أود بداية لفت الانتباه إلى أن ما سنذكره ليس عاماً بالطبع وليسمطلقاً ، فقد نصيب في طرح بعض النقاط الأساسية الخاصةبإشكالية الصفحات الثقافية والسياسية في صحفنا اليوميةوالأسبوعية ، وقد نخطئ في بعض منها مما يتوجب علينا أن نتفق معما أصاب هذه الصفحات من تعثر ومن ثم نرفدها برؤيتنا الخاصة وقدنختلف مع ما نعتقد أنها أخطأت فيه ، ونصبوا بها في الرؤية التيتنطلق من مواقفنا الفكرية.
ما الذي تريده صفحة أو صفحات محدودة تعنى بالشأن الثقافيوالفكري والسياسي بين صفحات جريدة يومية أو أسبوعية ؟ ثم ماذاتستطيع أن تقدمه هذه الصفحات المعدودة في مطبوع غير ذاتاختصاص ثقافي / سياسي مباشر لأن تكون جامع شامل بما يعطيللإسهام الفكري خطاً مناسباً فيه ؟
سؤالان نحس بضرورة الإجابة عنهما بتوضيح عناصرهما مع بسط مايمكن أن يشكل الرؤيا الثقافية والسياسية للعمل الخصوصيوالإضافي الذي تزعم أن هذا المطبوع أو ذاك يريد أن يسهم بهالإسهام المتواضع والخلاق في آن .
إن المقصود بالصفحتين الثقافية والسياسية في رأينا :- تلكالصفحات التي توجه اهتمامها للقراء عامة من دون تخصيص فئةمحددة منهم ، إذ تعمد إلى عرض موضوعاتها بأسلوب يبتعد عن لغةالتخصص البحت وحرفيتها وأن كانت مطلوبة بعض الأحيان ، وتهدفإلى توسيع مدارك القراء عامة بتقديم موضوعات شاملة أو تقريبحقائق معرفية لهم يصعب عليهم تتبعها في الأعمال التخصصيةولايعني هذا الاهتمام السعي نحو كسب جمهور كبير من القراءتنازلها الموضوعي لما ينشر فيها بل يجب أن تحرص على ذلك متوخيةتبسيط الموضوعات لتكون قريبة من ذهن القارئ غير المتخصص .
وعلى ذلك فإن من أبرز ما يميز تقديم أية صفحة ثقافية أو سياسيةمتميزة في جريدة يومية أو أسبوعية لقرائها هو مساهمتها في أثراءمعرفتهم بحوار عقلاني خصب وخلاق من خلال تقديمها لهمموضوعات ذات مستوى معرفي معقول لايقل عن مستوى أي واحدمنهم مهما كانت مستويات خلفياتهم المعرفية لتكون بذلك مجالاً رحباًلمناقشة قضاياهم ومشكلاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعيةوالفكرية والأدبية على هدي من الموضوعية العقلانية والنقدية وفي ضوءالجديد من معطيات البحث السياسي والفكري والأدبي وانعكاساتالواقع الحي وما يفرضه عليه من تحديات توجب مراجعة متجددةلرصيد وأدوات وثقافة عمل هؤلاء القراء. فأن هذه الصفحات عليها انتسعى للتجاوب مع نوعين من القراء:- قارئ تفترضه فتقدم اليه وهوموجود، المادة التي يريد الاطلاع عليها، جدية ومنوعة. وقارئ آخر يريدان توجده فتخرجه من غيابه او حياده، وهي على يقين من حضوره،فتحاول ان تجعله يسترد الثقة في امكانية هذه الصفحات، بأن يتعرفعلى طراز آخر من التعامل مع الوسط السياسي والفكري.
وبذلك ، سيصبح لهذه الصفحات في واقع الأمر دور مهم وخطير إذإنها ستسعى نحو نشر الوعي الفكري والسياسي بين قطاع كبير منالقراء الذين يجذبهم لقراءتها تنوع موضوعاتها وسهولة التناولللقضايا المصيرية المطروحة على أرض الواقع أولاً وثانياً حتى تكونلسان صدق يعبر عن العقل والحرية باعتبارها أداتين لبناء المستقبلووسيلتها إلى ذلك أن تكشف عن مواضع الداء وسلبياته المحبطة فيحياة مواطننا بجوانبها المتعددة وما تنطوي عليه من ايجابيات محفزةأو تحديات تستفز الهمم لمواجهتها وتجاوزها على نحو يدفع هذاالقارئ إلى التزام نهج قويم في معالجة شؤونه العامة .
إن الإسهام الثقافي / السياسي لأكثر المطبوعات العراقية الآن يريدأن يكون عراقياً أولاً ، أي منطلقاً من صميم الإحساس بشواغل الثقافةوالسياسة العراقية الراهنة وبحثها لإعادة صياغة وتجديد قدراتهاوهياكلها الفكرية . وهذا المسعى لاينفصل في العمق عن التجربةالعربية الشاملة متعددة الفروع في المجالات السياسية والاجتماعيةوالاقتصادية والثقافية ، في منظورنا جزء من هذه التجربة الكليةوباعث من بواعث نهوضها وتحررها .
إن هذا الإسهام الثقافي / السياسي ثانياً يريد أن يعالج قضاياالثقافة والأدب والسياسة والفكر … معالجة متفحصة نقدية بما يجنبهالإسفاف والمحاباة أو يوقعه في كثير من المزالق المعهودة ، ولكييصدر عن هذه الروح لابد له من خط فكري جاد ومن التزام مبدئي غيرهين يجنبه الانتهازية التلفيقية بين كل المواقف والتيارات .
إن الالتزام الفكري المبدئي من شروطه الأساس وضوح في الرؤياوإحساس بضرورة تثوير فكرنا / ثقافتنا ، وتعميق كثير من مفاهيمهاومجانبة السطحية وأساليب المعالجة المخملية . غير أن هذه المبدئيةلاتعني الجمود أو المفهوم الفكري ذا البعد الواحد بل تسعى أن تتحركوفق التصورات والاجتهادات الثقافية والإبداعية حين تصب هذه فيمجرى أنماء رؤيتنا الفكرية وتمكننا من توليد وتقديم إنتاج ناضجعميق ومتفتح.
وفي خط الالتزام الفكري المذكور لانعدم أن نتحرك ضمن فضاءسياسي وإيديولوجي ، على أن العمل الفكري / الثقافي هنا يأخذبعين الاعتبار ظروف ومكونات هذا الفضاء ، ويعمل على استيعابهامحققاً التفاعل والريادة في صيغة مشتركة . وإذا كنا نفهم سلفاً بأنهلاثقافة بدون سياسة أو موقف سياسي فأننا في الوقت ذاته نطلب منالسياسة أن تشترك معنا في أهداف التقدم والتجديد وعندئذ فلن ينظرإلى الإسهام الثقافي كتابع أو بوق ولكن كمشروع خلاق يمتلك زادهالخاص وأدواته المستقلة في إخصاب الحياة السياسية والفعلالاجتماعي في وطننا العزيز العراق .
ونحن نتحدث عن جدية الخط الفكري السديد لانريد أن يكون هذامبعث استثقال أو يسري الضجر إلى احد . إن صفحات معدودة أياًكانت نوايا واستعداد من يشرف عليها غير قادرة على أن تقدم الكثيرأو أن تكون بديلاً لمشروع ثقافي سياسي حقيقي نحلم به جميعاً .
منذ فورة إصدار الصحف التي أعقبت يوم التاسع من نيسان وأناأتابع ما ينشر في صفحاتها الثقافية والسياسية بحرص وبدقة ،ولأنني كذلك سأقول رأيي بصدق وبموضوعية فيما ينشر في هذهالصفحات . ويقيني أن مسؤولي هذه الصفحات لن يغضبوا وهميقرأون رأيي وتعليقاتي لأنه يعتمد على متابعة جادة وتجربة مهنيةمازالت قائمة وقريبة من عمل هذه الصفحات ، وماذنبي إذا التزمتالصدق والموضوعية في تقييم واقع هذه الصفحات التي سأعرض هنابعض وجوه اشكالياتها أو أزمتها بلا غمز ولا لمز والمتمثلة في:-
1- غياب المسؤول أو المشرف ، الحر الواعي ، المثقف ثقافة واسعة . فأن أكثر الأضرار التي ابتليت بها هذه الصفحات هي بسبب غيابهذا المسؤول.
2- الشللية التي تتحكم في بعض هذه الصفحات من أدعياء المعرفةتجمعهم غرائزية نفعية شخصية وعقد نفسية ومركبات نقص ، تدفعهمفي إحاطة هذه الصفحات بأسلاك أدمت أقلام ارفع منهم منزلة ،أبقوها متعمدين خارج حدود مطبوعهم لغايات باتت معروفة للجميع .
3- إطلاق أحكام وتأويلات بائسة فقيرة بخلفيتها المعرفية من قبلالمشرفين على هذه الصفحات عند فحصهم أية مادة مقدمة لهم لاتعتمدأساس أو مقياس أو منهج ثابت في تقييم كتابات عدد لا يستهان بهمن ذوي الخبرة الفكرية والسياسية والأدبية .
4- النمطية الشكلية التي تتمتع بها هذه الصفحات من خلال التشابهالتقليدي للموضوعات فيما تحتويه وبخاصة المناسباتية .
5- فقدان الحوار الحقيقي على هذه الصفحات الذي يتناولموضوعات ذات موقف فكري مستقل وشجاع وواع ومدرك لخطورةالمواقف وحساسيتها ، حوار من ذلك الذي لاينتهي بالضرورة إلىاتفاق كامل في وجهات النظر ولكنه الحوار الذي يوضح الأفكار ويعمقالرؤى ويدفع بالاجتهادات المتعددة إلى أقصى نتائجها المنطقية أويرشد المواقف حتى تمضي على طريقها الصائب الذي يحاول انيقترب من الحقيقة دائماً.
6- نشر المقالات الإنشائية البائسة جداً التي تعكس مستوى أخلاقياتالمسؤول / المشرف ومستوى ترديه المعرفي والتي دفعت قارئنا اللبيبإلى النفور منها وبالنتيجة فقدانه – تم فقدانه فعلاً – ومن ثم انعدامإمكانية صحفنا من أنجاز مهمتها أو رسالتها المكلفة بها في صناعةمفاهيم عقل القارئ وتكييف اتجاهاته السياسية والفكرية ، وهذاالحاصل الآن للأسف الشديد على ارض الواقع، والأمثلة عديدةوملموسة ومعروفة للجميع إحداها أكوام الصحف المرتجعة في مخازنمراكز التوزيع .
7- عدم نشر مقالات طويلة خشية لاداعي لها من كونها قد تأتي علىنصف المساحة المخصصة أو مايزيد ، بينما هي في تقديري مسألةطبيعية يجب أن تتبناها هذه الصفحات كحالة استثنائية في ظل غيابوجود مطبوعة أسبوعية متخصصة .
إن الصفحات الثقافية / السياسية تعتبر اليوم أداة فكرية حضاريةراقية من دون شك تسعى إلى أن تكون وسيلة تساعد على كسرالحاجز المعرفي بين قرائها وبين الآخر المتقدم أولاً وثانياً لتصبح منبراًمستنيراً للحوار الفكري الجاد والمثمر حول القضايا المهمة التي تشغلبال أي مثقف أو متابع وتمثل همومه ، وان الثقة التي يمنحها القارئالمتابع لهذه الصفحات ، لا يجوز أن تكون يوماً مادة تفريط وتبديد بليجب أن تكون سنداً للمواجهة ولتأكيد فعل وعمق مادتها في العقولوالقناعات ، تلك قواعد التعامل السليم الذي يجب أن يقوم بين هذهالصفحات ومن يقبلون عليها ويعطونها ثقتهم وهو ما يلزمها تحديداً .
إننا نريد من هذه الصفحات وفي هذا الظرف القاسي أن تكونواضحة القسمات تسعى لخدمة جوانب حياتنا السياسية والفكريةوالاجتماعية بل وحتى الاقتصادية حيث تحمل هموم وقضايا لا نريدهاأن تتحول – وهذا الواقع بالفعل – إلى أشبه بالدوائر الرسمية يقتلهاالغباء الإداري .
نريد منها أن تكون رائدة ثورة فكرية حقيقية ترفع القارئ وتنشر الوعيالفكري والسياسي بلا تحجر، لكن الذي يبدو للمتأمل في حياتناالفكرية الراهنة أننا نعود من حيث ندري أو لاندري ، بقصد قد يكونمبطناً أو من دون قصد إلى نقطة الصفر . وليست هذه العودة كمايظهر لأول وهلة نتيجة لمراجعات فاحصة للتجربة أو التجارب التي مرتبنا وتقييمات دقيقة لأسسها ومعطياتها ونتاجها ، ولكنها إعادة لنفسالتجربة أو التجارب انطلاقاً من نفس الأسس والمقدمات وكأنه محتومعلينا كمثقفين أن نظل ندور داخل محيط الدائرة المغلق .
إن التزام الصفحات المعنية بخط فكري مبدئي تنويري سيغذي حتماًشرايين الفكر المعرفي والسياسي العراقي بدم جديد . فلماذا غلقالأبواب في وجه البعض بحجج واهية ؟ ولماذا عدم إفساح المجالللحوار الفكري والسياسي الملتزم والواعي من خلالها ؟ ولماذا النظرإلى الأشياء من منظار شخصي خاص قد يكون مصاباً بخلل نفسي؟ ولماذا لاتكون قيمة النص جواز مروره إلى النشر في الصفحة ؟
هذه أبجدية مبدئية أساسية نعترف بأنه صار مطلوباً منا تجديدها فيدماء صفحاتنا الثقافية والسياسية وتوجهاتها الفكرية وألا سنسقط – ونحن فعلاً سقطنا من زمن بعيد في الواحدية الشكلية – وسنفقدقارئنا – ونحن فعلاً فقدناه – وبذلك سعينا بأنفسنا نحو تضييق حيزالنخبة الفكرية من حيث نعلم بقصد أو لانعلم …
أننا نأمل من صفحاتنا الثقافية والسياسية في قادم الأيام أن تتجاوزكل هذه الأمور نحو الصدق والصفاء والوضوح والبحث عن الحقيقةالمجردة وبأسلوب واقعي وبروح علمية لا تهويل فيها ولا تجريح ، تحترمالطرح الموضوعي والعلمي، واضحة الأفكار والمبادئ البناءة ، تسعىبكل ذلك إلى إثراء فكر القارئ ووجدانه ، وان كل محاولات التدجينوالنفاق والمساومة ستفشل إمام علمية المسؤول المبدئي الحر وعدمرغبته في تقديم أي تنازلات على صعيد قناعاته المبدئية التي تقف فيوجه كل تزييف للحقيقة وتشويه الواقع الفكري .