23 ديسمبر، 2024 6:31 م

بعض أوجه إشكاليات الصفحات الثقافية والسياسية

بعض أوجه إشكاليات الصفحات الثقافية والسياسية

أود بداية لفت الانتباه إلى أن ما سنذكره ليس عاماً بالطبع وليس مطلقاً ، فقد نصيب في طرح بعض النقاط الأساسية الخاصة بإشكالية الصفحات الثقافية والسياسية في صحفنا اليومية والأسبوعية ، وقد نخطئ في بعض منها مما يتوجب علينا أن نتفق مع ما أصاب هذه الصفحات من تعثر ومن ثم نرفدها برؤيتنا الخاصة وقد نختلف مع ما نعتقد أنها أخطأت فيه ، ونصبوا بها في الرؤية التي تنطلق من مواقفنا الفكرية.
ما الذي تريده صفحة أو صفحات محدودة تعنى بالشأن الثقافي والفكري والسياسي بين صفحات جريدة يومية أو أسبوعية ؟ ثم ماذا تستطيع أن تقدمه هذه الصفحات المعدودة في مطبوع غير ذات اختصاص ثقافي / سياسي مباشر لأن تكون جامع شامل بما يعطي للإسهام الفكري خطاً مناسباً فيه ؟
سؤالان نحس بضرورة الإجابة عنهما بتوضيح عناصرهما مع بسط ما يمكن أن يشكل الرؤيا الثقافية والسياسية للعمل الخصوصي والإضافي الذي تزعم أن هذا المطبوع أو ذاك يريد أن يسهم به الإسهام المتواضع والخلاق في آن .
إن المقصود بالصفحتين الثقافية والسياسية في رأينا :- تلك الصفحات التي توجه اهتمامها للقراء عامة من دون تخصيص فئة محددة منهم ، إذ تعمد إلى عرض موضوعاتها بأسلوب يبتعد عن لغة التخصص البحت وحرفيتها وأن كانت مطلوبة بعض الأحيان ، وتهدف إلى توسيع مدارك القراء عامة بتقديم موضوعات شاملة أو تقريب حقائق معرفية لهم يصعب عليهم تتبعها في الأعمال التخصصية ولايعني هذا الاهتمام السعي نحو كسب جمهور كبير من القراء تنازلها الموضوعي لما ينشر فيها بل يجب أن تحرص على ذلك متوخية تبسيط الموضوعات لتكون قريبة من ذهن القارئ غير المتخصص .
وعلى ذلك فإن من أبرز ما يميز تقديم أية صفحة ثقافية أو سياسية متميزة في جريدة يومية أو أسبوعية لقرائها هو مساهمتها في أثراء معرفتهم بحوار عقلاني خصب وخلاق من خلال تقديمها لهم موضوعات ذات مستوى معرفي معقول لايقل عن مستوى أي واحد منهم مهما كانت مستويات خلفياتهم المعرفية لتكون بذلك مجالاً رحباً لمناقشة قضاياهم ومشكلاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والأدبية على هدي من الموضوعية العقلانية والنقدية وفي ضوء الجديد من معطيات البحث السياسي والفكري والأدبي وانعكاسات الواقع الحي وما يفرضه عليه من تحديات توجب مراجعة متجددة لرصيد وأدوات وثقافة عمل هؤلاء القراء. فأن هذه الصفحات عليها ان تسعى للتجاوب مع نوعين من القراء:- قارئ تفترضه فتقدم اليه وهو موجود، المادة التي يريد الاطلاع عليها، جدية ومنوعة. وقارئ آخر يريد ان توجده فتخرجه من غيابه او حياده، وهي على يقين من حضوره، فتحاول ان تجعله يسترد الثقة في امكانية هذه الصفحات، بأن يتعرف على طراز آخر من التعامل مع الوسط السياسي والفكري.
وبذلك ، سيصبح لهذه الصفحات في واقع الأمر دور مهم وخطير إذ إنها ستسعى نحو نشر الوعي الفكري والسياسي بين قطاع كبير من القراء الذين يجذبهم لقراءتها تنوع موضوعاتها وسهولة التناول للقضايا المصيرية المطروحة على أرض الواقع أولاً وثانياً حتى تكون لسان صدق يعبر عن العقل والحرية باعتبارها أداتين لبناء المستقبل ووسيلتها إلى ذلك أن تكشف عن مواضع الداء وسلبياته المحبطة في حياة مواطننا بجوانبها المتعددة وما تنطوي عليه من ايجابيات محفزة أو تحديات تستفز الهمم لمواجهتها وتجاوزها على نحو يدفع هذا القارئ إلى التزام نهج قويم في معالجة شؤونه العامة .
إن الإسهام الثقافي / السياسي لأكثر المطبوعات العراقية الآن يريد أن يكون عراقياً أولاً ، أي منطلقاً من صميم الإحساس بشواغل الثقافة والسياسة العراقية الراهنة وبحثها لإعادة صياغة وتجديد قدراتها وهياكلها الفكرية . وهذا المسعى لاينفصل في العمق عن التجربة العربية الشاملة متعددة الفروع في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، في منظورنا جزء من هذه التجربة الكلية وباعث من بواعث نهوضها وتحررها .
إن هذا الإسهام الثقافي / السياسي ثانياً يريد أن يعالج قضايا الثقافة والأدب والسياسة والفكر … معالجة متفحصة نقدية بما يجنبه الإسفاف والمحاباة أو يوقعه في كثير من المزالق المعهودة ، ولكي يصدر عن هذه الروح لابد له من خط فكري جاد ومن التزام مبدئي غير هين يجنبه الانتهازية التلفيقية بين كل المواقف والتيارات .
إن الالتزام الفكري المبدئي من شروطه الأساس وضوح في الرؤيا وإحساس بضرورة تثوير فكرنا / ثقافتنا ، وتعميق كثير من مفاهيمها ومجانبة السطحية وأساليب المعالجة المخملية . غير أن هذه المبدئية لاتعني الجمود أو المفهوم الفكري ذا البعد الواحد بل تسعى أن تتحرك وفق التصورات والاجتهادات الثقافية والإبداعية حين تصب هذه في مجرى أنماء رؤيتنا الفكرية وتمكننا من توليد وتقديم إنتاج ناضج عميق ومتفتح.
وفي خط الالتزام الفكري المذكور لانعدم أن نتحرك ضمن فضاء سياسي وإيديولوجي ، على أن العمل الفكري / الثقافي هنا يأخذ بعين الاعتبار ظروف ومكونات هذا الفضاء ، ويعمل على استيعابها محققاً التفاعل والريادة في صيغة مشتركة . وإذا كنا نفهم سلفاً بأنه لاثقافة بدون سياسة أو موقف سياسي فأننا في الوقت ذاته نطلب من السياسة أن تشترك معنا في أهداف التقدم والتجديد وعندئذ فلن ينظر إلى الإسهام الثقافي كتابع أو بوق ولكن كمشروع خلاق يمتلك زاده الخاص وأدواته المستقلة في إخصاب الحياة السياسية والفعل الاجتماعي في وطننا العزيز العراق .
ونحن نتحدث عن جدية الخط الفكري السديد لانريد أن يكون هذا مبعث استثقال أو يسري الضجر إلى احد . إن صفحات معدودة أياً كانت نوايا واستعداد من يشرف عليها غير قادرة على أن تقدم الكثير أو أن تكون بديلاً لمشروع ثقافي سياسي حقيقي نحلم به جميعاً .
منذ فورة إصدار الصحف التي أعقبت يوم التاسع من نيسان وأنا أتابع ما ينشر في صفحاتها الثقافية والسياسية بحرص وبدقة ، ولأنني كذلك سأقول رأيي بصدق وبموضوعية فيما ينشر في هذه الصفحات . ويقيني أن مسؤولي هذه الصفحات لن يغضبوا وهم يقرأون رأيي وتعليقاتي لأنه يعتمد على متابعة جادة وتجربة مهنية مازالت قائمة وقريبة من عمل هذه الصفحات ، وماذنبي إذا التزمت الصدق والموضوعية في تقييم واقع هذه الصفحات التي سأعرض هنا بعض وجوه اشكالياتها أو أزمتها بلا غمز ولا لمز والمتمثلة في:-
1- غياب المسؤول أو المشرف ، الحر الواعي ، المثقف ثقافة واسعة . فأن أكثر الأضرار التي ابتليت بها هذه الصفحات هي بسبب غياب هذا المسؤول.
2- الشللية التي تتحكم في بعض هذه الصفحات من أدعياء المعرفة تجمعهم غرائزية نفعية شخصية وعقد نفسية ومركبات نقص ، تدفعهم في إحاطة هذه الصفحات بأسلاك أدمت أقلام ارفع منهم منزلة ، أبقوها متعمدين خارج حدود مطبوعهم لغايات باتت معروفة للجميع .
3- إطلاق أحكام وتأويلات بائسة فقيرة بخلفيتها المعرفية من قبل المشرفين على هذه الصفحات عند فحصهم أية مادة مقدمة لهم لاتعتمد أساس أو مقياس أو منهج ثابت في تقييم كتابات عدد لا يستهان به من ذوي الخبرة الفكرية والسياسية والأدبية .
4- النمطية الشكلية التي تتمتع بها هذه الصفحات من خلال التشابه التقليدي للموضوعات فيما تحتويه وبخاصة المناسباتية .
5- فقدان الحوار الحقيقي على هذه الصفحات الذي يتناول موضوعات ذات موقف فكري مستقل وشجاع وواع ومدرك لخطورة المواقف وحساسيتها ، حوار من ذلك الذي لاينتهي بالضرورة إلى اتفاق كامل في وجهات النظر ولكنه الحوار الذي يوضح الأفكار ويعمق الرؤى ويدفع بالاجتهادات المتعددة إلى أقصى نتائجها المنطقية أو يرشد المواقف حتى تمضي على طريقها الصائب الذي يحاول ان يقترب من الحقيقة دائماً.
6- نشر المقالات الإنشائية البائسة جداً التي تعكس مستوى أخلاقيات المسؤول / المشرف ومستوى ترديه المعرفي والتي دفعت قارئنا اللبيب إلى النفور منها وبالنتيجة فقدانه – تم فقدانه فعلاً – ومن ثم انعدام إمكانية صحفنا من أنجاز مهمتها أو رسالتها المكلفة بها في صناعة مفاهيم عقل القارئ وتكييف اتجاهاته السياسية والفكرية ، وهذا الحاصل الآن للأسف الشديد على ارض الواقع، والأمثلة عديدة وملموسة ومعروفة للجميع إحداها أكوام الصحف المرتجعة في مخازن مراكز التوزيع .
7- عدم نشر مقالات طويلة خشية لاداعي لها من كونها قد تأتي على نصف المساحة المخصصة أو مايزيد ، بينما هي في تقديري مسألة طبيعية يجب أن تتبناها هذه الصفحات كحالة استثنائية في ظل غياب وجود مطبوعة أسبوعية متخصصة .
إن الصفحات الثقافية / السياسية تعتبر اليوم أداة فكرية حضارية راقية من دون شك تسعى إلى أن تكون وسيلة تساعد على كسر الحاجز المعرفي بين قرائها وبين الآخر المتقدم أولاً وثانياً لتصبح منبراً مستنيراً للحوار الفكري الجاد والمثمر حول القضايا المهمة التي تشغل بال أي مثقف أو متابع وتمثل همومه ، وان الثقة التي يمنحها القارئ المتابع لهذه الصفحات ، لا يجوز أن تكون يوماً مادة تفريط وتبديد بل يجب أن تكون سنداً للمواجهة ولتأكيد فعل وعمق مادتها في العقول والقناعات ، تلك قواعد التعامل السليم الذي يجب أن يقوم بين هذه الصفحات ومن يقبلون عليها ويعطونها ثقتهم وهو ما يلزمها تحديداً .
إننا نريد من هذه الصفحات وفي هذا الظرف القاسي أن تكون واضحة القسمات تسعى لخدمة جوانب حياتنا السياسية والفكرية والاجتماعية بل وحتى الاقتصادية حيث تحمل هموم وقضايا لا نريدها أن تتحول – وهذا الواقع بالفعل – إلى أشبه بالدوائر الرسمية يقتلها الغباء الإداري .
نريد منها أن تكون رائدة ثورة فكرية حقيقية ترفع القارئ وتنشر الوعي الفكري والسياسي بلا تحجر، لكن الذي يبدو للمتأمل في حياتنا الفكرية الراهنة أننا نعود من حيث ندري أو لاندري ، بقصد قد يكون مبطناً أو من دون قصد إلى نقطة الصفر . وليست هذه العودة كما يظهر لأول وهلة نتيجة لمراجعات فاحصة للتجربة أو التجارب التي مرت بنا وتقييمات دقيقة لأسسها ومعطياتها ونتاجها ، ولكنها إعادة لنفس التجربة أو التجارب انطلاقاً من نفس الأسس والمقدمات وكأنه محتوم علينا كمثقفين أن نظل ندور داخل محيط الدائرة المغلق .
إن التزام الصفحات المعنية بخط فكري مبدئي تنويري سيغذي حتماً شرايين الفكر المعرفي والسياسي العراقي بدم جديد . فلماذا غلق الأبواب في وجه البعض بحجج واهية ؟ ولماذا عدم إفساح المجال للحوار الفكري والسياسي الملتزم والواعي من خلالها ؟ ولماذا النظر إلى الأشياء من منظار شخصي خاص قد يكون مصاباً بخلل نفسي ؟ ولماذا لاتكون قيمة النص جواز مروره إلى النشر في الصفحة ؟
هذه أبجدية مبدئية أساسية نعترف بأنه صار مطلوباً منا تجديدها في دماء صفحاتنا الثقافية والسياسية وتوجهاتها الفكرية وألا سنسقط – ونحن فعلاً سقطنا من زمن بعيد في الواحدية الشكلية – وسنفقد قارئنا – ونحن فعلاً فقدناه – وبذلك سعينا بأنفسنا نحو تضييق حيز النخبة الفكرية من حيث نعلم بقصد أو لانعلم …
أننا نأمل من صفحاتنا الثقافية والسياسية في قادم الأيام أن تتجاوز كل هذه الأمور نحو الصدق والصفاء والوضوح والبحث عن الحقيقة المجردة وبأسلوب واقعي وبروح علمية لا تهويل فيها ولا تجريح ، تحترم الطرح الموضوعي والعلمي، واضحة الأفكار والمبادئ البناءة ، تسعى بكل ذلك إلى إثراء فكر القارئ ووجدانه ، وان كل محاولات التدجين والنفاق والمساومة ستفشل إمام علمية المسؤول المبدئي الحر وعدم رغبته في تقديم أي تنازلات على صعيد قناعاته المبدئية التي تقف في وجه كل تزييف للحقيقة وتشويه الواقع الفكري .
[email protected]