تفاقم الجدل في الشارع العراقي وفي أروقة البرلمان بشأن المخاوف من تمرير التعديلات على قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 والصادر في العام 1959، وسط شد وجذب يتركز على تداعياته السياسية والاجتماعية، بين فسيفساء التوجهات الدينية والمدنية والعرقيات المختلفة، فضلا عن أهداف الأحزاب الشيعية والسنية, وهو صراع يعكس جزء من صراع اعظم حول حسم وجهة الدولة العراقية, هل هي دولة دينية على نسق دولة ولاية الفقيه أو دولة طالبان أم انها دولة علمانية مدنية, أم انها خلطة عطار من هذا وذاك وتعيش دوما حالة اللا استقرار وتستجيب لمختلف الضغوطات على طريق اقناع الجميع على شاكلة توزيع المغانم في دولة منهوبة.
وكان قانون الأحوال الشخصية في العراق قد أُقر عام 1959 في حقبة مؤسس الجمهورية العراقية آنذاك عبد الكريم قاسم، والذي يعتبر الى اليوم من ارقى القوانين في المنطقة لتنظيم الأحوال والحياة المدنية, وهو قانون يسري على جميع العراقيين دون تمييز مذهبي حتى الآن، لكن التعديلات الجديدة تشير في إحدى فقراتها على أنه “يحق للعراقي والعراقية عند إبرام عقد الزواج أن يختار المذهب الشيعي أو السني الذي تطبق عليه أحكامه في جميع مسائل الأحوال الشخصية، ويجوز لمن لم يسبق له اختيار تطبيق أحكام مذهب معين عند إبرام عقد الزواج، تقديم طلب إلى محكمة الأحوال الشخصية المختصة لتطبيق أحكام الشرع على الأحوال الشخصية، وفق المذهب الذي يختاره ويجب على المحكمة الاستجابة لطلبهم”.
وينص مشروع القانون على أنه “إذا اختلف أطراف القضية الواحدة في الأسرة بشأن تحديد مصدر الأحكام الواجب تطبيقها في طلبهم، فيعتمد الرأي الشرعي فيها”، كما يلزم التعديل الجديد “المجلس العلمي في ديوان الوقف الشيعي والمجلس العلمي والإفتائي في ديوان الوقف السني بالتنسيق مع مجلس الدولة بوضع مدونة الأحكام الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية وتقديمها إلى مجلس النواب للموافقة عليها خلال 6 أشهر من تاريخ نفاذ هذا القانون”.
ويشمل التعديل كذلك تصديق محكمة الأحوال الشخصية على عقود الزواج “التي يبرمها الأفراد البالغون من المسلمين على يد من لديه تخويل شرعي أو قانوني من القضاء أو من ديواني الوقفين الشيعي والسني بإبرام عقود الزواج، بعد التأكد من توافر أركان العقد وشروطه وانتفاء الموانع في الزوجين”.
وفي نهاية تموز/يوليو، سحب البرلمان التعديل من الطرح بعد اعتراض نواب كثر عليه، إلا أنه عاد مجددا إلى الطاولة وحظي بقراءة أولى في جلسة في الرابع من آب/أغسطس بعد تلقيه دعم تحالف أحزاب شيعية يتمتّع بالغالبية داخل البرلمان العراقي. وليس واضحاً حتى الآن ما إذا كانت محاولات تعديل القانون ستنجح بعد محاولات عدّة خلال العقدين الماضيين لتغييره.
لم يكن هذا الأجراء جديدا ولا وليد الصدفة بل انه يعبر عن عقلية متخلفة يجسدها الجزء الاكبر من احزاب الاسلام السياسي الطائفي في البرلمان العراقي والتي تعكس الموقف المتخلف من المرأة وحقوقها المختلفة, ومن ضمنها حق الأمومة ورعاية اطفالها, وقد انتهجت تلك الاحزاب ومنذ سقوط الدكتاتورية بعد 2003 نهجا معاديا لمبدأ المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات, ومما يثير غضب الشارع العراقي والنساء بشكل خاص ان هناك برلمانيات نساء يقفن مستميتات ضد المرأة وحقوقها ومعظمهن من كوتة الاسلام السياسي ويجسدن بالملموس الموقف المتخلف من المرأة وابقائها اسيرة لثقافة المجتمع الذكوري الذي يعيد انتاج اضطهاد النساء بواجهات ” مقدسة “, رغم ان هناك ملامح جبهة نسوية رصينة للوقوف ضد التعديلات المشينة.
لقد تعرضت الاوضاع الاجتماعية للنساء والفتيات الى انتهاكات خطيرة على مر العقود الاخيرة جراء الحروب العبثية التي اقدم عليها النظام السابق وتركت آثارها في ظواهر عديدة, ابرزها الترمل بفقدان الزوج وتحمل الزوجة اعباء الإعالة وتضيق فرص العيش الكريم في التربية والتنشئة الاجتماعية للفتيات وللأسرة بصورة عامة, وأشد اوضاع المرأة تراجعا ما حصل لها بعد عام 2003 بدءا من الاحتلال ومرورا بصعود التيارات والحركات والاحزاب الدينية والطائفية الى السلطة, وصولا الى عودة أثر الاعراف والتقاليد القبلية والعشائرية, وكان للحروب الداخلية وما سببته من تهجير ونزوح وتشتيت للمكونات, وتدهور الحياة الاقتصادية وتدني مستويات العيش وانتشار البطالة على نطاق واسع وفي اوساط النساء المتعلمات وفي المجتمع بصورة عامة, أثره الواضح في تصدع منظومة الاستقرار القيمي وتدهور في المعايير وانحسار لخيارات التكافئ والتكافل الاجتماعي وقد جعلت من الحياة الاجتماعية أكثر قتامة. ويكفي ان نشير هنا الى حجم الكارثة الاجتماعية عندما نتحدث عن نسبة العوانس وقد بلغت اكثر من 80%, كما تجاوز عدد الارامل والمطلقات المليونين أمراة, وبلغ حجم الأيتام والارامل خمس السكان, وتصاعد نسبة السكان دون خط الفقر الى 40%, الى جانب زواج القاصرات دون 18 سنة, وبعضها لا يتجاوز 11, 12 سنة.
الأم هي الحلقة الأولى في حياة الطفل والأسرة، لما لها من دور عظيم في إعداد وتنشئة الأجيال ، ولما يقع على عاتقها من مسؤليات في إعداد الطفل وتربيته، وبعاطفة الأمومة التي لديها تمنحه مشاعر الدفء والحنان، لما تشكله من علاقة نفسية وبيولوجية بينها وبين أولادها وبناتها، والأمومة هي أكبر وظيفة للمرأة وهبتها لها الطبيعة في صراعها للبقاء لتكون بها الحياة، فهي رمز الحياة واستمرارها؛ وتعتبر أقوى الغرائز لدى المرأة وتظهر لديها من طفولتها المبكرة فنجد الطفلة ترعى أخواتها الذكور وتعتني بهم وتجد لديها العديد من الدمى والعرائس التي تمارس من خلالها دور الأم.
الأمومة هى علاقة بيولوجية ونفسية بين امرأة ومن تنجبهم وترعاهم من الأبناء والبنات. وهذا هو التعريف للأمومة الكاملة التى تحمل وتلد وترضع (علاقة بيولوجية) وتحب وتتعلق وترعى (علاقة نفسية) . وهذا لا ينفى أنواعاً أخرى من الأمومة الأقل اكتمالاً كأن تلد المرأة طفلاً ولا تربيه فتصبح فى هذه الحالة أمومة بيولوجية فقط ، أو تربى المرأة طفلاً لم تلده فتصبح أمومة نفسية فقط. هذه الأدوار للأم عندما تلد وعلى المستويين البيولوجي والنفسي يجب ان تشبع بقدر هادئ ومعقول استجابة لأشباع غريزة الأم البيونفسية في رعاية اطفالها, وفي سياقات طبيعية ومقبولة قد تحل الخالة او العمة او الجدة نسبيا مكان الأم على المستوى النفسي او لصعوبات مؤقتة على المستوى البيولوجي”كالأرضاع”, وخلاف ذلك وعلى مستوى اكراه الأم لغير حضانة اطفالها فأنه أمر يهدد بمخاطر واضطرابات نفسية خطيرة وخاصة اذا كانت مؤظرة بكراهية من نوع خاص بين “الشريكيين ” وعدم قبول الآخر بفعل عوامل كثيرة ومتعددة.
يالتأكيد هناك عوامل تؤطر استقرار الأسرة ومنعها من التصدع, من بينها الاستقلال الاقتصادي للشريكين وخاصة عن أبوي وأم الشريكيين, وكذلك العمر المقبول للزواج حتى ما بعد 20 عاما, فالنضج الزمني يلعب دورا في انعكاساته على العمر العقلي وخاصة في تفاوت غنى البيئات المختلفة وبالتالي فالشراكة هي عقلية مقترنة بزمن مقبول. وفي عراق ما بعد 2003 ومنفتح على مصرعيه لمختلف التيارات الدينية وغير الدينية والانعتاق من العزلة العالمية التي كان يعيشها العراق مقابل انفتاح على الآخر غير مدروس وصراع قيمي على أشده بين العشيرة والمدينة وقيم الانفتاح التي تهواها النفس بفطرتها في صراعها مع دين سياسي يكرس ازدواجية الأخلاق ويحلل الحرام ويحرم الحلال ويتحالف مع قيم التخلف والردة وفي مقدمتها العشيرة ويتشبث بالسلطة السياسية, فلا نستغرب ان الوضع يؤسس لمختلف الأنهيارات والنكسات والمصائب, والمرأة كعادتها وبفعل استفحال الذكورية وعدوانيتها هي من اسهل الضحايا في القتل والتنكيل وحرمانها من امومتها, الى جانب اصابتها بمختلف الأضطرابات النفسية والعقلية.
أن تقدم المجتمعات يقاس بمدى تقدم المرأة فيه ومساهمتها في الحياة العامة, لقد اصاب المرأة شتى صنوف الأذلال والقهر والأستعباد جراء الظلم الذي وقع عليها تاريخيا وحاضرا, والمرأة العراقية اليوم بين عاطلة عن العمل وأرملة ويتيمة ومطلقه وعانس وحبيسة المنزل, لا نستغرب من تداعيات ذلك على سلوكيتها اتجاه اطفالها, وخاصة عندما تبلغ الحال حدا مرضيا فأن الضحايا الأقرب هم الاطفال. أن حقيقة كون اللامساواة بين الجنسين وما يترتب عليه من اقصاء للمرأة هو نزوع ثقافي أولا, يكفي أن نرى عمق التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري في البلدان المتقدمة, والتي قامت على خلفية ظهور الفكر التنويري وانتعاش حركات الإصلاح والمساواة الاجتماعية, ولاحقا تعزيز التقاليد والاحترام والالتزام بقرارات وتوصيات المنظمات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق المرأة, وعدم تجاهل مطالب الحركات التحررية النسائية اليومية منها والمستقبلية. ولا نقول أن ما يجري في البلدان المتقدمة بخصوص النساء هو نموذجي ولا يمكن الطعن فيه,لأن في ذلك هو مجافاة للحقيقة في الكثير من وجوهها, ولكن المقارنة مع ما يحصل في مجتمعاتنا هو الذي يضعنا في صورة التفاوت المريع.
اليوم قد يكون من السهل على التنظيمات السياسية الدينية المتطرفة في البحث عن مبررات لأقصاء المرأة من ميادين الحياة المختلفة وانتهاء ضربها في امومتها في ظل بيئات متخلفة تعيد انتاج عورة المرأة ودونيتها كثقافة ذكورية سائدة, وان التذرع بعدم كفاءة الأنثى تربويا في الأمومة والرعاية لغاية الثامنة عشر من عمر الطفل يشكل جزء من منظومة الارهاب الفكري والسلوكي لأضطهاد المرأة الأم وعدم السماح لها بأداء دورها التربوي في الامومة والاعداد الاولي.
لقد فشلت البرلمانات العراقية ما بعد 2003 في التشريع لبناء أسس دولة المواطنة وبناء عراق آمن بعيدا عن المليشيات وقوى اللادولة كما فشل في التشريع لمحاربة الفساد الذي نخر الدولة وأهدر مواردها, واخفق في وضع حد للسلاح المنفلت الذي قتل الابرياء والسلميين في احتجاجات اكتوبر, ولم يشرع بما يضمن سلامة العملية السياسية والديمقراطية في البلاد ولم يستطيع وضع للأحزاب المليشياوية التي تقبع تحت قبة البرلمان وتسهم في صياغة اكثر قوانينه اجحافا بحق الشعب والدولة والمجتمع, ولكن البرلمان شاطر في التعبئة المشوهة لهدم الأسرة والمجتمع والعبث في الطفولة لتعزيز الثقافة الذكورية وبالأستعانة من البرلمانيات النساء ذات الثقافة الذكورية العدوانية اتجاه نساء من بنات جلدتها.
قد لا نستغرب من وجود لوبي عصي ضد المرأة العراقية فأن مقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 لسنة 1959 يعكس مزاج الكراهية للمرأة رغم الأدعاء الشكلي بأحترامها. ولكن في العراق وبعد تجربة اكثر من عقدين من الزمن من تجربة الأسلام السياسي في الحكم ان هناك وعي بديل دخل البيوت العراقية, تتجسد ملامحه في التوق الى المساوة بين الجنسين في مناحي الحياة المختلفة, ويصطدم هذا مع اجندة الأسلام السياسي في اعادة انتاج الثقافة الذكورية لأغراض بقائه, وبالتالي فأن كل التشريعات المتوقعة والمجحفة من قبل السياسين ذوي الثقافة الذكورية والسياسيات ذات التوجه الذكوري لا تعني ابدا تغيرا سريعا في الوعي العراقي صوب الاستسلام بل ان الوعي التراكمي نحو دولة المواطنة والحق والمساواة بين الجنسين سيجد ضالته بعد ان شق طريقة بألاف الضحايا والسشهداء من اجل عراق صالح للجميع إلا القتلة. نعم لا لتعديل قانون الأحوال المدنية رقم 188 للعام 1959, ولا لثقافة الأغتصاب المشرعن ولا لعهد الجواري.