22 ديسمبر، 2024 8:54 م

بعد 100 عام .. لابد للإرث أن ينكسر

بعد 100 عام .. لابد للإرث أن ينكسر

في السعي الى تطبيق النظريات الفلسفية والفكرية الحديثة على شعوب منطقة الشرق الاوسط وهم في تضليل وتجهيل قدسي طوعي الا القلة من العقول المتحررة فلابد للارث ان ينكسر ولابد من تعويم ثقافة التطهير من عوالق القرون الاولى وما تراتب عليها من النمطية التقليدية الماضوية ولابد من تاسيس مناهج التنوير الحداثوية، ولابد من احداث انقلاب فكري راديكالي ثوري يتجاوز حالة الجمود الاصلاحية والوسطية الى حقبة من التجديد والتغيير البنيوي الاجتماعي والسياسي والعقائدي باتجاه المسارات الحيوية الاخرى، فبعد 100 عام على قيام الغرب برسم خرائط الكيانات الجغرافية لازالت الازمات والصراعات والصفحات تبدأ من حيث لا تنتهي وبقيت المنطقة ضمن المنظومات الحكومية السلطوية الاستبدادية واصبحت بذلك بيئة ديناميكية تديم التحولات الانقلابية العسكرية والاجندات الاقليمية والتدخلات العالمية، كل هذه الصراعات هي امتداد تاريخي لما قبل رسم المنطقة وعمقها الاستراتيجي يعود الى همجية البداوة القبلية التي انطلقت منذ القرن الاول واستطاعت بالسيف والجزية ان تبلس اي اثر حضاري في نمطية العقيدة والقومية وافرزت مراتب اجتماعية معقدة في ثنائية الاسياد والغوغاء وفقا الى شريعة ربطت اطاعة اولي الامر بالقدسية المطلقة، ولهذا استكان العقل في فضاء هذه الثنائية ولم يستطيع النفوذ الى اثير التحرر والمعرفة الى ان صحت الشعوب على اصوات المدافع الاوربية وهي تفضح مدى التخلف الفكري والسلوكي لهذه الشعوب على المستوى التنظيمي والمؤسساتي وكان السبب واضحا في انهم ابقوا على العلوم الفقهية النقلية بما انها مطلقة وقبروا العلوم المعرفية العقلية بما انها نسبية، ولكن لم تُحدِث اصوات المدافع الصاخبة تجديدا بنيويا عميقا في البيئة الفكرية وبقيت ضمن التحديث والاصلاح ولم ترتقِ تلك الصحوة لابعاد تخرق الحاجز المانع الجامع للحداثة فتكسر الارث السقيم وزيف التاريخ العقيم .
الاشكالية المزمنة الكبرى في منظومة الاجتماع العربي الاسلامي هي في التعاظم الاثرائي والروحي لمراتبية فئة الاسياد وما يلحق بهم من التقديس، وفي التصاغر التنموي والتعليمي لفئة الغوغاء وما يجري عليهم من التدليس بينما لازالت الفئة الاجتماعية النخبوية في بيئة برزخية بين السرد التنظيري والتأثير التفاعلي وبين جدلية مفهومية الاصلاح والابقاء على ذات النسق الارثي وبين قطع حبل ذلك الارث الممدود منذ اماد مديدة، هذه الازدواجية البنيوية ادت الى اضعاف الدور الهادف في تنمية الجمهور واصبح محط جدل واسع حيث لم يكن ايجابيا في حالات تاريخية كثيرة وهي بحد ذاتها اصبحت اشكالية بسبب الامراض والتهميش الذي جرى عليها من الحاكمية السلطوية التي تعاقبت وهي اليوم صغيرة ومبعثرة وغير قادرة على انتاج اي حركة قيادية تستقطب التعبئة الشعبية كونها تغرق في الادبيات والسرديات وسراب الادلجة والنقد الغير ممنهج وعدم قدرتها على التكوين المؤسساتي والتنظيمي لخلق قواعد منهجية يمكن الانطلاق منها باحداث تغييرات حركية فاعلة وبالتالي المساهمة العملية بدفع المجتمع الى مستويات تقدم كبيرة وتهيئة قيادات سياسية مهنية تنافس بذلك اسياد العقيدة وشيوخ البداوة وزعماء السلطة، ولكن واقع الحال يؤشر بان تلك الفئة اصبحت اليوم منتفعة ماديا واعتباريا واصبحت مهادنة للمنظومة الحزبية والحكومية وتعمل بالخفاء على تفتيت وتفكيك اي معارضة حقيقية عن طريق تشتيت الوعي الجماهيري والالهاء والتضليل الذي تمارسه من خلال الاعلام والترويج لولي النعمة بل ان بعضهم اصبح اداة طيعة لتعظيم الرموز والهالات المقدسة عن طريق المناشدة والمخاطبة وتسويقهم كمخلّصين اصلاحين ولولاهم لما نزل القطر، وهذا نكوص خطير وتداعي تاريخي يحسب على الفئة النخبوية الا بعض الحالات الفردانية التنويرية التي اسهمت على مدى القرن الماضي بشكل يحسب لها ولكنها تبقى ضمن الاصلاح الذاتي بعيدا عن الاصلاح الموضوعي ولم تعالج الاحداث وتغتنم الفرص لتعلن انقلابا فكريا، هذا الوهن والضعف ادى الى تنامي جماعات واحزاب الاسلام السياسي بمسيمات الاخوان والسلفية والدعوية والمقاومة والممانعة والحركات والفصائل والحشود المسلحة وانتشرت وبشكل غير مسبوق الرايات المجندة واصبحت قوة فاعلة على الارض تمكنت من تحويل واستثمار ما يسمى بالربيع العربي الذي وأد والى الابد شمولية التيار القومي ليصبح اليوم مجرد نكته سمجة وشعار فارغ ليس الا، فانتعش بذلك المد الاسلاموي الاصولي وتربع الاسياد على العروش المترفة كما اعتلى الاذناب المنابر وانتشر الخطاب الديني المأزوم بالمذهبية والطائفية وتعاظم النفوذ المالي والاعلامي لتثبيت السلطة حتى وان كان ذلك تحت الاطر الديمقراطية الشكلانية والتي افشلت اي مسعى استراتيجي لتكوين دولة وهوية فكرية سياسية بينما رسخت دعم الهويات الفرعيه من خلال ممارسات التدين والطقوسية الشعائرية لافراغ العقل الجمعي الشعبوي ليكون بذلك اكبر مهزلة في العصر الحديث .
وتبقى الجدليات المعمقة الخالدة في أسفار الموروث العروبي الاسلاموي ومدوناته وشخوصه مصدر قلق الواجهات الثيوقراطية والزعامات الارثية والادوات السياسية وتهز عروشهم .. ما الذي تحقق فعلا من الانجازات على مدى قرن من الزمان في اطار مفاهيم تكوين الدولة المعاصرة وعلى مستوى المفاهيم الفكرية المجتمعية والانسانية وعلى مستوى التقييم والمعايير الحديثة وعلى مستوى الدراسات الاستراتيجية ؟ اين نحن من التحولات الكبيرة التي حصلت في البلدان المتقدمة على المستويات الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية ؟ اين الموارد الاثرائية الكبيرة ولماذا لم تحقق اي تاثير ملموس على تنمية الفرد العربي المسلم الا في حالات ضيقة لا يمكن حسابها ضمن المستوى العام ؟ مالذي تحقق على مستوى المنظومات الامنية وتفكيك الصراعات السياسية والاثنية والمذهبية ؟ بالتاكيد لن يتمكنوا من رد الحجة القائمة عليهم بسبب الابقاء والانطواء على التأصل بالارث من اجل التسلط والاثراء حتى انهم اصبحوا من المعرقلات الاساسية لقيام دولة المؤسسات والحقوق والواجبات والحريات القانونية على اساس العدالة الاجتماعية … في الوقت الذي يمكن مقاربة مفهوم الدولة وفق المنطلقات النظرية بشكل بسيط وربط توصيفها بتوظيف انتاجي يشترك فيه ثلاث مكونات، البيئة والادارة والجمهور على ان يتم ذلك وفق فكر مهني تخطيطي لاعقائدي ولا ايديولوجي يتعمق في الانتاج المادي والحضري والثقافي لتاسيس هوية تكاملية لا تعترف بالارث والنسب والدين وطبعا ستكون اليات الحكم هي التداول السلمي للسلطة وفق مفهوم (فكر الدولة) .. ولكن ضمن المنطلقات التطبيقية فان بيئة منطقة الشرق الاوسط اكبر طاردة ومعرقلة ومصارعة لذلك المفهوم .. فلا يمكن ان تنجح اي تجربة ديمقراطية لمنظومة الدولة وهناك منظومة فقهية حاكمية اصولية تتمتع بسلطات تشريعية تعبر الحدود بمسميات الخلافة والولاية والعلماء الربانيين والمراجع المقدسة .. ثم هناك تلك المنظومة المجتمعية باسم المشايخ والرئاسة القبلية العشائرية .. ثم هناك تلك المنظومة الملكية والاميرية ؟ كل تلك المنظومات تقع ضمن حبل الارث الممدود وتمنع وبشتى الوسائل الاعلامية والقمعية اي تحول من سلطة الدين والاعراف والتقاليد الى سلطة القانون وهندسة التطبيق الاجتماعي باطار الفرد المتجرد من كل تلك التبعيات والقيود المفروضة عليه ليتمكن من الانطلاق نحو الابداع الفكري والانتاجي وفي مجمل الانساق والمحاور الانسانية لتاسيس ارث حضاري مرموق للاجيال القادمة وفق رؤى ومنطلقات عصرية بدلا من تقديس الاجداث وتعظيم الانساب وتبجيل الاصحاب واستحضار الغيبيات في واقع محتضر هو في الدرك الاسفل من السقوط لا شك في ذلك ولا ريب .
وفي بدايات القرن الاول من الالفية الثالثه لا يحتاج الباحثون والمحللون والمفكرون الى قراءات ودراسات عميقة ليعرفوا بان منطقة الشرق الاوسط ذات بيئه موبوءة بالتاثيرات العقديه الارثية وهي الاسباب المباشرة للصراعات على السلطة .. والمعادلة الثلاثية الفاعلة على ارض الواقع هي تعاظم حركات واحزاب الاسلام السياسي وانتشار مؤشرات الفساد والجماعات التكفيرية الارهابية وكل منها يديم دور الاخر، والتبعية من الاجندات المحلية والاقليمية والعالمية الداعمة لها هي نتاج الحقبة الزمنية التي امدها مئة عام وليس هناك اي آفاق مستقبلية في أتون الاحتراب الذي تفتعله فئة الاسياد بالقطعان من فئة الغوغاء .. وفي وسط هذا التدهور والانحطاط يجب على الباحثين والمفكرين والكتاب التنويريين ان يغلقوا وبشكل نهائي اي محاولات اصلاحية او نقدية تهادن او تتماهى مع التقليد النمطي وان تُفعّل وبشكل منهجي المؤسسات والمنظمات المعاصرة لاحداث الانفجار الكبير على مستوى الفكر والسلوك وبأطار المنهجية التجذيرية والتي تمتد الى القواعد التاسيسية لدحضها لتكوين ارتدادات صادمة مدوية في الاوساط الجماهيرية العامة وترتيب حراكها ضمن خطط تكتيكية واستراتيجية تمهد الى حقبة تاريخية تمحق الصنمية المقدسة وما يلحق بها من مؤسسات ومدارس وجامعات وحوزات وتحصر تفاعلها بالجانب الروحي وربطها بمعادلات قانونية تكسر حواجز الفئوية المتسيدة باسم التدين واسقاط المنهجية الفكرية الولائية والخلفائية والى الابد .. ويبدو ان الصدع قد حصل فعلا في المنظومات الحكومية العقائدية الارثية وان التمرد الذي يطالب باسقاط الموقّعين باسم رب العالمين قد اصبح واقعا وان التنوير قادم لا محالة وستمتد تاثيراته باسرع من التصورات الواقعية فهذه صيرورة حتمية على النخب ان تؤمن بها وان تدق مسامير النعوش لاسياد العروش .. فأن ارادت الشعوب ان تخرج من الفناء التقليدي الى الابداع الفكري .. فلابد للإرث ان ينكسر .