22 ديسمبر، 2024 3:31 م

بعض العرب يضيّعون الفرصة مرة أخرى

بعض العرب يضيّعون الفرصة مرة أخرى

كان بإمكان العديد من الدول العربية، وفي مقدمتها دول الخليج وخصوصا المملكة السعودية وقطر، استثمار التغيير الذي شهده العراق في 2003 وفتح صفحة جديدة مع الشعب العراقي وبناء علاقات ودية تحترم العراق، ولا تتدخل في شؤونه.
 وكانت كل الأجواء مهيئة لذلك، لاسيما وأن الإطاحة بصدام تمت على يد حليفها الامريكي، وأيضا لأن أغلبية الشعب العراقي تناست مواقف هذه الدول السلبية من ثورته في آذار/ شعبان 1991، وبدت مسرورة للخلاص من نظامه ومشغولة بالتطلّع إلى مستقبل أفضل يُنسيها ويلات الحروب والمعتقلات والمقابر الجماعية والحصار الاقتصادي.
لكن هذه الدول لم تستثمر الفرصة، وبدأت حملة واسعة على صعد الإعلام والسياسة والاقتصاد لعرقلة مسيرة العراق الجديد، توجتها بدعم مجاميع مسلحة وزجها في العراق لقتل المواطنين الأبرياء وتخريب مدنهم، واثارة النعرات الطائفية بتأليب بعضهم على البعض الآخر.
وبلغ العداء بين هذه الدول والعراق ذروته في ظل حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وطالبت كلها برحيل الأخير محملة إياه مسؤولية تخريب العلاقات بينها وبين العراق، ووعدت بفتح صفحة جديدة وفتح سفاراتها في العراق ومساندته في حربه ضد الإرهاب وعدم التدخل في شؤونه.
ورحل المالكي، وبرحيله، لم يبق من عذر للحكومة السعودية، وتفاءل كثيرون بطي الخلافات معها ومع سائر دول الخليج، لأنها تمتلك سطوة واضحة على هذه الدول، وأرسل العراق أكبر وفد، ربما  في التاريخ معزيا  بوفاة الملك عبد الله، كبادرة لحسن النية، لم تُقرأ جيدا من قبل السعوديين، ولم يُستقبل الوفد العراقي بحفاوة تليق به، وكانت تلك رسالة واضحة على تكبّر سعودي وعدم جدية في تحسين العلاقات مع العراق.
 ومازالت السعودية تماطل بفتح سفارتها ببغداد، وعلى كل حال، فعيون العراقيين ليست ظمأى لإطلالة السفير السعودي أو القطري، لكن المماطلة الخليجية بفتح صفحة جديدة مع العراق تكشف عن سوء الموقف السعودي المهيمن على القرار الخليجي، وإصراره على بث الفرقة والخلافات بين العراقيين.
في حضرة كيري وزير خارجية أمريكا، الذي حط الرحال في الرياض قبل ايام مفزوعا من انتصارات الجيش والحشد الشعبي في صلاح الدين،  قال سعود الفيصل وزير خارجية السعودية “ايران تبتلع العراق” وهي عودة لذات النغمة التي ظلت حكومة المملكة ترددها على مدى عقد من الزمن، وكأن العراق قطعة حلوى يمكن لإيران أن تخفيها بين فكيها، أو قدح شاي يمكن أن تحتسيه فيختفي.!
على العراقيين إذن أن يغيّروا الجغرافيا ويختاروا جيرانهم حتى ترضى السعودية، عليهم مثلا أن يضعوا إسرائيل بدل إيران على حدودهم الشرقية حتى تُقر أعين الساسة السعوديين ممن أشبعتهم أرقا سياسة إيران.
ولو أطل الفيصل ببصره قليلا نحو البحرين، لوجد الاف الجند ومئات المدرعات الخليجية ومنها سعودية وهي تستبيح ارض البحرين وتبتلع هذه الجزيرة بكل وقاحة، ولو مدّ البصر قليلا نحو مصر لبانت له آثار تدخل بلاده في شؤون هذا البلد لحساب طرف ضد طرف آخر. أما في سورية فالمجاميع المسلحة التي تديرها المخابرات السعودية تفتك بهذا البلد مثل الوباء، وكذلك الحال في اليمن.
أظن أن حديث المسؤولين السعوديين عن التدخل الإيراني في العراق ينطوي على وقاحة بالغة وتجاهل مقرف لكل الحقائق السوداء في أداء السياسة السعودية.
 المهم، أن تصريح الفيصل لم يكن جديدا، لكنه الأحدث بعد تولي السيد العبادي رئاسة الوزراء، وهو يكشف عن ثبات وإصرار سعودي على عدم تغيير الموقف السلبي من العراق، فالسعوديون لا يريدون إدراك الحقيقة ومازالوا يعيشون تحت وقع الصدمة منذ 2003 والى اليوم.، ومن اللافت أن عداء السعودية للعراق، العربي، الجار، ” والشقيق” يفوق كثيرا عداءها لإسرائيل الغاصبة المارقة.
الحقيقة التي لا يريد السعوديون الاعتراف بها، هي أن الشرق الأوسط تغير فعلا منذ الإطاحة بحكم صدام حسين، وكانت ارهاصات التغيير في المنطقة قد بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي، فالعراق لم يعد محكوما بالأقلية، كما أن الهيمنة السعودية على القرار العربي، لن تدوم طويلا، وإن أنفقت الأموال الطائلة لشراء مواقف دول عربية تعاني الأزمات.
الحوثيون في اليمن كانوا مجاميع مسلحة على سفوح جبال صعدة. بدأوا في تسعينيات القرن الماضي بمواجهة السلطة التي همّشتهم عقودا طويلة، وهم اليوم يحكمون صنعاء ويسيطرون على سبع محافظات يمنية من أصل 22 محافظة، وهو تطور لافت يشير إلى أن هذه الحركة في الخاصرة السعودية تتطور وتكبر ولديها القدرة لاجتياح مناطق أخرى، وعلى قادة السعودية أن يدركوا أن مدّهم للتكفيريين في اليمن على مدى عقدين من الزمن للتصدي لحركة الحوثيين لم يأت بنتيجة.
والحال نفسه يتكرر في العراق، فبعد عمل سياسي وإعلامي ومخابراتي وحربي حثيث من قبل السعودية وقطر ودول أخرى، لم ينجح المشروع السعودي وبدأ ينكفئ ومن أبرز إنجازات السياسة السعودية إزاء العراق تكوّن مجاميع الحشد الشعبي التي باتت اليوم القوة الفاعلة على الأرض ويمكنها أن تلعب دورا مهما في الواقع السياسي العراقي في المستقبل القريب.
خصوصا وأنها تحظى بدعم كبير من الشارع العراقي، وحتى في المناطق السنّية التي اكتوت بنيران المشروع السعودي الذي أحال المدن السنيّة إلى رماد وجعل العراقيين السنّة تحت رحمة مجاميع ارهابية من الفاشلين والقتلة والمجرمين جمعتهم مخابرات وأموال السعودية وقطر وتركيا من دولهم لتلقي بهم في مدن السنّة وتحيلها خرابا.
هذه كلها مؤشرات على فشل المشروع السعودي، وهو مدعوم في النهاية من الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل، وفشله يعني فشل داعميه ايضا. لكن المشكلة ان السعودية لا تريد إدراك ذلك وتتجاهل الحقائق بغباء، أو ربما لأنها لا تملك خيارات أخرى لفرض هيمنتها.
لكن في النهاية عليها أن تدرك أن الأوضاع تتغير باستمرار  ولابد لها من الاعتراف بمحدودية حجمها الحقيقي ولا تحاول اللعب في ساحات  لا تجيد اللعب فيها. ما هو واضح أن العراق بدأ يستعيد بعضا من عافيته ميدانيا، كما أن محاصرته اقتصاديا بالتسبب بانهيار اسعار النفط لن تؤثر عليه كثيرا وسيتجاوز هذه المرحلة، فوحده العراق من يملك القدرة والحق في كتابة السطور الأخيرة في حكايته هذه.