23 ديسمبر، 2024 1:30 ص

بعد 18 عاما على التغيير..العراق بين كماشتي الفوضى والاحتلال

بعد 18 عاما على التغيير..العراق بين كماشتي الفوضى والاحتلال

مرت الذكرى السنوية الثامنة عشرة على الاطاحة بنظام صدام واحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الاميركية، تحت مظلة ما اطلق عليه “التحالف الدولي”، في ظل اجواء ومناخات سياسية مضطربة وقلقة، جراء تراكمات اخطاء الاعوام الماضية من جانب، والحقائق والمعطيات الراهنة من جانب اخر، وما افرزه ذلك التداخل والتشابك الكبير بين تراكمات الامس وحقائق اليوم، ليضفي المزيد من التعقيد على المشهد العام في البلاد، ويقلص فرص وافاق الحلول والمعالجات المطلوبة.

وطبيعي انه في كل عام، ومع مرور الذكرى السنوية لذلك الحدث التأريخي الكبير، تطرح قراءات واراء ووجهات نظر متباينة، بشأن خلفيات وظروف وتداعيات ومخرجات ما حدث، من دون ان تتبلور رؤية اجمالية واحدة بمسار معين واضح، تكون فيه نقاط الالتقاء اكثر من نقاط الافتراق.

وفي خضم الفوضى والاضطراب السياسي والمجتمعي العام، وغياب الافق الايجابي لوضع حد لحالة النكوص والتراجع، بصرف النظر عن الاسباب والعوامل والظروف التي افضت لذلك، يكرر البعض من النخب الثقافية والاجتماعية والرأي العام، بأن عهد النظام السياسي السابق كان افضل مما هو قائم حاليا، ولاشك ان مثل هذه النظرة تبدو قاصرة وضيقة الى حد كبير، لانها لا تتوقف ولاتتبع جذور المشكلات والازمات القائمة اليوم، وتكتفي بمقارنات سطحية لاتلامس تلك الجذور.

في ذات الوقت، يذهب بعض اخر، الى التسويق لرؤية مفادها، ان اوضاع ما بعد سقوط نظام صدام هي في كل الاحوال افضل مما قبلها، تجنبا من الوقوع في فخ اضعاف التجربة الجديدة وتبرير سلوكيات وممارسات وسياسات حقبة الطغيان والاستبداد، والتثقيف لها سواء عن قصد او من دون قصد.

وبقدر حجم التعقيد، والكمّ الهائل من الاشكاليات السياسية والامنية والاقتصادية والاجتماعية التي حفل بها المشهد العراقي العام على امتداد الاعوام الثمانية عشر المنصرمة، فأنه من الصعب بمكان القول بصحة احدى الرؤيتين وبخطأ الاخرى، ومثلما قال رئيس الجمهورية برهم صالح في تغريدة له عبر موقع التواصل الاجتماعي (تويتر)، “لا يمكن الاستخفاف بالتحولات الكبرى المتحققة بعد التغيير، ويجب ان نقر بأخفاقات لا يمكن تبريرها فقط بأرث النظام السابق، وان الوضع الحالي بحاجة لعقد سياسي جديد يُصلح الحكم نحو دولة مقتدرة ذات سيادة”.

بيد انه من المهم جدا التوقف عند العوامل التي ساهمت في صياغة ورسم معالم وملامح وحقائق كلتا المرحلتين، والاطراف والادوات المحركة والمخططة والموجهة، وطبيعة اجنداتها وحقيقة اهدافها الخفية والمعلنة.

ولعل النقطة الجوهرية المهمة، التي يمكن من خلال الربط بين الكثير من الحقائق والوقائع، تتمثل في ان الذي جاء بنظام حزب البعث للسلطة في عام 1968، ومن ثم مكّن صدام من الاستحواذ عليها بالكامل، وشجعه ودفعه الى شن الحروب العدوانية على جيرانه، ايران في عام 1980، والكويت في عام 1990، والحكم بالحديد والنار على ابناء شعبه، هي ذات الاطراف والقوى الدولية والاقليمية التي تبنت او ساهمت بأسقاطه، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الاميركية، اذ انه بقدرة قادر اصبح ذلك النظام المسكوت عنه لفترة طويلة، نظاما استبداديا عدوانيا منتهكا للمواثيق الدولية ومهددا للامن والسلم الدوليين، ينبغي التخلص منه، ولكن ليس بعد غزوه لدولة الكويت، لان حسابات المصالح كانت تقتضي ابقائه وتقويته واسناده، وهذا ما حصل طيلة تسعينيات القرن الماضي، علما ان الذرائع والحجج التي ساقتها واشنطن لانهاء نظام صدام لم تكن مقنعة بالقدر الكافي، خصوصا لمن يعرف ويفهم ويدرك حقيقة الاهداف والخطط الاميركية.

واذا كانت السياسات والمواقف الاميركية والغربية، وكذلك العربية، هي من اوجدت مجمل الكوارث والويلات التي حلت بالعراق بسبب نظام صدام، فهي ذاتها تقريبا التي كرست مظاهر الفوضى والاضطراب وغياب الاستقرار في العراق بعد التاسع من نيسان-ابريل 2003، فالولايات المتحدة الاميركية التي احتلت العراق وفرضت حاكما اميركيا عليه يتصرف كيفما يشاء، هي التي حلت معظم مؤسساته الحكومية، العسكرية والامنية والسياسية والاعلامية، وهي التي اباحت عمليات النهب والسلب لاموال وممتلكات الدولة، واوجدت ثقافة “الحواسم”، وهي التي وضعت معادلات سياسية قلقة تقوم على اعتبارات طائفية وقومية، لم تكن سوى قنابل موقوتة قابلة للانفجار في اية لحظة، وهي التي هيأت ومهدت الارضيات المناسبة للتنظيمات والجماعات الارهابية المسلحة لتصول وتجول في طول البلاد وعرضها، وهي التي شرعنت ثقافة الفساد الاداري والمالي، لتتعطل الزراعة والصناعة وتتراجع الخدمات الاساسية ويتدهور التعليم، وتنعدم فرص النهوض وتتلاشى افاق التقدم والازدهار.

ولم يكن ملايين العراقيين الذين فرحوا واستبشروا كثيرا بزوال نظام صدام، بحاجة الى وقت طويل ليدركوا ويستوعبوا ان الولايات المتحدة التي جعلت نظام صدام يجثم على صدورهم لسنين طوال، لن تتركهم يواصلوان فرحتهم، لانها فتحت صفحة مأساوية جديدة، بعناوين ومسميات واشكال ومظاهر اخرى.

ولعله بعد اعوام قلائل من الغزو والاحتلال، بات هناك ادراك في الشارع العراقي ولدى مختلف النخب والشرائح، بأن الكثير من المشاكل والازمات التي حصلت، كان من الممكن ان لاتحصل لولا السياسات الخاطئة –عن قصد او من دون قصد-لواشنطن، بدءا من عهد الحاكم المدني بول بريمر، والذي شهدت الاربعة عشر شهرا لعمله في العراق وقوع اخطاء وكوارث انسحبت تأثيراتها الى المراحل اللاحقة لها، وهذا الشيء ادركه الساسة الاميركان انفسهم.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، اكدت العضوة السابقة في مجلس النواب الاميركي لين وولسي، في تصريحات صحفية لها قبل بضعة اعوام، انه “لايمكن للرأي العام العراقي ان ينظر الى مثل هذا العدد الضخم من القوات الاميركية، الا على انه قوة احتلال مستمر، وانه مادام ينظر الى الولايات المتحدة على انها طرف محتل، لن يستطيع العراقيون تحقيق الوحدة المطلوبة والمصالحة وبذل مزيد من جهود التحول الديمقراطي اللازمة كي يحققوا استقرارا طويل الامد في البلاد”،

ورغم ان القوات الاميركية انسحبت من العراق بصورة كاملة في نهاية عام 2011، وفق الاتفاقية الامنية المبرمة بين الطرفين في عام 2008، الا ان المعطيات والحقائق على الارض لم تتبدل كثيرا، لاسيما بعد اجتياح تنظيم داعش الارهابي لعدد من المدن العراقية في صيف عام 2014، وبالتالي تواصلت واتسعت حالة الشد والجذب، لان واشنطن اصرت على استمرار تواجدها العسكري في العراق، وبغداد اصرت على انهائه، لزوال مبررات وحجج ذلك التواجد، ولما تسبب به من مشاكل وازمات.

بالتأكيد، لن تنصلح احوال العراق مباشرة بعد طوي صفحة الغزو والاحتلال نهائيا، ومن غير الممكن ان تتبدل الاوضاع بين ليلة وضحاها، لكن طوي هذه الصفحة من شأنه ان يضع البلد على السكة الصحيحة، مع الاخذ بعين الاعتبار حقيقة، ان النفوذ الاميركي في العراق لايقتصر على الوجود العسكري فحسب، بل ان هناك مؤسسات ومفاصل سياسية وامنية واقتصادية حساسة، ينبغي اخراجها من دائرة الهيمنة الاميركية، حتى تأتي النتائج بمستوى الامال والطموحات والتطلعات بمغادرة العراق مراحل الفوضى والفساد والاضطراب والاحتلال، بعدما غادر الطغيان والتسلط والاستبداد قبل ثمانية عشر عاما.