(( النبوة تجربة تقوم على عقيدة تؤمن بقدرة الإنسان على تخطي ممكناته البشرية، ولأنها كذلك يعتقد النبي أنّ له الحق بأن (يتألهن) خارجاً من قيد الإنسانية إلى إطلاق الإلوهية. وهكذا يسعى بكل جهده لتحقيق هذا (التألهن)، لكن حلم (الألهنة) لا يمكن تحقيقه، الأمر الذي يضطر النبي في النهاية إلى الإقرار بأن طوق البشرية محكم عليه بصورة مطلقة، شأنه شأن بقية البشر، وهكذا ينهار الإله فيه ويبقى الإنسان فقط. النبي يستخدم كلام الرب فقط، لكنه لا يستطيع استخدام سيفه ولا قوته ولا جبروته، هو يسعى لذلك، لكن سرعان ما يكتشف بأن الأمر مقتصر على الكلام، ما يدفعه بعد ذلك للتشكيك حتى بهذا الكلام، وربما الكفر به))……. سعدون محسن ضمد- من إعترافات آخر متصوفة بغداد.
أستكمالا للمقالة ألسابقة بعنوان (ألباطنية وألتصوف ألإسلامي) سنبحث في هذه ألمقالة وفي مقالات قادمة بعض أعلام ألتصوف ألإسلامي:
إنّ ذا ألنون ألمصري ألمولود سنة 245 هجرية (859 ميلادية) سبق أن أخفى تجاربه ألصوفية ” يا إلاهي علنا أدعوك سيدي، ولكن عندما أكون لوحدي أدعوك ياحبي”. وحسب ألتقليد فإنّ ذا ألنون كان أول من صاغ ألتعارض بين ألمعرفة ألحدسية (ألتجربة) لله وألعلم ألإستدلالي (ألغير ألحدسي):
” مع كل ساعة تمضي يصبح ألعارف (ألغنوصي) أكثر تواضعا، لإنّ كل ساعة تقرّبه أيضا من ألله، إنّ ألعارفين ليسوا ذاتهم، وإنّما في ألمقياس ألذي يوجدون في ألله. إنّ حركاتهم مثارة من قبل ألله، وكلامهم هو ألكلمات ألتي نطقها ألله بلسانهم”.
وتقتضي ألإشارة هنا إلى عبقرية ذي ألنون، حيث أنّ تراتيله ألممجدة لعظمة ألرب أفتتحت ألتقييم ألصوفي للشعر.
إنّ ألفارسي أبو يزيد ألبسطامي ألمولود سنة 46 هجرية (874 ميلادية) هو واحد من ألصوفية ألذين كثر معارضوهم ومنتقدوهم في ألإسلام، وهو لم يكتب كتابا ولكن تلامذته نقلوا ما هو أساسي في تعاليمه تحت شكل قصص صغيرة وحكم،
ألبسطامي بتنسكه ألقاسي وتأمله ألمركّز على جوهر ألله حصل على ألفناء وهو أول من صاغ إنعدام ألذات، كما كان أول من وصف تجاربه الصوفية في عبارات من ألمعراج ( ألصعود ألليلي للنبي محمّد إلى ألسماء)، ولقد حقق ألتوحد مع ألله مؤقتا. وكذلك أعتقد ألبسطامي بالوحدة ألمطلقة بين ألمحبوب وألمحب والحب.
في إنتشاء تلفّظ ألبسطامي ب(تعابير طوباوية) ومتكلما كأنّه إله:
” كيف وصلت إلى هنا؟ إنني متجرد من ذاتي كحية تسلخ جلدها، ثمّ تأملت جوهري. وكنت أنا هو “
وأيضا : ” إنّ ألله راقب كل ألضمائر في ألعالم ورأى أنّها فارغة منه، ماعدا ضميري حيث يرى نفسه في طوبى “.
لقد فسّر ألمستشرق زهنر، بعد مستشرقين آخرين تجربة ألبسطامي ألصوفية كمحصلة لتأثير هندي، وبصورة دقيقة تأثير ألفيدأنتاشاتكريان.
مع رؤية ألأهمية ألمعطاة للتنسك ولتقنيات ألتأمل، يرد ألتفكير في اليوغا، ومهما يكن من أمر، فإنّ بعض معلمي الصوفية شككوا في أنّ ألبسطامي حقق ألأتحاد مع ألله. وحسب رأي ألجنيد البغدادي: ” ألبسطامي بقي في ألبدء، إنّه لم يدرك حالة ألتمام أو ألمطلق وألنهاية “.
أمّا ألحلّاج فاعتقد بوصول ألبسطامي إلى عتبة الصيغة ألإلهية وظنّ أنّه من ألله أتته هذه ألكلمات. ولكن ألطريق كان مرصوفا بالعقبات من أناه: ” مسكين أبو يزيد لقد قال إنّه لا يعلم ألتعرف أين وكيف يجب توحيد ألروح مع ألله .
إنّ أبو ألقاسم ألجنيد ألمولود في 29 هجرية (910 ميلادية) كان ألمعلم الحقيقي لصوفية بغداد. وقد ترك ألعديد من الرسائل في أللاهوت والتصوف ألثمينة وبخاصة من اجل تحليل ألتجارب الروحية ألمتوجبة لإمتصاص ألروح في ألله.
يشير ألجنيد في تعليمه لأهمية القناعة ألتي يضعها في مقابل ألسكر الروحي ألمطبّق من قبل ألبسطامي. فبعد التجربة الوجدية التي تعدم الفرد، يقتضي ألحصول على (الزهد ألثاني) عندما يرجع الإنسان واعيا لذاته وتعاد إليه صفاته، متحولا إلى روح في حضرة ألإله. إنّ الهدف الغائي للتصرف حسب ألجنيد ليس هو (ألفناء) وإنّما حياة جديدة في ألله (ألبقاء)…. ” وهو الذي يبقى “.
إنّ ألجنيد وهو مقتنع بأنّ التجربة ألصوفية لا يمكن صياغتها في لغة عقلية، حظّر على تلامذته ألكلام أمام غير ألمسارين (ألمتلقنين).
إنّ رسائل ألجنيد ومحرراته دونت في نوع من أللغة ألسرية ألغير ألمفهومة للقاريء ألغير متآلف مع تعليمه.
هنالك معلم إيراني آخر هو حسين ألترمذي ألمولود سنة 285 هجرية (898 ميلادية)، لقّب بالحكيم (الفيلسوف) لأنّه ألأول بين ألصوفيين أستعمل ألفلسفة ألهيلنستية.
ألترمذي مؤلّف غزير ألإنتاج (نحوا من تسعين كتيب)، وقد عرف ألترمذي بصورة خاصة في (خاتم ألولاية). وقد طوّر فيه لغة صوفية كما أستعملت منذئذ.
إنّ زعيم ألتراتبية ألصوفية هو(القطب) أو (الغوث)، ولا تشكّل درجات القداسة ألتي وصفها ألترمذي تراتبية للحب، إنّها ترجع للعرفان وإشراقات القدّيس، ومع الترمذي يصبح ألتأكيد على ألعرفان أكثر وضوحا ومهيئا الطريق إلى تعليمات دينية صوفية متاخرة.
لقد أكدّ ألترمذي على معنى ألولاية (الحب الإلهي) كمسارة روحية، وميّز فيها بين درجتين:
ولاية عامة معطاة لكل ألمؤمنين، وولاية خاصة محفوظة لنخبة روحية (خلّص لله)، يتعاملون ويتواصلون معه، لانّهم معه في حالة إتحاد فعّال ومتصاعد. وعليه يلاحظ هنري كوربان ” بأنّ ألمعنى للولاية ألمزدوجة هو في ألمحل الأول قد وضع وأقيم بواسطة ألنظرية الشيعية “.
بتحليل علاقات ألولاية وألنبوة يستخلص ألترمذي سيادة الولاية، لأنّها دائمة وليست مرتبطة بلحظة تأريخية كالنبوة.
وفي ألواقع، فإنّ دورة ألنبوة تكتمل مع ألنبي محمّد، بينما دورة ألولاية تتمدد لآخر الزمان، ويلاحظ تشابه هذه ألنظرية مع نظرية ألعلم ألنبوي ألشيعية.
مصادر البحث:
تأريخ ألمعتقدات وألأفكار ألدينية…… ميرسيا إلياد- ألمترجم: ألمحامي عبدألهادي عباس
أعترافات آخر متصوفة بغداد…..سعدون محسن ضمد- سلسلة مقالات منشورة في ألحوار ألمتمدن