” المملوكة للدولة، ولكنها لم تَرُقْ لقادة القوات البحرية وطيّاريهم الذين لم يرتضوا بإقتنائها على هذه شاكلتها المتواضعة قبل أن تجري عليها مصانع “ياكوفليف” تحسينات عديدة، حتى قذفت أمام أنظارهم مقاتلتها الـ”ياك-38″ التي أدخلوها أواسط السبعينيات في خدمة إثنَتَين من حاملات طائراتهم الأربع رغم تعقيدات الطائرة من حيث كونها مزوّدة بـ(ثلاثة) محركات نفاثة وبسرعة أدنى من الصوت وحمولة متدنّية من الأسلحة إضافة لغلوّ ثمنها، ولذلك لم تَلْقَ رواجاً لدى عرضها على الدول الصديقة فبقيت حبيسة لدى الطيران البحري السوفييتي بواقع (231) طائرة لغاية تفكّك دولتهم عام (1991).
ظلّ الحلم يراود السوفييت في إنتاج مقاتلة أسرع من الصوت يُناط إليها مهمات التفوق الجوي في أجواء المياه البعيدة التي تعمل فيها أساطيلهم العملاقة، حتى أنتجت مصانع “ياكوفليف” المتخصصة عام (1987) مقاتلة الإقلاع العمودي “ياك-141” الأفضل من سابقتها وبحمولة أضخم ومدىً أبعد وسقف إرتفاع أعلى بسرعة تفوق الصوت بـ(1,5) مرة. وبينما كانوا يجرّبون نماذجهم الأولى على حاملة طائراتهم “الأدميرال غورشكوف” عام (1991) أدّى هبوط عنيف إلى إحتراق إحداها.
ولما كانت الدولة السوفييتية آيلة إلى التفكّك جراء المعضلات التي هَرّأت نظامها الإقتصادي بصرفياته الهائلة على التسلّح، فقد قرّرت إيقاف هذا المشروع الضخم قبل إنهيار دولتهم العظمى أواخر ذلك العام.
منذ إعلان تأسيس “روسيا الإتحادية” أواخر (1991) إنشغلت “موسكو” بما ورثته من أعباء سَلَفِه الثقيلة، فخُزِنَت الأعداد المحدودة من الـ”ياك-141″ في مستودعات قواتها الجوية طيلة ربع قرن حتى قرّرت قيادتها الراهنة في العام الماضي (2017) إجراء دراسة شاملة لإحياء مشروع جديد بالإفادة ممّا تحت يدَي مصانع “ياكوفليف” من تقنيات الإقلاع والهبوط العمودي الأسرع من الصوت شريطة أن تكون من طراز “الشبح” الخفيّ على الرادارات.
وأخيراً جاءت “لايتننك F-35”
التفوّق التكنولوجيّ -وخصوصاً في الأسلحة الثقيلة، وبالأخص في مجالات الطائرات- صراع لا يتوقّف ولا حدود له، فبعد إستحصال نفاثات الإقلاع والهبوط العمودي غير السريعة أمسى الطموح نحو الأسرع من الصوت، ولمّا تحقق نظروا إلى “الشبح” المخفي عن الرادار، وحالما أصبح بالمتناول حلموا بمقاتلة تجمع بين ثلاثة خواص ((إقلاع وهبوط عمودي، سرعة تفوق الصوت، إختفاء عن الرادار))، فلم يبخل العلماء والخبراء في تحقيق الحلم بإيجاد تقنية للتحكّم بإتجاه نفث الهواء المندفع من أنبوب النفث (JET PIPE) نحو الأسفل عوض النفث الأفقي المعمول به لدى جميع طرز النفاثات عدا الـ”هاريَر، V-8، ياك-38″، فقفزت إلى الوجود طائرة أقرب ما تكون إلى المثال بتوفير الصفات الثلاث ممثّلة بالمقاتلة الشبح الأسرع من الصوت “لايتننك F-35” والتي سنأتي عليها بدراسة قادمة بعون الله تعالى.