الهجوم الذي اقدمت عليه حماس في السابع من اكتوبر الماضي سبب لأسرائيل وجع لا يمكن تجاوز آثاره بسهولة, فقد وضع الأمن الأسرائيلي والقدرات الأسرائيلية عموما في تساؤلات من الصعب الأجابة عليها, وممكن اختزالها بأسئلة سريعة: أين القبب الحديدية التي ترد الصواريخ على مطلقيها, وأين الجيش الذي لا يقهر, وأين الأمن الذي لا يخترق. أما التساؤلات التي تطال حماس فهي مختزلة بشدة في الآتي: هل كانت العملية جزء من استراتيجية واضحة لبلوغ الأهداف, ماذا ستجنيه حماس من العملية على مستويات المدى الأقرب والأبعد, أم أن ما جرى هو مجرد مشاغلة للعدو دون حساب لردود افعاله, ودون حساب أن حلفاء اسرائيل هم اكثر وضوحا في التحالف معها من حلفاء القضية الفلسطينية. وعلى مدار الصراع العربي ـ الأسرائيلي ومنذ العام 1948 تحولت القضية الفلسطينية على أيدي الحكام العرب والمتأسلمين الى مادة لتسويق الأجندة العقائدية وتجريدها من بعدها الأنساني, فتارة ارادها البعثيون ان تكون فلسطين بعثية وتارة اخرى ارادها القومجيون ان تكون قومية ثم ارادها الأسلامويون وفقا لسرديتهم المشوهة وبدون حل.
لا يمكن النظر الى العملية التي أقدمت عليها حركة حماس الأسلامية بأنها تعبير عن نهج حماس المتشدد فقط اتجاه أسرائيل فأن ذلك مجافي لأبسط قواعد الصراع مع اسرائيل وعنجهيتها خلال 75 عاما من الأحتلال وحرمانها لحقوق الشعب الفلسطيني في أقامة دولته المستقلة وفقا للشرعية الدولية والانسانية, ومن غير المقبول ان يكون شعبا محتلا ومحاصرا ومحروما من حقه في الحياة الحرة الكريمة أن يكون وديعا ومسالما مع من يغتصب أرضه, ولعل في تصريح الأمين العام للأمم المتحدة والذي اغضب اسرائيل” بأن عملية حماس في 7 أكتوبر لم تأتي من فراغ ” أنه لخص ذلك لأطروحة سيكولوجية قوامها أن كل كبت مستديم واعادة انتاج الكبت عبر عقود يمكن له أن يعبر عن نفسه في احدى احتمالاته وهو ” العدوان ” والذي يسري على الأفراد والتجمعات والحركات, ومن هنا ومع طول أمد الكبت وعدم اشباع الحاجة الى وطن في ظل احتلال قاسي لا يمكن التنبؤ بطبيعة ردود الأفعال دفاعا عن النفس وعن البقاء.
أن المطالبة الغربية والأمريكية بشكل خاص بأدانة حماس بأعتبارها تنظيم ارهابي او حسب الرواية الأسرائيلية بأنها حركة داعشية هو أمر سقط في الحضيض بل وغبي وخاصة عندما نرى ردود الفعل الأسرائيلية على عملية طوفان الأقصى, كيف يمكن ان تكون ردود فعل بهذا الحجم المدمر في القتل والتشريد والخراب الشامل الذي ارتكبته في غزة بحق المدنيين والنساء والأطفال والبنية التحتية, فكيف يمكن تفسيره بغير ارهاب الدولة ذلك وهي تدعى أنها” دولة ” وهي لا تقاتل دولة بل فصائل مسلحة. أن تهمة ألصاق الداعشية بحماس هي محاولة لأستجداء عطف العالم وحرف انظاره عن المأساة التي يرتكبها الأحتلال بجق الشعب الفلسطيني. فالداعشية تنطيم دولي متحرك لا ارض له يستقر عليها وهو يقاتل ويسبي في كل مكان تسنح له فرصة الأستيلاء عليها وهو يقتل ويحتل ويسبي اعراض وارض ومال المسلمين قبل غيرهم, اما حماس وبغض النظر عن اتفاقنا ام اختلافنا مع اجندتها العقائدية ومفهومها للصراع العربي او الفلسطيني ـ الأسرائيلي فهي جزء من مشروع المقاومة المشروعة ضد الأحتلال الأسرائيلي.
لا يمكن اقصاء حماس من منظومة التحرر الوطني الفلسطينية وأن ظروف ولادتها على الأرض الفلسطينية المغتصبة هي بدون شك تعبير حقيقي عن حالة الأحباط واليأس التي يمر بها الشعب الفلسطيني منذ عقود وخذلانه من حلفائه الذين يدعون نصرة قضيته او يعتبرونها قضيتهم الأولى الى جانب خذلان العالم له وفي مقدمتهم العالم الغربي وعلى رأسهم امريكا التي تخوض الحرب الآن مع اسرائيل متحالفة معها وتمنحها الضوء الأخضر بما تفعله مع بعض الأستثناءات الخجولة.
كل حركات التحرر ضد الأحتلال العربية منها وغير العربية في فترات الأحتلال المباشر وغير المباشر الفرنسية والبريطانية والعثمانية والأمريكية تشكل منظومات فكرية وعقائدية متنوعة من الأفكار والعقائد والأيديولوجيات والممارسات والتي تمتد بتصنيفاتها البنيوية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار وتلتقي جميعها عند هدف واحد هو تحرير الأرض المغتصبة من الأستعمار والأحتلال, ولنا في دروس الأحتلال من النضال في الجزائر وليبيا والعراق ومصر والمغرب وتونس وغيرها من بلدان العالم, فقد حضرت التيارات الدينية الأسلامية والمسيحية وغيرها كجزء من منظومة التحرر الوطني, وحكم على الكثير من قيادتها بالأرهاب وتم اعدامهم وتصفيتهم من قبل المحتل ولكن التاريح ينصفهم والشعوب كذلك بأعتبارهم رموز وطنية ضد المحتل والمغتصب للأرض.
أما ما بعد انجاز مرحلة التحرر الوطني والحصول على الأستقلال وعلى الأرض فأن الصراع ينتقل الى بناء شكل النظام السياسي وبناء الدولة وهويتها وتوجهاتها. لا أقول ان حماس تمثل البديل الأفضل للشعب الفلسطيني فهذا أمر يجافي الحقائق وحماس حالها حال الحركات والأنظمة الدينية المتأسلمة في المنطقة التي لا تمتلك مشروعا لبناء الدولة المدنية الحاضنة لكل التنوعات الفكرية والأيديولوجية والمذهبية كما ان موقفها من التعددية الجزبية وديمقراطية التدوال السلمي للسلطة هو موقف هش كما اكدت تجارب صراعها مع منظمة التحرير الفلسطينية.
ولاكن لا يمكن الأستهانة بحماس وتضحياتها وقدرة مقاتليها على التضحية والأستبسال بعيدا عن طبيعة ادارتها للصراع مع المحتل الأسرائيلي أو رؤيتها الأستراتيجية الشاملة للعمليات العسكرية التي تقوم بها من منظور الربح والخسارة ومديات الأقتراب في انجاز الهدف النهائي في التحرر والأستقلال, ولا اريد هنا شخصنة الصراع واعطائه صفة حماس ـ اسرائيل بل هو صراع كل الشعب الفلسطيني بأختلاف توجهاته مع المحتل الأسرائيلي.
أن الصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني وحصرا منظمة التحرير ـ حماس هو من ساهم في اضعاف وحدة الصف الفلسطيني عالميا وقد راهن الأحتلال الأسرائيلي على تغذية هذا الصراع حتى انه في فترات سابقة دعم حماس لأغراض شق الصف الفلسطيني, الى جانب الأنظمة العربية والأسلامية فبعض منها مع حماس كما هي قطر وايران وتركيا¸ والبعض الآخر مترنح بين حماس ومنطمة التحرير, ولكن لايزال الحضور الدولي لمنظمة التحرير هو الأكثر وقعا بأعتبارها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني في المحافل الدولية, وبالتالي فأن وجدة الصف الفلسطيني هي المطلب الأساسي لأدارة الصراع مع المحتل الأسرائيلي.
لقد حل بأسرائيل خراب غير قليل في بنيته التحتية وخسائر مادية وبشرية الى جانب اسقاط اسطورته الأمنية وتفوقه العسكري وقببه الحديدية واستنزاف للأقتصاد وهجرة معاكسة من اسرائيل الى أوربا وتداعي سمعتها يهوديا بأنها بلد الديمقراطية والأمن وخسائر تقدر بمجملها الآن 50 مليار دولار او اكثر الى جانب قتلى والذين بلغ عددهم في القوات الأسرائيلية اكثر من 410 قتيل وأسرى ومختطفين.
كما حل خراب شامل بغزة جراء القصف الوحشي الأسرائيلي أطال كامل البنية التحتية من مستشفيات ومدارس ومصانع وشبكات اتصال وتجمعات سكنية وقد بلغ عدد الضحايا ما يقابرب 17000 ضحية اغلبهم من النساء والأطفال وعدد الجرحى فاق ال 45000 واغلبها اعاقات مميتة الى جانب المأساة الهائلة لنزوح سكان قطاع عزة.
فهل يستطيع العالم الأستفادة من كل هذا في التفكير جديا في الضغط على الكيان الأسرائيلي للقبول بحل الدولتين كما نصت عليه القرارات الدولية ام يبقى شعار حل الدولتين مجرد شعار لتصريف الأزمة الحالية والعودة الى نقطة الصفر.
ان اكثر ما يلحق الضرر بالقضية الفلسطينة وتجريدها من مضمونها الأنساني هو أسلمة الصراع واضفاء البعد الديني عليه أو تهويده من الجانب الأسرائيلي وحلفائها, وبالتالي نحن كعرب ومسلمين او غيره سنفقد الشرعية في انهاء الأحتلال باعتبار ان قضية فلسطين هي قضية انسانية اولا وأخيرا, اما الأسرائيليون فهم يروجون لأطروحتهم المريضة مستفيدين من بعض سرديات المحارق ” الهولوكوست ” والأضطهاد التاريخي المفتعل, وكان تصريح وزير خارجية امريكا بلينكن عندما حضر لأسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى مباشرة بقوله ” جئتكم يهوديا ” هي دعوى صريحة لتهويد الصراع العربي ـ الأسرائيلي وتصوير اسرائيل بأنها الضحية والطرف الآخر هو الجلاد لا العكس !!!!.