19 ديسمبر، 2024 7:35 ص

بعض الأفكار عن الطابع المتناقض في عالم النفط والطاقة

بعض الأفكار عن الطابع المتناقض في عالم النفط والطاقة

في لقائي عام 1981 بالسيدة ماركَريت تاتشر بلندن ، صحبة صديق صحفي بريطاني ،  قلتُ لها مجاملاً : (إن عظمة الغرب الرأسمالي يتجلى بوجود امرأتين تقودان بريطانيا العظمى..) ابتسمت قائلة : (ان عظمة مناطق الشرق الفقيرة المبعثرة تتجلى في انها مركز الطاقة المعاصرة ومصدرها) .

تُرى هل ظل الشرق الأوسط رأساً ،مديراً ومدبراً، لجوهر القضية النفطية ومصدراً للطاقة المعاصرة في القرن الحادي والعشرين، أيضاً ، أم أن هناك سمات ظواهر اقتصادية – نفطية محددة وجديدة قد لا يمكن رؤيتها بعيون عربية منشغلة بإحصاء الوفيات اليومية ، وتوفير وسائط نقل المواطنين ،وتوفير السلع الغذائية والاستهلاكية ، والانشغال ببيع وشراء وايجار المساكن للناس الفقراء، رغم وجود الدور الكبير العربي على المسرح العالمي ..؟

ببساطة يمكن رؤية البلدان الخليجية المعروفة بضخامة انتاجها النفطي مثل ايران والعراق والكويت وعمان وقطر والسعودية في حال  ما زالت حتى الان لم تكتشف الكثير من منابع النفط فيها ولم تتمكن منظمتها – الاوبك – ان تتقن دورها المرسوم لها في اجتماع تأسيسها قبل 54 عاما .

في هذه الأيام نجد الكثير من القراءات والتأويلات حول القضية النفطية العراقية ومستقبل العائدات المالية  المتحصلة من صادرات النفط باعتبارها الكتلة المالية الرئيسية الإجمالية في بناء الميزانية السنوية مما جعل ميزانية العام 2015 بالذات غير متحررة حتى من ابسط الصعوبات وهو أمر لا يساعد على رؤية مستقبل المجتمع العراقي من زاوية (التقدم) الاقتصادي .

بعض تلك القراءات والتأويلات يأتي من مصادر عراقية رسمية – مجلس الوزراء أو وزارة النفط – بعضها يأتي من خبراء نفط أو اقتصاديين عراقيين.  التصريحات الرسمية غالبا ما تكون إشارات مجزوءة تعتبر أن هبوط أسعار النفط خلال الشهرين الاخيرين مجرد (قضية عابرة) مما يجعلها وصفة رسمية متعالية على الواقع . بينما  دراسة وآراء الخبراء العراقيين من امثال فاضل الجلبي ومحمد علي زيني وعصام الجلبي وغيرهم  تنم عن واقع ديالكتيكي عن  حركة الأسعار والإنتاج في النظام الرأسمالي العالمي ، خصوصا ما يتعلق بأهم سلعة عالمية هي (النفط) مما يفرض الحاجة الماسة الضرورية في بلادنا، ذات الاحتياطي النفطي الكبير، أن تكون التصورات الرسمية معتمدة أساساً على العلاقة بين (الواقع النفطي)  و(الوعي النفطي).  بمعنى أن يُبنى التصور الرسمي الحكومي على معرفة عميقة لمجموعة الأحكام والتناقضات،  التي تتحكم بكل قضايا النفط ( الاستثمار.. التنقيب.. التصدير.. التسعير..) وغير ذلك من أمور الصناعة النفطية.

في هذه الفترة بالذات نشأت مخاوف كثيرة وعميقة  في بلادنا ، المعتمدة على عائدات النفط بدرجة كبيرة.  المخاوف الرسمية والشعبية نتجت ليس فقط عن موجة انخفاض النفط بنسبة تقارب50 بالمائة عما كانت عليه الأسعار في نهاية عام 2014 ، بل ناجمة ،أيضا، عن عدم وجود بنية استثمارية وطنية كافية ،تؤهل العراق الى عدم الاعتماد على التحكم الأجنبي بمصائر ثروتنا الطبيعية، خاصة اذا ما عرفنا أن قانون العرض والطلب هو المتحكم الأول بالأسعار النفطية. فكلما ازدادت الاسعار كلما تولـّدت الاتجاهات التصاعدية في مزيد من الاستثمار، وكلما انخفضت الأسعار كلما تراجع الاستثمار في بلادنا  ، أو اضطر للاعتماد على العون الاجنبي. هذا هو الفعل الأساسي المتبادل في قوى السوق النفطية ،من خلال تقلبات الاسعار النفطية،  في الفترة 2000 – 2015 .

في الواقع النفطي لم تكن الأزمة الأخيرة ،في هذه الأيام، هي الأولى من نوعها . مثلا حدث عام 1986 انهيار كبير في الأسعار، بعد ارتفاع كبير فيها خلال السبعينات، مما جعل دول الاوبك تتردد في الاستثمار لكشف آبار جديدة وذلك للمحافظة على انتاج ثابت، نسبياً، كي لا تنهار الاسعار أكثر وأكثر،  لكن ذلك لم يصبح هو الازمة النفطية الاخيرة، إذ حدث انهيار جديد عام 1998 – 1999 لسبيين هو وجود (فائض في الانتاج) يقابله وجود (طلب محدود ) .يمكن القول ان حالة ارتفاع الاسعار هي في غالب الاحيان لصالح الدول المنتجة المصدرة للنفط  ، حيث تزداد عائداتها السنوية.  كذلك فأن انخفاض الأسعار هو دائما لصالح الدول المستهلكة المستوردة للنفط ، حيث يساعد ذلك الانخفاض تلك الدول على تحقيق معدلات تنمية أعلى بسبب القيمة الاستعمالية العالية للنفط في استخدامات صناعية متعددة الانواع والاغراض.  كما أن مستوى تقدم صناعة التكرير يلعب دوراً كبيراً، أيضا ، في تحديد مستوى العرض والطلب على النفط الخام. كلما تقدمت الصناعة التكريرية والصناعة البتروكيمياوية عموما كلما ازداد الطلب فترتفع الاسعار. أما اذا تراجع مستوى التكرير ومستوى الصناعة البتروكيمياوية  في فترة معينة او توقفت لسبب من الاسباب المالية  او بسبب الحروب كما في حرب الخليج الاولى أو بسبب المقاطعة الاقتصادية للعراق مثلا في تسعينات القرن الماضي حين فرض الحصار الاقتصادي على العراق، فأن مستويات العرض النفطي تتراجع كثيراً هي الأخرى.

القضية النفطية هي في الحقيقة من القضايا الاقتصادية المعقدة في بلادنا، وفي  العالم كله.  من الضروري عدم تبسيطها كما يحاول بعض المسئولين الحكوميين في وزارة النفط وغيرها. بل من الضروري مواصلة البحث فيها ، دائما، وتبيان مراحلها الخارجية العليا في علاقاتها الداخلية الدنيا ،  التي تظهر في بعض مراحلها او في كل مراحلها، حالات التناقض بين (العرض) و(الطلب) في السوق الخارجية أو حالات التناقض بين (الانتاج) و(الاستثمار) في السوق الداخلية. إن الطابع التناقضي في القضية النفطية يتطلب من خبراء وزارة النفط العراقية  تناولاً دراسياً متجدداً بصورة دائمة.  مثل هذه الدراسات تصلح لاستخدامها ليس فقط في بناء سياسة نفطية وطنية ملائمة ، بل لتصبح علامة رئيسية يُستهدى بها لبناء سياسة اقتصادية صحيحة ومتكاملة.  لا بد من الانتباه ،هنا، أن من الصعب جداً تحقيق أي نهوض اقتصادي شامل في بلادنا من دون القيام باختيار الطرق والاساليب الاقتصادية القادرة على ايجاد التوازن بين القطاع النفطي المفعم حاليا بالحركة وبين القطاعين الزراعي والصناعي اللذين يبدوان بملامح غير متحركة .

هذا الموقف تواجهه كل الدول المنتجة للنفط في منطقة الخليج وفي روسيا وامريكا والمكسيك وكندا، وفي بعض الدول الاخرى. كل دول العالم المنتجة للنفط أو المستهلكة له لا تستسلم للوقائع النفطية الجارية حالياً او في اي وقت. إن أي دولة نفطية، متينة البنيان وقديرة، لا تكون مضطرة للاستسلام والتراجع حالما تواجه الصعاب، بل تعمد الى تغيير طابع هيكلها النفطي لتكون قادرة على مواجهة كل التغيرات والمجابهات، بما فيها أحداث مصاحبة للحروب، كما كان الحال لدى الدول الكبرى والصغرى في ظروف حرب الخليج الاولى، التي دارت بين دولتين نفطيتين، ايران والعراق،  وحرب الخليج الثانية ، التي دارت رحاها حول آبار النفط في الكويت والعراق، وحرب الخليج الثالثة، التي فرضها الغزو الامريكي للعراق بعد تعطل طويل للرقعة النفطية العراقية لزمن طويل من اوهام نظام صدام حسين عن قدرته في الدمج بين المتناقضات، مما أدّى في نهاية المطاف لجعل بلادنا بلا هياكل اقتصادية منتجة .

الاوضاع والتجارب المحيطة بمجمل قضايا النفط العالمي قادت الى تغيير استراتيجية السياسة النفطية العالمية المسيطر عليها منذ بدايات القرن العشرين من قبل الشقيقات النفطية السبع (اكسون.. وشل.. وبريتش بتروليوم.. وموبيل.. وشيفرون.. وجلف وتكساكو..) التي لا توفر لنفسها، في اية لحظة من لحظات وجودها ، شعوراً بالنصر أو الثقة.  إنها دائمة التغيير في خططها الاستراتيجية، لتخفيض الحاجة الى الطاقة من منطقة الخليج،  لكي توفر لنفسها امكانية تلافي وتجنب احتمالات سلبية ،نتيجة وقوع تغيرات عظيمة في ما يتعلق بإمدادات النفط،  عبر ممرات بحرية معرضة لأخطار المواقف السياسية والتصعيدات العسكرية، مثل مضيق هرمز وقناة السويس، وباب المندب، ومضيق البوسفور، وبحر قزوين، ومضيق ملقا وغيرها، وهي أخطار محتملة عن صراعات سياسية أو مواجهات عسكرية،  بما في ذلك احتمال نشوب حرب جديدة  في الشرق الاوسط  (حرب الخليج الرابعة) وغير ذلك من التغيرات المختلفة، خصوصا بعد انشغال العراق وليبيا واليمن وسوريا بمشاهد حروب داخلية مشتملة على جميع سمات انتقال تلك الحروب أو تأثيراتها الى دول نفطية اخرى بسبب مستحدثات الصراع مع قوى الارهاب الدولي،  المتمثل بتنظيم القاعدة والدولة الاسلامية (داعش) .ربما تظهر منظمات إرهابية أخرى في منطقة الشرق الاوسط التي تضم 70% من الاحتياطي النفطي العالمي. من هذا المنظور تستغل الولايات المتحدة الامريكية المتحدة انخفاض اسعار النفط لتخزين كميات هائلة منه تحوطاً للمستقبل.

نتيجة الأوضاع السياسية والاقتصادية والنفطية ،القائمة في العقد الاول من القرن الحادي والعشرين، فأن الشركات النفطية في العالم الغربي الأكثر استهلاكا للنفط، تربط فعالياتها في الوقت الحاضر بمصالح وخطط مستقبلية ذات علاقة بالطاقة النفطية بالذات. أهم هذه الفعاليات تقوم على عنصرين: 

العنصر الأول: ان الصراع  النفطي في العالم في القرن الــ21 لم يعد مشتداً كما في القرن الــ20 ولم تعد مشاهد هذا الصراع هي نفسها ،التي كانت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، بعد ان تحولت الآن كل من روسيا وامريكا الى منتج للنفط يقارب في كل منهما ما تنتجه المملكة العربية السعودية .

العنصر الثاني:  ان هذا الواقع المتغير في الاسعار النفطية ساعد على إيجاد حالة عاصفة في  ميداني  البحث عن (الغاز والنفط) والدخول الى الاستكشاف النفطي الجديد ليس بوسائل تقليدية، بل بوساطة الاقمار الصناعية.

هذان العنصران توفرت فيهما مخارج جديدة لمعالجة (الاستهلاك النفطي) المتزايد في الغرب وفي الصين، حيث أوجدت الشركات النفطية الغربية منصات وطرق جديدة للبحث عن منابع جديدة،  والمحاكاة بجميع الوسائل، لإيجاد بدائل عن النفط العربي، ليس عن طريق تطوير بدائله في انتاج الطاقة من الفحم والرياح والذرة، والبحث عن طاقة بديلة، بل بإعادة تصميم الاستراتيجية النفطية الغربية  على الاسس الجديدة التالية :

(1)            اعتماد نظرات ونظريات جديدة في العالم الغربي تؤثر كثيرا في المستقبل القريب على تغيير طبيعة انتاج النفط من الآبار التقليدية، بالتوجه إلى آبار جديدة النوع، تنتج نفطا ليس تقليديا.  مثل انتاج النفط الثقيل جدا في فنزويلا وانتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة والنفط المقطرن في كندا  التي تكلفتها تتراوح بين 30 – 40 دولارا للبرميل الواحد.

(2)            اعتماد وسائل تنقيب وكشف النفط في الأعماق، على الأرض وفي البحار،  ليس فقط بوسائل المسح الزلزالي او الحفر العميق او استخدام التكنولوجيا الحديثة المتطورة لاستخراج النفط الخام ، بل  استخدام الاقمار الصناعية في الاكتشاف ورسم الخرائط. مما يمكن استخدامها في الشرق الاوسط كي تظل كلفة انتاج البرميل الواحد في الخليج  محافظة على حدود 4 – 5 دولار.

(3)            في عام 1945 صرّح الزعيم البريطاني ونستون تشرشل بالقول:  ( أن من يسيطر على جبال افغانستان يستطيع بالتالي السيطرة على نفط  منطقة بحر قزوين ).. منذ بداية القرن الحالي بدأت الاكتشافات الهائلة في تلك البقاع  خاصة في أذربيجان وكازاخستان اللتين تتراوح كلفة انتاج البرميل الواحد فيهما بحدود 20 – 25 دولارا  . تقول بعض الاحصائيات الامريكية الجديدة أن احتياطي الدولتين المذكورتين  من النفط ارتفع من 7 مليار برميل في القرن العشرين  إلى 75 – 80 مليار في القرن الحادي والعشرين.

(4)            العمل على رفع مستويات الصناعة النفطية بمجملها ، الاستثمارية والاستخراجية والتكريرية، وقد توصلت شركات النفط بقصد الحصول على كميات بديلة هائلة من خلال استخدام تكنولوجيا جديدة تسمح بتحسين وتسريع استخراج النفط ، أمريكا وروسيا ، نموذجاً.

(5)            ربما يأتي وقت قريب تستطيع فيه جهود الشركات النفطية الجديدة من انتاج انواع اكثر جودة من نفط الخليج مثل نفط غرب تكساس، وانترميديت، وبرنت، حيث يحتوي على القليل من الكبريت يجعله خفيفاً ينتج قيماً مضافة في الصناعة البتروكيمياوية.

(6)             التطور العالمي في ميادين النفط كافة هدفه الاول والاخير هو تقليل اعتماد الغرب على نفط الاوبك . ربما  تصبح اغلب بلدان الخليج باستثناء السعودية في وضع تسعى  فيه خلال عام 2020  لاستعادة مكانتها بمستوى تصدير عام 2014  أي بمستوى حصصها السوقية الحالية.

ستظل اسواق النفط العالمية في العقد القادم تواجه  صراعاً كبيراً لأنها – اي الاسواق –  تتضمن أطرافاً متعددة،  متناقضة ، تتصارع مصالحها كثيراً،  فهناك بلدان (مستهلكة)  ترغب دائما بأسعار منخفضة للنفط والغاز والطاقة عموما، لتحقيق معدلات عالية في التنمية الاقتصادية ، مثل بعض الدول الاوربية والصين واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها الكثير. وهناك بلدان (منتجة) للنفط مثل روسيا وامريكا وكندا والمكسيك ودول الاوبك وغيرها ترغب أن تكون الاسعار مرتفعة ،بشكل كبير، لتحقيق التنمية الاقتصادية، بما فيها تنمية استكشاف الحقول النفطية وتطوير انتاجها ، خصوصا من أجل الاستثمار في تطوير مصادر بديلة للطاقة النفطية، لتلافي جميع احتمالات الانقلاب السعري في ميادين النفط .

إن واقعية حال الطاقة النفطية في العقد الاول من القرن الحادي والعشرين تجعل الجميع، منتجين ومستهلكين، يبحثون عن وسائل تضامنية متبادلة من اجل تجاوز التحدي لجعل الاسواق النفطية اكثر اندماجا لتحقيق الأمن النفطي العامي وتلافي كل ازماته. لكن السؤال يبقى قائماً: هل يستطيع المنتجون والمستهلكون ان يستبعدوا الاختلافات المشتركة وان يقربوا المواقف المشتركة..؟

أحدث المقالات

أحدث المقالات